الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يحصل بمملوك ولا بحيوان غيره؛ لأنه يذهب ويرجع إلى مكانه من مسيرة ألف فرسخ فما دونها وتنهى الأخبار والأغراض والمقاصد التي تتعلق بها مهمات الممالك والدول، والقيمون بأمرها يعتنون بأنسابها اعتناءً عظيمًا فيفرقون بين ذكورها وإناثها وقت التسافد وتنقل الذكور عن إناثها إلى غيرها، والإناث عن ذكورها ويخافون عليها من فساد أنسابها وحملها من غيرها، ويتعرفون صحة طرقها ومحلها لا يأمنون أن تفسد الأنثى ذكرًا من عرض الحمام فتعتريها الهجنة، والقيمون بأمرها لا يحفظون أرحام نسائهم ويحتاطون لها كما يحفظون أرحام حمامهم، ويحتاطون لها، والقيمون لهم في ذلك قواعد وطرق يعتنون بها غاية الاعتناء بحيث إذا رأوا حمامًا ساقطًا لم يخف عليهم حسبها ونسبها وبلدها ويعظمون صاحب التجربة والمعرفة، وتسمح أنفسهم بالجعل الوافر له ويختارون لحمل الكتب والرسائل الذكور منها، ويقولون هو أحسن إلى بيته لمكان أنثاه وهو أشد متنًا وأقوى بدنًا وأحسن اهتداءً، وطائفة منهم يختار لذلك الإناث ويقولون: الذكر إذا سافر وبعد عهده حن إلى الإناث وتاقت نفسه إليهن، فربما رأى أنثى في طريقه ومجيئه فلا يصبر عنها فيترك المسير ومال إلى قضاء وطره منها وهدايته على قدر التعليم والتوطين، والحمام موصوف باليمن والأُلف للناس، ويحب الناس ويحبونه، ويألف المكان ويثبت على العهد والوفاء لصاحبه وإن أساء إليه، ويعود إليه من مسافات بعيدة وربما صد فترك وطنه عشر حجج وهو ثابت على الوفاء (1).
الوجه الحادي والعشرون:
الإنسان يتعلم من الحيوان
ات، فلماذا لا نعترف أن للحيوان قيمة وقدرًا
؟ !
الإنسان يتعلم من الحيوان:
قال محمد محمد معافي: فضل اللَّه تعالى الإنسان على كثير من مخلوقاته وميزه عليها، ولكن بعض الكائنات تتفوق على الإنسان في بعض صفاتها وأخلاقها ويحتاج الإنسان لأن يتعلم من هذه المخلوقات كثيرًا من هذه الصفات الغائبة عن كثير من الناس، وقد تكلم
(1) شفاء العليل (71).
ابن القيم على هذا التفوق الخلقي لبعض الكائنات والتي بحاجة لأن يتعلمها بنو البشر فيقول: وكثير من العقلاء يتعلم من الحيوانات البهم أمورًا تنفعه في معاشه، وأخلاقه، وصناعته، وحربه، وحزمه، وصبره، وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس قال تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} ، قال أبو جعفر الباقر: واللَّه ما اقتصر على تشبيهم بالأنعام حتى جعلهم أضل سبيلًا منها.
فمن هدى الأنثى من السباع إذا وضعت ولدها أن ترفعه في الهواء أيامًا تهرب به من الذر والنمل؛ لأنها تضعه كقطعة من لحم فهي تخاف عليه الذر والنمل، فلا تزال ترفعه وتضعه وتحوله من مكان إلى مكان حتى يشتد. وقال ابن الأعرابي: قيل لشيخ من قريش: من علمك هذا كله وإنما يعرف مثله أصحاب التجارب والتكسب؟ قال: علمني اللَّه الذي علَّم الحمامة تقلب بيضها حتى تعطي الوجهين جميعًا نصيبهما من حضانتها، ولخوف طباع الأرض على البيض إذا استمر على جانب واحد. وقيل لآخر: من علمك اللجاج في الحاجة والصبر عليها وإن استعصت حتى تظفر بها؟ قال: من علم الخنفساء إذا صعدت في الحائط تسقط ثم تصعد ثم تسقط مرارًا عديدة حتى تستمر صاعدة. وقيل لآخر: من علمك البكور في حوائجك أول النهار لا تخل به؟ قال: من علم الطير تغدو خماصًا كل بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها لا تسأم ذلك ولا تخاف ما يعرض لها في الجو والأرض. وقيل لآخر: من علمك السكون والتحفظ والتماوت حتى تظفر بأربك، فإذا ظفرت به وثبت وثوب الأسد على فريسته؟ فقال: الذي علم السهر أن ترصد جحر الفأرة فلا تتحرك ولا تتلوى ولا تختلج كأنها ميتة حتى إذا برزت لها الفأرة وثبت عليها كالأسد. وقيل لآخر: من علمك الصبر والجلد والاحتمال وعدم السكون؟ قال: من علم أبا أيوب صبره على الأثقال والأعمال الثقيلة والمشي والتعب: الجمل وضربه، وكل الثقل على ظهره ومرارة الجوع والعطش في كبده وجهد التعب والمشقة ملأ جوارحه، ولا يعدل به ذلك عن الصبر. وقيل لآخر: من علمك حسن الإيثار والسماحة بالبذل؟ قال: من علم الديك يصادف الحبة في الأرض وهو يحتاج إليها فلا يأكلها بل
يستدعي الدجاج ويطلبهن طلبًا حثيثا؛ حتى تجيء الواحدة منهن فتلقطها وهو مسرور بذلك طيب النفس به، وإذا وضع له الحب الكثير فرقه هاهنا وهاهنا وإن لم يكن هناك دجاج؛ لأن طبعه قد ألف البذل والجود، فهو يرى من اللؤم أن يستبد وحده بالطعام. وقيل لآخر: من علمك هذا التحيل في طلب الرزق ووجوه تحصيله؟ قال: من علم الثعلب تلك الحيل التي يعجز العقلاء عن علمها وعملها؛ وهي أكثر من أن تذكر، ومن علم الأسد إذا مشى وخاف أن يقتفي أثره ويطلب عفي أثر مشيته بذنبه، ومن علمه أن يأتي إلى شبله في اليوم الثالث من وضعه فينفخ في منخريه؛ لأن اللبؤة تضعه جروا كالميت؛ فلا تزال تحرسه حتى يأتي أبوه فيفعل به ذلك، ومن ألهم كرام الأسود وأشرافها أن لا تأكل إلا من فريستها وإذا مر بفريسة غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع، ومن علم الأسد أن يخضع للبر ويدلس له إذا اجتمعا حتى ينال منه له، ومن عجيب أمره أنه إذا استعصى عليه شيء من السباع دعا الأسد فأجابه إجابة المملوك لمالكه، ثم أمره فربض بين يديه فيبول في أذنيه، فإذا أراد السباع ذلك أذعنت له بالطاعة والخضوع، ومن علم الثعلب إذا اشتد به الجوع أن يستلقي على ظهره ويختلس نفسه إلى داخل بدنه حتى ينتفخ فيظن الظان أنه ميتة، فيقع عليه فيثب على من انقضى عمره منها، ومن علمه إذا أصابه صدع أو جرح أن يأتي إلى صبغ معروف فيأخذ منه ويضعه على جرحه كالمرهم، ومن علم الدب إذا أصابه كلم أن يأتي إلى نبت قد عرفه وجهله صاحب الحشائش فيتداوى به فيبرأ، ومن علم الأنثى من الفيلة إذا دنا وقت ولادتها أن تأتي إلى الماء فتلد فيه؛ لأنها دون الحيوانات لا تلد إلا قائمة؛ لأن أوصالها على خلاف أوصال الحيوان وهي عالية فتخاف أن تسقطه على الأرض فينصدع أو ينشق، فتأتي ما وسطها تضعه فيه فيكون كالفراش اللين والوطاء الناعم، ومن علم الذباب إذا سقط في مائع أن يتقي بالجناح الذي فيه الداء دون الآخر، ومن علم الكلب إذا عاين الظباء أن يعرف المعتل من غيره، والذكر من الأنثى فيقصد الذكر مع علمه بأن عدوه أشد وأبعد وثبة، ويدع الأنثى على نقصان عدوها لأنه قد علم أن الذكر إذا عدا شوطًا أو شوطين حقن ببوله؛ وكل حيوان إذا اشتد فزعه فإنه يدركه الحقن،
وإذا حقن الذكر لم يستطع البول مع شدة العدو فيقل عدوه فيدركه الكلب، وأما الأنثى فتحذف بولها لسعة القبل وسهولة المخرج فيدوم عدوها، ومن علمه أنه إذا كسا الثلج الأرض أن يتأمل الموضع الرقيق الذي قد انخسف فيعلم أن تحته جحر الأرنب فينبشه ويصطادها علما منه بأن حرارة أنفاسها تذيب بعض الثلج فيرق، ومن علم الذئب إذا نام أن يجعل النوم نوبًا بين عينيه فينام بإحداها حتى إذا نعست الأخرى نام بها وفتح النائمة حتى إذا قال بعض العرب:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي
…
بأخرى المنايا فهو يقظان نائم
ومن علم العصفور إذا سقط فرخها أن تستغيث فلا يبقى عصفور بجوارها حتى يجيء فيطيرون حول الفرخ ويحركونه بأفعالهم ويحدثون له قوة وهمة وحركة حتى يطير معهم، قال بعض الصيادين: ربما رأيت العصفور على الحائط فأومئ بيدي كأني أرميه فلا يطير، وربما أهويت إلى الأرض كأني أتناول شيئًا فلا يتحرك؛ فإن مسست بيدي أدنى حصاة أو حجر أو نواة طار قبل أن تتمكن منها يدي، ومن علم الحمامة إذا حملت أن تأخذ هي والأب في بناء العش وأن يقيما له حروفًا تشبه الحائط ثم يسخناه ويحدثا فيه طبيعة أخرى ثم يقلبان البيض في الأيام، ومن قسم بينهما الحضانة والكد فأكثر ساعات الحضانة على الأنثى، وأكثر ساعات جلب القوت على الأب، وإذا خرج الفرخ علما ضيق حوصلته عن الطعام فنفخا فيه نفخًا متداركًا حتى تتسع حوصلته، ثم يزقانه اللعاب أو شيئًا قبل الطعام وهو كاللبن للطفل، ثم يعلمانه احتياج الحوصلة إلى دباغ، فيزقانه من أصل الحيطان من شيء بين الملح والتراب تندبغ به الحوصلة فإذا اندبغت زقاه الحب، فإذا علما أنه أطاق اللقط منعاه الزق على التدريج فإذا تكاملت قوته وسألهما الكفالة ضرباه، ومن علمهما إذا أراد السفاد أن يبتدئ الذكر بالدعاء فتتطارد له الأنثى قليلًا لتذيقه حلاوة المواصلة، ثم تطيعه في نفسها ثم تمتنع بعض التمنع ليشتد طلبه وحبه، ثم تتهادى وتتكسل وتريه معاطفها، وتعرض محاسنها، ثم يحدث بينهما من التغزل، والعشق، والتقبيل، والرشف ما هو مشاهد بالعيان، ومن علم المرسلة منها إذا