الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الأول: قول كثير من المحققين من المفسرين: إن المقصود بالماء ماء المطر الناتج عن فتق السماء
.
قال ابن كثير: في تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: 30) وفصَل بين سماء الدنيا والأرض بالهواء، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض؛ ولهذا قال:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} أي: وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئًا فشيئًا عيانًا، وذلك دليل على وجود الصانع (1).
وقال القرطبي: في تفسيره لهذه الآية بعد أن ذكر قولين في تفسيرها؛ قال: وقول ثالث قاله عكرمة، وعطية، وابن زيد، وابن عباس أيضًا فيما ذكر المهدوي: أن السموات كانت رتقًا لا تمطر، والأرض كانت رتقًا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر، والأرض بالنبات، نظيره قوله عز وجل:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)} (الطارق: 11 - 12).
واختار هذا القول الطبري، لأن بعده:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} قلت: وبه يقع الاعتبار مشاهدة ومعاينة؛ ولذلك أخبر بذلك في غير ما آية ليدل على كمال قدرته، وعلى البعث والجزاء (2).
وذهب أكثر المفسرين إلى هذا القول (3).
فإن قيل كيف قال: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} : وقد قال: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} (الحجر: 27)، وجاء في الأخبار أن اللَّه تعالى خلق الملائكة من النور، وقال
(1) تفسير ابن كثير (9/ 399).
(2)
تفسير القرطبي (11/ 302).
(3)
انظر: الكشاف (3/ 113)، تفسير ابن أبي حاتم (8/ 2450)، تفسير البغوي، (3/ 243)، زاد المسير (5/ 348)، أضواء البيان (4/ 613)، تفسير الرازي (22/ 162، 163).
تعالى في حق عيسى عليه السلام: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} (المائدة: 110)، وقال في حق آدم:{خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} (آل عمران: 59).
والجواب: للفظ وإن كان عامًا إلا أن القرينة المخصصة قائمة، فإن الدليل لا بد وأن يكون مشاهدًا محسوسًا ليكون أقرب إلى المقصود، وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة، والجن، وآدم، وقصة عيسى عليهم السلام؛ لأن الكفار لم يروا شيئًا من ذلك (1).
ومما يؤكد هذا الرأي ويوضحه أن هناك قرائن من القرآن العظيم تدل على أن معنى {كَانَتَا رَتْقًا} أن السماء كانت لا ينزل منها مطر، والأرض كانت لا ينبت فيها نبات، ففتق اللَّه السماء بالمطر، والأرض بالنبات:
القرينة الأولى: أن قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يدل على أنهم رأوا ذلك؛ لأن الأظهر في (رأى) أنها بصرية، والذي يرونه بأبصارهم هو أن السماء تكون لا ينزل منها مطر، والأرض ميتة هامدة لا نبات فيها، فيشاهدون بأبصارهم إنزال اللَّه المطر، وإنباته به أنواع النبات.
القرينة الثانية: أنه أتبع ذلك بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: 30)، والظاهر اتصال هذا الكلام بما قبله؛ أي: وجعلنا من الماء الذي أنزلناه بفتقنا السماء، وأنبتنا به أنواع النبات بفتقنا الأرض كل شيء حي.
القرينة الثالثة: أن هذا المعنى جاء موضحًا في آيات أخر من كتاب اللَّه كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)} (الطارق: 11 - 12)؛ لأن المراد بالرَّجْع نزول المطر منها تارة بعد أخرى، والمراد بالصَّدْع: انشقاق الأرض عن النبات، وكقوله تعالى:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)} (عبس: 24 - 26) الآية، واختار هذا القول ابن جرير، وابن عطية، وغيرهما للقرائن التي ذكرنا، ويؤيد ذلك كثرة ورود الاستدلال بإنزال المطر، وإنبات النبات في القرآن العظيم على كمال قدرة اللَّه
(1) تفسير الرازي (22/ 164).
تعالى، وعظم منته على خلقه، وقدرته على البعث. . .، والعلم عند اللَّه تعالى (1).
- كما قال ابن عاشور عند تفسيره لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} أن هذا زيادة استدلال بما هو أظهر لرؤية الأبصار، وفيه عبرة للناس في أكثر أحواله، وهو عبرة للمتأملين في دقائقه في تكوين الحيوان من الرطوبات، وهي تكوين التناسل وتكوين جميع الحيوان؛ فإنه لا يتكون إلا من الرطوبة ولا يعيش إلا ملابسًا لها، فإذا انعدمت منه الرطوبة فقد الحياة، ولذلك كان استمرار الحمى مفضيًا إلى الهزال ثم إلى الموت (2).
ومن خلال هذه الأقوال التي ذكرناها يتبين لنا أنه ليس ببعيد أن يكون المقصود من الآية هو ما ذكره أغلب المفسرين، وعندئذ لا يكون هناك تعارض، بل وتكون الآية متفقة مع ما أثبتته العلوم الحديثة حيث يؤكد القرآن الكريم في كثير من آياته التي نزلت في بيان أهمية الماء بل ضرورته للحياة والأحياء في قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء: 30)، {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} (الزخرف: 11)، {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} (ق: 9).
وتدل أبحاث علم النبات على أن عناصر التربة ومركباتها المختلفة الميتة عندما ينزل عليها ماء المطر تذوب فيه وتتحلل فيسهل وصوله إلى بذور النبات وجذوره حيث تتحول إلى خلايا وأنسجة حية، ولذلك تبدو حية ويزيد حجمها بما يتخللها وما يعلوها من نبات (3).
والماء عماد الحياة في الأرض لكل كائن حي من نبات وإنسان وحيوان، وقد أشار القرآن الكريم في كثير من آياته إلى عظم أهميته في إحيائها فيقول تعالى:{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (النحل: 65)، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}
(1) أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن (4/ 614).
(2)
التحرير والتنوير (17/ 58).
(3)
القرآن وإعجازه العلمي (1/ 118).