الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (1).
{فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} أي: وجعلنا على ذلك ما يستره ويشده ويقويه، {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} أي: ثم نفخنا فيه الروح فتحرك وصار {خَلْقًا آخَرَ} ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} .
وروى ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إذا أتمت النطفة أربعة أشهر بُعِث إليها مَلك فنفخ فيها الروح في الظلمات الثلاث، فذلك قوله:{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} يعني: نفخنا فيه الروح. ورُوي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه نَفْخُ الروح.
قال ابن عباس رضي الله عنه: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} يعني به: الروح، وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والشعبي، والحسن، وأبو العالية، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي، وابنُ زيد، واختاره ابنُ جرير (2).
وقال العَوْفِيّ، عن ابن عباس رضي الله عنه:{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} يعني: ننقله من حال إلى حال، إلى أن خرج طفلًا ثم نشأ صغيرًا، ثم احتلم، ثم صار شابًّا، ثم كهلًا ثم شيخًا، ثم هرمًا.
وعن قتادة، والضحاك نحو ذلك، ولا منافاة؛ فإنه من ابتداء نفخ الروح فيه شَرَع في هذه التنقلات والأحوال، واللَّه أعلم.
الوجه الرابع: الرد على من اعترض على إمكانية خلق الإنسان من طين
.
حيث قال: بأن الطين هو سليكات الألمونيوم، وهو مادة لا تذوب في الماء، ومن ثم لا يمكن أن تدخل في تركيب جسم الإنسان؟ ! فنجيب بأمور:
1 -
خلق الإنسان من طين لا يستلزم خلقه من كل الطين، وإنما يكفي أنه يخلق من أحد محتويات الطين أو من أحد مكوناته، يشبه ذلك قول أحدنا أنه يسكن في القاهرة أو
(1) رواه البخاري (4935)، ومسلم (2955).
(2)
تفسير الطبري 18/ 9 - 10.
أنه من القاهرة، بمعنى أنه يسكن في حي منها، بل في شارع، بل في منزل واحد.
لهذا قالت (الآية 12) من سورة المؤمنون: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} أي من مواد تتسلل من الطين فهي محتواة فيه، التسلل هو الحركة الخفيفة، واللص المتسلل هو الذي يتحرك فلا يراه أحد؛ صيغة "فعالة" تدل على الشيء يفعل فيه فعل ما، فالسلالة ما يسل ويخرج في خفاء، والسلالة ما يسلت من شيء آخر ويفصل عنه (1).
والخلاصة هي ما يستخلصه وينقي مما يختلط به الطين الذي تتكون حبيباته من سيلكات الألومونيوم فيه مسافات تكون (50%) من حجمه، وتحتوي ما يمكن أن يحرك ويستخلص، وهو "السلالة" التي عرفنا بالوسائل العلمية أنها ماء ذابت فيه غازات وأيونات وجزيئات صغيرة من أصل عضوي وبعض الأملاح.
2 -
ولأهمية المسافات البينية والمسام الموجودة في الطين وصف القرآن هذا الطين {صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} وذلك في الآية 14 من سورة الرحمن.
من ذا الذي لا يعرف أن الإناء الفخاري يتسلل الماء من داخله إلى خارجه فيبخر ليبرد الإناء وما فيه؟ ! ! !
وإذا كان الماء محتويًا على ملح أو سكر مذاب ترسبت بعض بلوراته على السطح الخارجي بعد تسللها من داخله، وقيل حينئذ: إن الإناء نضح بما فيه، وفي الأمثال "كل إناء بما فيه ينضح".
"الصلصلة" هي الرنينن، وهي ترجيع الشيء للصوت إذا نقرت عليه أو قرعته كصلصلة الجرس. "الفخار" الجاف يصلصل لوجود الهواء في مسافاته البينية، بينما لا تسمع صلصلة إذا نقرت على قطعة من الجرانيت الذي تكون سليكات الألمونيوم (60%) منه، وذلك لتراكم حبيباته والتصاقها بغير مسافات بينية، كذلك لا تصلصل قطعة من حجر الإردواز وهو صخر متحول من سليكات الألومنيوم الخالصة فقد قَلَّتْ مسافاته البينية بالحرارة والضغط.
(1) القاموس المحيط للفيروزآبادي (سلل).
3 -
ولكيلا يحدث لبس قال اللَّه تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (الحجر: 26) أي: من حمأ مسنون من الصلصال، وبمقارنة هذه الآية بالآية (12) من سورة المؤمنون ندرك أن (الحمأ المسنون) مرادف أو بديل (السلالة من الطين) وأسلوب التعبير (. . من. . من. .) أسلوب شائع في اللغة العربية، ويقصد به التفسير والتفصيل، فيذكر المتكلم الشيء مجملًا أو كليًا، ثم يتبعه التخصيص أو الجزئي، تقول مثلًا: أنا آتٍ من القاهرة، من الروضة أي: من حي الروضة الذي هو جزء من القاهرة. هذا الأسلوب شائع وكثير الاستعمال في القرآن، من أمثلته ما يأتي:
في الآية (172) من سورة الأعراف: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} أي: أخذ من بني آدم ذريتهم -أخذًا من مكان خاص في ظهورهم، وفي سورة الزخرف آية (33):{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} أي: لجعلنا لمن يكفر بالرحمن سقفًا من فضة هي لهم إجمالًا ولبيتهم تفصيلًا وتخصيصًا.
(الحمأ) سائل يتحرك بين حبيبات التربة الصلصالية، ومنه يتسلل الماء وبعض وبعض ما ذاب فيه إلى جذور النباتات أولًا حيث يتكون منه غذاء وحب وفواكه وثمار يأخذها الإنسان لبناء جسمه ولتعطيه الطاقة، أو يأخذها الحيوان أولًا ليكون منها اللبن والعسل، وما أحله اللَّه من مأكل وشراب للإنسان الذي تصنع به مادة جسمه وتطلق منه طاقة وحرارة.
من الواضح أن ذلك الأسلوب القرآني في التعليم والتعريف يضطر قارئ القرآن أن يتدبر المعاني ويعمل فكره ويتنقل بعقله في مخلوقات اللَّه وكونه ليصل بنفسه إلى ما يهديه إلى الحق، لهذا تتساءل آية قرآنية:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24).
وثمَّ أمر آخر وهو إنه لو أرجعنا الإنسان إلى عناصره الأولية لوجدناه أشبه بمنجم صغير يشترك في تركيبه حوالي (21) عنصرًا تتوزع بشكل رئيسي على:
1 -
أكسجين (O)، هيدروجين (H) على شكل ماء بنسبة 65% - 70% من وزن الجسم.
2 -
كربون (C)، وهيدروجين (H)، وأكسجين (O)، وتشكل أساس المركبات العضوية من سكريات، ودسم، وبروتينات، وفيتامينات، وهرمونات أو خمائر.