الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما بلغه هذا الرأي؛ أي: النصب على الاختصاص أو القطع (المدح أو الذم). (1)
والخلاصة:
أنه ينبغي الركون إلى الرأي الأول المنسوب إلى سيبويه، وأبى البقاء العكبري، والزمخشري، وابن عطية؛ لقوته أما ما عداه من آراء فلا تخلو من الضعف.
فالنصب على (المدح) أسلوب شائع في الاستعمال اللغوي العربي، وفيه من البلاغة أمر زائد على مجرد التوجيه النحوي الذي لا يتجاوز بيان عامل النصب أو الرفع أو الجر.
فـ (المقيمين) منصوب على الاختصاص، المراد منه المدح في هذا الموضع بدلالة المقام؛ لأن المؤدين للصلاة بكامل ما يجب لها من طهارة ومبادرة وخشوع وتمكن جديرون بأن يُمدحوا من اللَّه والناس.
وهذا الاختصاص أو القطع بيان لفضل الصلاة التي جعلها اللَّه على الناس كتابًا موقوتًا، وأمر عباده بإقامتها والمحافظة عليها في كثير من آيات الكتاب العزيز.
الرد على الشبهة في الآية الثانية: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ}
انتصب: والصابرين على المدح. والقطعُ إلى الرفع أو النصب في صفات المدح والذم والترحم، وعطفُ الصفات بعضها على بعض مذكورٌ في علم النحو. (2)
ونظير هذا النصب من الشعر قول الخِرنِق؛ وقد سبق، ومثل هذا في هذا الابتداء قول ابن خياط العُكلي:
وكل قوم أطاعوا أمرَ مُرشِدهم
…
إلا نُمَيرًا أطاعت أمرَ غاويها
الظاعنين ولمَّا يُظعنوا أحدًا
…
والقائلون لمنْ دارٌ نُخلّيها. (3)
والشاهد فيه نصب "الظاعنين" بإضمار فعل ورفع "القائلون" على إضمار مبتدأ لما قصد من معنى الذم فيهما.
(1) انظرها في الإنصاف للأنباري 2/ 471، التبيان في إعراب القرآن للعكبري 1/ 408.
(2)
البحر المحيط لأبي حيان 2/ 10.
(3)
كتاب سيبويه 2/ 64.
ويحسن بنا أن نذكر الآية بتمامها لننظر فيها نظرة عامة:
- {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} . {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} . {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} . {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} . {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} .
فكلمات هذه الآية إذا وزعت على صفات فأشدها وقعًا على النفس وأكثرها أعباء وأشقها كلفة هي الصبر في المحن والشدائد والأخطار؛ خاصةً في ملاقاة العدو والتعرض لزحفه وسلاحه، ولهذا جاء إعراب (الصابرين) مخالفًا لإعراب ما قبلها؛ ليلفت اللَّه أذهان العباد إلى أهمية الصبر في هذه المجالات، وهذا الإعراب المخالف لما قبله يفيد مع تركيز الانتباه وتوفير العناية بتأمُّل هذا الخُلق العظيم - يفيد أمرًا آخر مبهجًا للنفوس هو مدح هؤلاء الصابرين شديدي العزيمة قويي الاحتمال، إنها بلاغة القرآن المعجز، وعبقرية لغة التنزيل.
وهذا الإعراب المخالف لإعراب ما قبله، هو الذي يسميه النحاة بـ (القطع) وهو إما للمدح كما في هذه الآية، وآية النساء:(والمقيمين الصلاة)، وإما بقصد الذم كما في قوله تعالى:{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} (المسد: 4) أي: امرأة أبي لهب التي كانت تحمل الشوك وتنثره في طريق رسول اللَّه لتؤذيه؛ لأن كلمة (حمالة) جاءت منصوبة بعد رفع ما قبلها، وهى (امرأتُه) فهذا قطع كذلك القصد منه الذم أي: أذم أو ألعن حمالة الحطب. (1)
(1) قال الزمخشري: قرىء: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} بالنصب على الشتم، وأنا أستحب هذه القراءة. 6/ 458. وقال الفراء: والشتم على الاستئناف كما قال: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} لمن نصبه، وقال: وأما النصب فعلى جهتين: إحداهما أن تجعل الحمالة قطعًا، والوجه الآخر: أن تشتمها بحملها الحطب، فيكون نصبها على الذم؛ معاني القرآن 2/ 350، 3/ 298.
وأَيًّا كان السبب الاختصاص أو القطع للمدح أو للذم فإنه من أرقى الأساليب البلاغية، إذ يحتوى على فضيلة الإيجاز وهى أن تكون المعاني أكثر وأوفر من الألفاظ التي تدل عليها أو المستعملة فيها؛ لأن كل كلمة قُطِعَ إعرابُها عما قبلها نابت هذه الكلمةُ مناب ثلاث قيم بيانية رامزة إلى وجودها في المقام، وإن كانت محذوفة وهى:
1 -
الكلام الذي عمل الإعراب المخالف في الكلمة المقطوع إعرابها عن إعراب ما قبلها، وهو في:(الصابرين) أمدح أو أخص الصابرين بالمدح، وكذلك (المقيمين الصلاة)، وفي آية المسد: أذم أو ألعن (حمالة الحطب).
2 -
إفادة المدح أو الذم بغير الألفاظ التي تدل عليهما.
3 -
فضيلة الإيجاز البياني مع المعاني الضافية، فسبحان من هذا كلامه!
* * *