الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يصيب بها من يشاء ويحفظ بها من يشاء" (1).
أَمَا سَمِعَ نوابغُ العصر أصحاب (تيموثاوس) أن الذين نزلوا على سطح القمر رأوا هناك جهات ساكنة نارها، وأخرى ملتهبة؟ وأنهم رأوا الأرض مشعة كما نرى نحن القمر فكأنها قطعًا باردة ولكنها مضيئة؟ وأن الفضاء مليء بقطع نارية سابحة، ومنها ما يصل إلى الأرض.
قال تعالى في سورة الحجر: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} (الحجر: 16 - 18) فالبروج بقيت في مكانها، والذي تحرك هو الشهاب، وتأمل ما ورد في سورة (الصافات: 6 - 10): {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} فالذي (أتْبَعَ) الشيطانَ الماردَ ليس الكوكب [المذكور في الآية رقم (6)]، بل الشهاب [المذكور في الآية رقم (10)].
الوجه الخامس: هل لفظ النجوم لغة هو لفظ النجوم إصطلاحًا
؟
لا يشترط أن تكون النجوم المذكورة في القرآن الكريم هي عينها ما اتفق عليه اصطلاح الناس حديثًا؛ بأنها ذلك الجرم الكوني الضخم الغازي المضيء بذاته كالشمس. (2) بعكس سائر الأجرام المعتمة كالكواكب والأقمار، فيجوز أن يكون المقصود بالنجم -لغة لا اصطلاحًا-: كل جسم صلب يسبح في الفضاء. جاء في العين: "النَّجمُ: اسم يقعُ على الثُّريا، وكلِّ منزلٍ من منازلِ القمر سمِّي نجمًا. وكل كوكب من أعلام الكواكب يُسمى نجمًا، والنُّجومُ تَجمَعُ الكواكب كلَّها"(3).
الوجه السادس: بيان علماء التفسير لتوضيح الفرق بين النجوم والشهب في الآياتِ
.
فَمَرَدُّ الشبهة أن الشهب تسمى وفق الرؤية الظاهرية بالنجوم المارقة أو الهاوية
(1) رد مفتريات على الإسلام لعبد الجليل شلبي (ص 132).
(2)
انظر: الموسوعة العربية العالمية؛ إعداد مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر، الرياض، 1996 م، 25/ 125 (نجم).
(3)
العين للخليل بن أحمد (2/ 529) باب الجيم والنون والميم معهما.
(Shooting or Falling Stars)، ووفق ما سجلته المعاجم لا تميز لغةُ العرب بين النجم والكوكب، بينما ميز القرآن الكريم بينهما على نحو يتفق مع الواقع كما في المصطلح العلمي الحديث، ووصف القرآن الكريم الشهب بالتوهج بلفظ (مصابيح) على نحو يتفق مع كونها ظاهرة ضوئية؛ قال تعالى:{وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)} (فصلت: 12) وقال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} (الملك: 5) ومرد الإشكال إلى الفهم بأن الشهب المعبر عنها في الآيتين الكريمتين تشبيهًا بالمصابيح لتوهجها هي النجوم الثوابت، ولكن المحققين قد دفعوا هذا الوهم وقالوا بأن النجوم ثوابت في مواقعها لا ينقص عددها، وإنما المراد هو الشهب دونها كما صرح بذلك القرآن الكريم نصًا.
قال الخازن: ليس المراد أنهم يرمون بأجرام الكواكب.
وقال ابن عاشور: والذي جُعل رُجومًا للشياطين هو بعض النجوم التي تبدو مضيئة، ثم تلوح منقَضَّة؛ وتسمى الشُهُب (1).
وقال الرازي: هذه الرجوم إنما تحدث بالقرب من الأرض بدليل أنا نشاهد حركتها بالعين. (2)
وقال: ولو كانت هذه الشهب هي تلك الكواكب الحقيقية لوجب أن يظهر نقصان كثير من أعداد كواكب السماء، ومعلوم أن هذا المعنى لم يوجد البتة؛ فإن أعداد كواكب السماء باقية في حالة واحدة من غير تغير البتة، فهذه الشهب جنس آخر غير الكواكب. . . فالضمير في قوله:{وَجَعَلْنَاهَا} عائد إلى المصابيح، فوجب أن تكون تلك المصابيح هي الرجوم بأعينها.
فإن هذه الشهب غير تلك الثواقب الباقية، وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
(1) التحرير والتنوير (15/ 203).
(2)
مفاتيح الغيب (15/ 402).
بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} فنقول: كل نير يحصل في الجو العالى فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها ما تبقى على وجه الدهر آمنة من التغير والفساد، ومنها ما لا يكون كذلك، وهي هذه الشهب التي يحدثها اللَّه تعالى، ويجعلها رجومًا للشياطين، وبهذا التقدير فقد زال الإشكال (1).
وقال الألوسي:
وإطلاق الرجوم على النجوم، وقولهم: رمي بالنجم يحتمل أن يكون مبنيًا على الظاهر للرائي، كما في قوله تعالى في الشمس:{تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} وهذه الشهب ليست هي الثوابت، وإلا لظهر نقصان كبير في أعدادها، بل هي جنس آخر غيرها يحدثها اللَّه تعالى، ويجعلها رجومًا للشياطين، ولا يأباه قوله تعالى:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} حيث أفاد أن تلك المصابيح هي الرجوم بأعيانها؛ لأنا نقول: كل نير يحصل في الجو العالى فهو مصباح لأهل الأرض، والشهب من هذا القسم، وحينئذ يزول الإشكال (2).
وقال أيضًا: {وشِهَابٌ} هو في الأصل الشعلة الساطعة من النار الموقدة، والمراد به العارض المعروف في الجو الذي يرى كأنه كوكب منقض من السماء {ثَاقِبٌ} مضيء، كما قال الحسن وقتادة كأنه ثقب الجو بضوئه، وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم؛ عن يزيد الرقاضي أنه قال: يثقب الشيطان حتى يخرج من الجانب الآخر. فذكر ذلك لأبب مجلز فقال: ليس ذاك؛ ولكن ثقوبه ضوؤه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد {الثَّاقِبُ} المتوقد وهو قريب مما تقدم. وأخرج عن السدي {الثَّاقِبُ} المحرق.
وليست الشهب نفس الكواكب التي زينت بها السماء فإنها لا تنقض وإلا لانتقصت زينة السماء بل لم تبق، على أن المنقض إن كان نفس الكواكب بمعنى أنه ينقلع عن مركزه
(1) مفاتيح الغيب 13/ 106.
(2)
روح المعاني 9/ 466.
ويُرمى به الخاطف فيرى لسرعة الحركة كرمح من نار لزم أن يقع على الأرض؛ وهو إن لم يكن أعظم منها فلا أقل من أن ما انقض من الكواكب من حين حدث الرمي إلى اليوم أعظم منها بكثير؛ فيلزم أن تكون الأرض اليوم مغشية بأجرام الكواكب، والمشاهدة تكذب ذلك بل لم نسمع بوقوع جرم كوكب أصلًا.
وأصغر الكواكب عند الإسلاميين كالجبل العظيم، وعند الفلاسفة أعظم وأعظم بل صغار الثوابت عندهم أعظم من الأرض وإن التزم أنه يرمى به حتى إذا تم الغرض رجع إلى مكانه، قيل عليه: إنه حينئذٍ يلزم أن يسمع لهويه صوت هائل فإن الشهب تصل إلى محل قريب من الأرض، وأيضًا عدم مشاهدة جرم كوكب هابطًا أو صاعدًا يأبى احتمال انقلاع الكوكب والرمي به نفسه، وإن كان المنقض نوره فالنور لا أذى فيه فالأرض مملوءة من نور الشمس وحشوها الشياطين، على أنه إن كان المنقض جميع نوره يلزم انتقاص الزينة أوذهابها بالكلية، وإن كان بعض نوره يلزم أن تتغير أضواء الكواكب ولم يشاهد في شيء منها ذلك، وأمر انقضاضه نفسه أوانفصال ضوئه على تقدب كون الكواكب الثوابت في الفلك الثامن المسمى بالكرسي عند بعض الإسلاميين وأنه لا شيء في السماء الدنيا سوى القمر أبعد وأبعد. والفلاسفة يزعمون استحالة ذلك لزعمهم عدم قبول الفلك الخرق والالتئام إلى أمور أخر، ويزعمون في الشهب أنها أجزاء بخارية دخانية لطيفة وصلت كرة النار فاشتعلت وانقلبت نارًا ملتهبة، فقد تُرى ممتدة إلى طرف الدخان، ثم تُرى كأنها طفئت وقد تمكث زمانًا كذوات الأذناب وربما تتعلق بها نفس على ما فصلوه، وهم مع هذا لا يقولون بكونها ترمي بها الشياطين بل هم ينكرون حديث الرمي مطلقًا، وفي النصوص الإلهية رجوم لهم.
ولعل أقرب الاحتمالات في أمر الشهب أن الكوكب يقذف بشعاع من نوره فيصل أثره إلى هواء متكيف بكيفية مخصوصة يقبل بها الاشتعال بما يقع عليه من شعاع الكوكب بالخاصية فيشتعل فيحصل ما يشاهد من الشهب، وإن شئت قلت: إن ذلك الهواء المتكيف
بالكيفية المخصوصة إذا وصل إلى محل مخصوص من الجو أثرت فيه أشعة الكواكب بما أودعه اللَّه تعالى فيها من الخاصية فيشتعل فيحصل ما يحصل، وتأثير الأشعة الحرق في القابل له مما لا ينكر فإنا نرى شعاع الشمس إذا قوبل ببعض المناظر على كيفية مخصوصة أحرق قابل الإحراق ولو توسط بين المنظرة وبين القابل إناء بلور مملوء ماء، ويقال: إن اللَّه تعالى يصرف ذلك الحاصل إلى الشيطان المسترد اللسمع وقد يحدث ذلك وليس هناك مسترق، ويمكن أن يقال: إنه سبحانه يخلق الكيفية التي بها يقبل الهواء الإحراق في الهواء الذي في جهة الشيطان.
ولعل قرب الشيطان من بعض أجزاء مخصوصة من الهواء معد بخاصية أحدثها اللَّه تعالى فيه لخلقه عز وجل تلك الكيفية في ذلك الهواء القريب منه، مع أنه عز وجل يخلق تلك الكيفية في بعض أجزاء الهواء الجوية حيث لا شيطان هناك أيضًا.
وإن شئت قلت: إنه يخرج شؤبوب من شعاع الكوكب فيتأذى به المارد أو يحترق، واللَّه عز وجل قادر على أن يحرق بالماء ويروي بالنار، والمسببات عند الأسباب لا بها وكل الأشياء مسندة إليه تعالى ابتداءً عند الأشاعرة، ولا يلزم على شيء مما ذكر انتقاص ضوء الكوكب، ولو سلم أنه يلزم انتقاص على بعض الاحتمالات! قلنا: إنه عز وجل يخلق بلا فصل في الكوكب بدل ما نقص منه، وأمره سبحانه إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون.
ولا ينافي ما ذكرنا قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} (الملك: 5)؛ لأن جعلها رجومًا يجوز أن يكون لأنه بواسطة وقوع أشعتها على ما ذكرنا من الهواء تحدث الشهب فهي رجوم بذلك الاعتبار، ولا يتوقف جعلها رجومًا على أن تكون نفسها كذلك بأن تنقلع عن مراكزها ويرجم بها، وهذا كما تقول: جعل اللَّه تعالى الشمس يحرق بها بعض الأجسام فإنه صادق فيما إذا أحرق بها بتوسيط بعض المناظر وانعكاس شعاعها على قابل الإحراق.
وزعم بعض الناس أن الشهب شعل نارية تحدث من أجزاء متصاعدة إلى كرة النار
وهي الرجوم ولكونها بواسطة تسخين الكواكب للأرض قال سبحانه: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا} على التجوز في إسناد الجعل إليها أو في لفظها، ولا يخفي أن كرة النار مما لم تثبت في كلام السلف ولا ورد فيها عن الصادق -عليه والصلاة والسلام- خبر، وقيل: يجوز أن تكون المصابيح هي الشهب وهي غير الكواكب وزينة السماء بالمصابيح، لا يقتضي كونها فيها حقيقة إذ يكفي كونها في رأي العين كذلك، وقيل: يجوز أن يراد بالسماء جهة العلو وهي مزينة بالمصابيح والشهب كما مزينة بالكواكب. وتعقب هذا بأن وصف السماء بالدنيا يبعد إرادة الجهة منها، وتعقب ما قبله بأن المتبادر أن المصابيح هي الكواكب ولا يكاد يفهم من قوله تعالى:{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} (الصافات: 6)، وقوله سبحانه:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} (الملك: 5) إلا شيء واحد، وأن كون الشهب المعروفة زينة السماء مع سرعة تقضيها وزوالها وربما دهش من بعضها مما لا يسلم، والقول بأنه يجوز إطلاق الكوكب على الشهاب للمشابهة؛ فيجوز أن يراد بالكواكب ما يشمل الشهب وزينة السماء على ما مَرَّ آنفًا زيد فيه على ما تقدم ما لا يخفي ما فيه، نعم. . يجوز أن يقال: إن الكوكب ينفصل منه نور إذا وصل إلى محل مخصوص من الجو انقلب نارًا ورؤي منقضًا ولا يعجز اللَّه عز وجل شيء، وقد يقال: إن في السماء كواكب صغارًا جدًا غير مرئية ولو بالأرصاد لغاية الصغر وهي التي يرمي بها أنفسها، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} (الملك: 5) من باب عندي درهم ونصفه، و {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا} (الصافات: 6، 7) الآية، إن كان على معنى: وحفظًا بها فهو من ذلك الباب أيضًا وإلا فالأمر أهون فتدبر.
واختلف في أن المرجوم هل يهلك بالشهاب إذا أصابه أو يتأذي به من غير هلاك، فعن ابن عباس: أن الشياطين لا تقتل بالشهاب ولا تموت ولكنها تحرق وتخبل أي يفسد منها بعض أعضائها، وقيل: تهلك وتموت، ومتى أصاب الشهاب من اختطف منهم كلمة قال للذي يليه كان كذا وكذا قبل أن يهلك.
وأيًّا ما كان لا يقال: إن الشياطين ذوو فطنة؛ فكيف يعقل منهم العود إلى استراق السمع مرة بعد مرة مع أن المسترق يهلك أو يتأذى الأذى الشديد واستمرار انقضاض الشهب دليل استمرار هذا الفعل منهم؛ لأنا نقول: لا نلزم استمرار هذا الفعل منهم، واستمرار الانقضاض ليس دليلًا عليه؛ لأن الانقضاض يكون للاستراق ويكون لغيره، فقد أشرنا فيما سبق أن الهواء قد يتكيف بكيفية مخصوصه فيحترق بسبب أشعة الكواكب وإن لم يكن هناك مسترق، وقيل: يجوز أن ترى الشهب لتعارض في الأهوية واصطكاك يحصل منه ما ترى كما يحصل البرق باصطكاك السحاب على ما روي عن بعض السلف وحوادث الجولا يعلمها إلا اللَّه تعالى، فيجوز أن يكونوا قد استرقوا أو، فشاهدوا ما شاهدوا فتركوا واستمرت الشهب تحدث لما ذكر لا لاستراق الشياطين، ويجوز أن يقع أحيانًا ممن حدث منهم ولم يعلم بما جرى على رؤوس المسترقين قبله، أو ممن لا يبالى بالأذى ولا بالموت حبًا لأن يقال: ما أجسره أو ما أشجعه مثلًا كما يشاهد في كثير من الناس يقدمون في المعارك على ما يتيقنون هلاكهم به حبًا لثل ذلك، ولعل في وصف الشياطين بالمارد ما يستأنس به لهذا الاحتمال، وأما ما قيل: إن الشهاب قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولذلك لا يرتدعون عنه رأسًا فخلاف المأثور، فقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عن أن عباس رضي الله عنهم قال: إذا رمي بالشهاب لم يخطىء من رمي به.
هذا وقد استشكل أمر الاستراق بأمور؛ منها: أن الملائكة في السماء مشغولون بأنواع العبادة؛ أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد فماذا تسترق الشياطين منهم؟
وإذا قيل: إن منهم من يتكلم بالحوادث الكونية فهم على محدبها، والشياطين تسترق تحت مقعرها وبينهما كما صح في الأخبار خمسمائة عام فكيف يتأتى السماع لا سيما والظاهر أنهم لا يرفعون أصواتهم إذا تكلموا بالحوادث إذ لا يظهر غرض برفعها، وعلى تقدير أن يكون هناك
رفع صوت فالظاهر أنه ليس بحيث يسمع من مسيرة خمسمائة عام، وعلى تقدير أن يكون بهذه الحيثية فكرة الهواء تنقطع عند كرة النار ولا يسمع صوت بدون هواء؟
وأجيب بأن الاستراق من ملائكة العنان وهم يتحدثون فيما بينهم بما أمروا به من السماء من الحوادث الكونية، و {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} (الجن: 8) طلبنا خبرها أو من الملائكة النازلين من السماء بالأمر فإن ملائكة على أبواب السماء ومن حيث ينزلون يسألونهم بماذا تذهبون؟ فيخبرنهم، وليس الاستراق من الملائكة الذين على محدب السماء.
وأمر كرة النار لا يصح، والهواء غير منقطع وهو كلما رق ولطف كان أعون على السماع، على أن وجود الهواء مما لا يتوقف عليه السماع على أصول الأشاعرة، ومثله عدم البعد المفرط، وظاهر خبر أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة أن الاستراق من الملائكة في السماء قال:"إذا قضى اللَّه تعالى أمرًا تكلم تبارك وتعالى فتخر الملائكة كلهم سجدًا فتحسب الجن أن أمرًا يقضي فتسترق، فإذا عن قلوب الملائكة عليهم السلام ورفعوا رؤوسهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا جميعًا: الحق وهو العلي الكبير". وجاء في خبر أخرجه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر؛ عن إبراهيم التيمي: "إذا أراد ذو العرش أمرًا سمعت الملائكة كجر السلسلة على الصفا فيغشى عليهم فإذا قاموا قالوا: ماذا قال ربكم؟ قال من شاء اللَّه: الحق وهو العلي الكبير.
ولعله بعد هذا الوجه يذكر الأمر بخصوصه فيما بين الملائكة عليهم السلام، وظاهر ما جاء في بعض الروايات عن ابن عباس من تفسير الملأ الأعلى بكتبة الملائكة عليهم السلام أيضًا أن الاستراق من ملائكة في السماء إذ الظاهر أن الكتبة في السماء، ولعله يتلى عليهم من اللوح ما يتلى فيكتبونه لأمر ما فتطمع الشياطين باستراق شيء منه، وأمر البعد كأمر الهواء لا يضر في ذلك على الأصول الأشعرية، ويمكن أن يُدَّعَى أن جرم السماء لا يحجب الصوت وإن كثف، وكم خاصية أثبتها الفلاسفة للأفلاك! ليس عدم الحجب أغرب منها.