الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن آدم مجرى الدم" (1).
الوجه السادس: نزول الشهب أمر كوني، فهل كان موجودًا قبل الإسلام؟ وقد جاء في الشعر الجاهلي تشبيه المسرع من الخيل وغيرها بانقضاض الكواكب
.
فإن نزول الشهب كثر في الإسلام، ومن قبل كان يقع نادرًا، أو يكون جعلها رجومًا ملازمًا لظهور الإسلام (لذلك قيل: إنه رجوم إسلامي) وفيما تقدم من الزمان لم يكن لذلك من الشأن فإنه تعالى قال: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} (الملك: 5).
قال الآلوسي: ورُوي عن الشعبي: من أنه لم يقذف بالنجوم حتى ولد النبي صلى الله عليه وسلم فلما قذف بها جعل الناس يسيبون أنعامهم ويعتقون رقيقهم يظنون أنه القيامة فأتوا (عبد ياليل) الكاهن وقد عمي وأخبروه بذلك فقال: انظروا إن كانت النجوم المعروفة من السيارة والثوابت فهو قيام الساعة، وإلا فهو أمر حادث فنظروا فإذا هي غير معروفة فلم يمض زمن حتى أتى خبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ووافق على عدم حدوثه قبلُ ابنُ الجوزي في المنتظم لكنه قال: إنه حدث بعد عشرين يومًا من مبعثه.
والصحيح أن القذف كان قبل ميلاده عليه الصلاة والسلام، وهو كثير في أشعار الجاهلية إلا أنه يحتمل أنه لم يكن طاردًا للشياطين وأن يكون طاردًا لهم لكن لا بالكلية وأن يكون طاردًا لهم بالكلية، وعلى هذا لا يتأتى الاحتمال السابق، وعلى الاحتمال الأول من هذه الاحتمالات يكون الحادث يوم الميلاد طردهم بذلك، وعلى الثاني طردهم بالكلية وتشديد الأمر عليهم لينحسم أمرهم وتخليطهم ويصح الوحي فتكون الحجة أقطع.
والذي يترجح أنه كان قبل الميلاد طاردًا لكن لا بالكلية، فكان يوجد استراق على الندرة وشدد في بدء البعثة، وعليه يراد بخبر لم يقذف بالنجوم حتى ولد النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكثر القذف بها، وعلى هذا يخرج غيره إذا صح كالخبر المنقول في السير؛ أن إبليس كان
(1) مفاتيح الغيب 1/ 67؛ الفاتحة: (أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم).
يخترق السموات قبل عيسى عليه السلام، فلما بعث أو ولد حجب عن ثلاث سموات ولما ولد النبي صلى الله عليه وسلم حجب عنها كلها وقذفت الشياطين بالنجوم. فقال قريش: قامت الساعة فقال عتبة بن ربيعة: انظروا إلى العيوق فإن كان رمي به فقد آن قيام الساعة وإلا فلا. وقال بعضهم: اتفق المحدثون على أنه كان قبل لكن كثر وشدد لما جاء الإسلام ولذا قال تعالى: {مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)} (الجن: 8) ولم يقل حرست.
وبالجملة لا جزم عندنا بأن ما يقع من الشهب في هذه الأعصار ونحوها رجوم للشياطين والجزم بذلك رجم بالغيب (1).
قال القرطبي: في قوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} واختلف هل كان هذا القذف قبل المبعث؟ أو بعده لأجل المبعث؟ على قولين، وجاءت الأحاديث بذلك على ما يأتي من ذكرها في سورة الجن عن ابن عباس، وقد يمكن الجمع بينهما أن يقال: إن الذين قالوا: لم تكن الشياطين ترمى بالنجوم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم رميت، أي: لم تكن ترمى رميًا يقطعها عن السمع، ولكنها كانت ترمى وقتًا ولا ترمى وقتًا، وترمى من جانب ولا ترمى من جانب. ولعل الإشارة بقوله تعالى:{وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} إلى هذا المعنى، وهو أنهم كانوا لا يقذفون إلا من بعض الجوانب فصاروا يرمون واصبًا، وإنما كانوا من قبل كالمتجسسة من الإنس، يبلغ الواحد منهم حاجته ولا يبلغها غيره، ويَسْلَم واحد ولا يَسْلَم غيره، بل يقبض عليه ويعاقب وينكل، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيد في حفظ السماء، وأعدت لهم شهب لم تكن من قبل ليدحروا عن جميع جوانب السماء، ولا يقروا في مقعد من المقاعد التي كانت لهم منها؛ فصاروا لا يقدرون على سماع شيء مما يجري فيها، إلا أن يختطف أحد منهم بخفة حركته خطفة، فيتبعه شهاب ثاقب قبل أن ينزل إلى الأرض فيلقيها إلى إخوانه فيحرقه، فبطلت من ذلك الكهانة وحصلت الرسالة والنبوة.
(1) روح المعاني 23/ 71؛ (الصافات: 8).
فإن قيل: إن هذا القذف إن كان لأجل النبوة فلم دام بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟
فالجواب: أنه دام بدوام النبوة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ببطلان الكهانة فقال: "ليس منا من تكهن" فلو لم تحرس بعد موته لعادت الجن إلى تسمعها وعادت الكهانة، ولا يجوز ذلك بعد أن بطل؛ ولأن قطع الحراسة عن السماء إذا وقع لأجل النبوة فعادت الكهانة دخلت الشبهة على ضعفاء المسلمين، ولم يُؤمن أن يظنوا أن الكهانة إنما عادت لتناهي النبوة؛ فصح أن الحكمة تقضي دوام الحراسة في حياة النبي عليه السلام، وبعد أن توفاه اللَّه إلى كرامته صلى الله عليه وسلم. {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} وأي: دائم؛ عن مجاهد وقتادة. وقال ابن عباس: شديد. الكلبي، والسدي، وأبو صالح: موجع؛ أي الذي يصل وجعه إلى القلب؛ مأخوذ من الوصب وهو المرض.
قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} استثناء من قوله: {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} وقيل: الاستثناء يرجع إلى غير الوحي؛ لقوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} (الشعراء: 212)، فيسترق الواحد منهم شيئًا مما يتفاوض فيه الملائكة، مما سيكون في العالم قبل أن يعلمه أهل الأرض؛ وهذا لخفة أجسام الشياطين فيرجمون بالشهب حينئذ، وروي في هذا الباب أحاديث صحاح مضمونها: أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء فتقعد للسمع واحدًا فوق واحد، فيتقدم الأجسر نحو السماء ثم الذي يليه ثم الذي يليه، فيقضي اللَّه تعالى الأمر من أمر الأرض، فيتحدث به أهل السماء فيسمعه منهم الشيطان الأدنى، فيلقيه إلى الذي تحته فربما أحرقه شهاب، وقد ألقى الكلام، وربما لم يحرقه على ما بيناه، فتنزل تلك الكلمة إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة، وتصدق تلك الكلمة فيصدق الجاهلون الجميع كما بيناه في (الأنعام)، فلما جاء اللَّه بالإسلام حرست السماء بشدة، فلا يفلت شيطان سمع بَتَّةً، والكواكب الراجمة هي التي يراها الناس تنقض. قال النقاش ومكي: وليست بالكواكب الجارية في السماء؛ لأن تلك لا ترى حركتها، وهذه الراجمة ترى حركتها؛ لأنها قريبة منا، وقد مضى في هذا الباب في سورة (الحجر) من البيان ما فيه كفاية، وذكرنا في (سبأ) حديث أبي هريرة؛ وفيه:(والشياطين بعضهم فوق بعض)،
وقال فيه الترمذي: حديث حسن صحيح. وفيه عن ابن عباس: (ويختطف الشياطين السمع فيرمون فيقذفونه إلى أوليائهم في جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يحرفونه ويزيدون) قال: هذا حديث حسن صحيح. والخطف: أخذ الشيء بسرعة؛ يقال: خَطَفَ، وخَطِفَ، وخَطَّف، وخَطِّف، وخِطِّف، والأصل في المشددات اختطف فأدغم التاء في الطاء لأنها أختها، وفتحت الخاء؛ لأن حركة التاء ألقيت عليها، ومن كسرها فلالتقاء الساكنين، ومن كسر الطاء أتبع الكسرَ الكسرَ.
قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} أي: مضيء؛ قاله الضحاك، والحسن، وغيرهما. وقيل: المراد كواكب النار تتبعهم حتى تسقطهم في البحر. وقال ابن عباس في الشهب: تحرقهم من غير موت. وليست الشهب التي يرجم الناس بها من الكواكب الثوابت؛ يدل على ذلك رؤية حركاتها، والثابتة تجري ولا ترى حركاتها لبعدها، وقد مضى هذا. وجمع شهاب: شهب، والقياس في القليل أشهبة وإن لم يُسمع من العرب، و {ثَاقِبٌ} معناه: مضيء؛ قاله الحسن، ومجاهد، وأبو مجلز، ومنه قوله: وزندك أثقب أزنادها، أي: أضوأ، وحكى الأخفش في الجمع: شُهُبٌ ثُقُبٌ وثواقب وثقاب، وحكى الكسائي: ثقبت النار تثقب ثقابةً وثقوبًا إذا اتقدت، وأثقبتها أنا. وقال زيد بن أسلم في الثاقب: إنه المستوقد؛ من قولهم: أثقب زندك أي: استوقد نارك؛ قال الأخفش؛ وأنشد قول الشاعر:
بينما المرء شهاب ثاقب
…
ضرب الدهر سناه فخمد (1)
قلت: وهناك حديث يوضح ما قاله القرطبي:
قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا بين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب! قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث؛ فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي
(1) الجامع لأحكام القرآن 1/ 82.