الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
التدبير:
قال الزمخشري: فإن قلت: فما الغرض في ذكر ذلك؟ قلت: الدلالة على عظم قدرته، ولطف علمه وسعة سلطانه، وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس المتكاثرة الأصناف؛ وهو حافظ لما لها وما عليها، مهيمن على أحوالها لا يشغله شأن عن شأن، وأن المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان (1).
قال البيضاوي: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} محفوظة أحوالها مقدرة أرزاقها وآجالها، والمقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته، وشمول علمه، وسعة تدبيره؛ ليكون كالدليل على أنه قادر على أن ينزل آية (2).
الوجه التاسع: إجماع العقلاء أن من البشر من قد تدنى في أخلاقه حتى إنه ليشبه في تصرفاته تصرفات بعض الحيوانات، بل قد يكون الحيوان أفضل منه في تلك الحالة، وليس معنى ذلك أنه قد أشبهت خلقته خلقة الحيوان
.
قال ابن القيم: وذلك أن الكلام إذا لم يكن حكمه مطاوعًا لظاهره وجب المصير إلى باطنه، وقد أخبر اللَّه عن وجود المماثلة بين الإنسان وبين كل طائر ودابة وذلك ممتنعٌ من جهة الخلقة والصورة، وعدمٌ من جهة النطق والمعرفة؛ فوجب أن يكون منصرفًا إلى المماثلة في الطباع والأخلاق (3).
وقال أيضًا: من عقوبات المعاصي جعل القلب أعمًى أصمَ أبكمَ، ومنها الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان وما فيه؛ فيخسف به إلى أسفل سافلين وصاحبه لا يشعر؛ وعلامة الخسف به أنه لا يزال جوالًا حول السفليات، والقاذورات، والرذائل، كما أن القلب الذي رفعه اللَّه وقربه إليه لا يزال جوالًا حول البر، والخير، ومعالي الأمور، والأعمال، والأقوال، والأخلاق. قال بعض السلف: إن هذه القلوب جوالة؛ فمنها ما
(1) الكشاف 1/ 357؛ (الأنعام: 38).
(2)
في تفسير 1/ 406؛ (الأنعام: 38).
(3)
شفاء العليل (ص 77).
يجول حول العرش، ومنها ما يجول حول الحشر، ومنها مسخ القلب فيمسخ كما تمسخ الصورة؛ فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعته، فمن القلوب ما يمسخ على قلب خنزير لشدة شبه صاحبه به، ومنها ما يمسخ على خلق كلب، أو حمار، أو حية، أو عقرب، وغير ذلك، وهذا تأويل سفيان بن عيينة في قوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} ؛ قال: منهم من يكون على أخلاق السباع العادية، ومنهم من يكون على أخلاق الكلاب، وأخلاق الخنازير، وأخلاق الحمير، ومنهم من يتطوس في ثيابه لحمًا بتطوس الطاووس في ريشه، ومنهم من يكون بليدًا كالحمار، ومنهم من يؤثر على نفسه كالديك، ومنهم من يألف ويؤلف كالحمام، ومنهم الحقود كالجمل، ومنهم الذي هو خير كله كالغنم، ومنهم أشباه الذئاب، ومنهم أشباه الثعالب التي يروغ كروغانها، وقد شبه اللَّه تعالى أهل الجهل والغي بالحُمُر تارة، وبالكلب تارة، وبالأنعام تارة، وتقوى هذه المشابهة باطنًا حتى تظهر في الصورة الظاهرة ظهورًا خفيًا يراه المتفرسون، ويظهر في الأعمال ظهورًا يراه كل أحد، ولا يزال يقوى حتى تعلو الصورة فنقلب له الصورة بإذن اللَّه وهو المسخ التام؛ فيقلب اللَّه سبحانه وتعالى الصورة الظاهرة على صورة ذلك الحيوان كما فعل باليهود وأشباههم، ويفعل بقوم من هذه الأمة ويمسخ قردة وخنازير، فسبحان اللَّه! كم من قلب منكوس وصاحبه لا يشعر! وقلب ممسوخ! وقلب مخسوف به! وكم من مفتون بثناء الناس عليه ومغرور بستر اللَّه عليه ومستدرج بنعم اللَّه عليه! وكل هذه عقوبات وإهانة ويظن الجاهل أنها كرامة (1).
ثم علق ابن القيم قائلًا: واللَّه سبحان قد جعل بعض الدواب كسوبًا محتالًا، وبعضها متوكلًا غير محتال، وبعض الحشرات يدخر لنفسه قوت سنته، وبعضها يتكل على الثقة بأن له في كل يوم قدر كفايته رزقًا مضمونًا وأمر مقطوعًا، وبعضها لا يعرف ولده البتة،
(1) الجواب الكافي 1/ 82، 83؛ فصل ومن عقوباتها (المعاصي) أنها تزيل النعم الحاضرة.
وبعض الإناث تكفل ولدها لا تعدوه، وبعضها تضيع ولدها وتكفل ولد غيرها وبعضها لا تعرف ولدها إذا استغنى عنها، وبعضها يدخر، وبعضها لا تكسب له، وبعض المذكور يعول ولده، وبعضها لا تزال تعرفه وتعطف عليه، وجعل بعض الحيوانات يُتمها من قبل أمهاتها، وبعضها يُتمها من قبل آبائها، وبعضها لا يلتمس الولد، وبعضها يستفرغ الهم في طلبه، وبعضها يعرف الإحسان ويشكره، وبعضها ليس ذلك عنده شيئ، وبعضها يؤثر على نفسه وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمه من جنسه لم يدع أحدًا يدنوا منه، وبعضها يألف بني آدم ويأنس بهم، وبعضها يستوحش منهم وينفر غاية النفار منه، وبعضها لا يأكل إلا الطيب، وبعضها لا يأكل إلا الخبائث، وبعضها يجمع بين الأمرين، وبعضها لا يؤذي إلا من بالغ في أذاها، وبعضها يؤذي من لا يؤذيها، وبعضهم حقود لا ينسَ الإساءة، وبعضها لا يذكرها البتة، وبعضها لا يغضب، وبعضها يشتد غضبه فلا يزال يسترضى حتى يرضى، وبعضها عنده علم ومعرفة بأمور دقيقة لا يهتدي إليها أكثر الناس، وبعضها لا معرفة له بشيء من ذلك البتة، وبعضها يستقبح القبيح وينفر منه، وبعضها الحسن والقبيح سواءٌ عنده، وبعضها يقبل التعليم بسرعة، وبعضها مع الطول، وبعضها لا يقبل ذلك بحال (1).
وفي المستطرف: فأثبت اللَّه المماثلة بيننا وبين البهائم وذلك إنما هو في الأخلاق خاصة؛ فليس أحد من الخلق إلا وفيه خلق من أخلاق البهائم، ولهذا تجد أخلاق الخلائق مختلفة. . . وعلى هذا النمط فليحترز العاقل من صحبة الأشرار، وأهل الغدر، ومَنْ لا وفاء لهم؛ فإنه إذا فعل ذلك سلم من مكائد الخلق وأراح قلبه وبدنه (2).
قلت: فمن ينظر للصراع بين البشر على الدنيا، وما يحدث بينهم من قتل وتشريد وتعذيب يرى أن مبدأ البقاء للأقوى قد أصبح شعارًا لكثير من الناس حتى ولو لم يتكلموا به، ومن قبل كان منا من يظن أن هذا المبدأ مطبق في عالم الحيوان، فالآن أصبح واقعًا في عالم الإنسان.
(1) شفاء العليل ص 77.
(2)
المستطرف 1/ 128.