الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
روى الطبري بسنده عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال: يؤخذ بيد العبد والأَمة يوم القيامة، فينادي منادٍ على رؤوس الأولين والآخرين: هذا فلان بن فلان من كان له حق فليأت إلى حقه! فتفرح المرأة أن يذوب لها الحق على أبيها، أو على ابنها، أو على أخيها، أو على زوجها، ثم قرأ ابن مسعود:{فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} (المؤمنون: 101) فيغفر اللَّه تبارك وتعالى من حقه ما شاء ولا يغفر من حقوق الناس شيئًا، فينصب للناس فيقول: ائتوا إلى الناس حقوقهم! فيقول: رب، فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم؟ فيقول: خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كلَّ ذي حق حقه بقدر مظلمته، فإن كان وليًا للَّه ففضل له مثقال ذرة ضاعفها له حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ علينا:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} وإن كان عبدًا شقيًا قال الملك: رب، فنيت حسناته وبقي طالبون كثير! فيقول: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته، ثم صكوا له صكًا إلى النار. وفي لفظ: من كان له مظلمة فليجيء فليأخذ حقه، فيفرح واللَّه المرء أن يكون له الحق على والده، أو ولده، أو زوجته، وإن كان صغيرًا؛ ومصداق ذلك في كتاب اللَّه {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)} (1).
الوجه الخامس: الإنسان في حياته الدنيوية (القصيرة) تمر عليه فترات لا يتكلم فيها ولا يتساءل، وفترات يتكلم ويتساءل، وفترات يكتم، وفترات لا يكتم، فما بالنا بأيام الآخرة (الطويلة)
.
يوم القيامة يوم عظيم، يوم طويل، مقداره خمسين ألف سنة قال تعالى:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)} (المعارج: 4)، وإن الإنسان في حياته الدنيوية ليتعرض لفترات من حياته لا يتكلم فيها مع أنه كما يقول الفلاسفة: إن
(1) أخرجه الطبري في تفسيره 4/ 91، قوله:{وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء: 40)، وأخرجه ابن المبارك في الزهد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر، انظر فتح القدير 3/ 718؛ قوله:{وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} (المؤمنون: 118)، والدر المنثور 7/ 244 (المؤمنون: 101).
الإنسان حيوان ناطق، فكيف ينطبق ذلك عليه أثناء وجوده في بطن أمه؟ فهو لا يتكلم ولا يتساءل، ثم إذا خرج من بطن أمه لا نسمع منه إلا الصراخ، فلا يستطع أن يعبر عما يشكو منه، هل هو جوع، أم مرض، أم خوف؟ ويظل هكذا حتى يتعلم النطق رويدًا رويدًا، وربما كان أبكم لا يتكلم! فهل هذا يعتبر خرقًا لقاعدة: أن الإنسان حيوان ناطق؟ أم أن هذا يُحمل على محمل أن غالبية الجنس البشري ينطق ويتكلم؟ والعجيب أنه ربما كان إنسان يتكلم وينطق فتحدث له مصيبة من مصائب الدنيا فيفقد النطق (إما لصدمة عصبية أو لخلل عضوي)، فنفاجأ بأنه كان يتكلم فأصبح لا يتكلم، وكان يتساءل تساؤلات تنفعه فأصبح لا يتساءل! وربما صرف اللَّه عنه هذه المصيبة فرجع مرة أخرى يتكلم ويتساءل، وكل هذا في فترة زمنية (فترة حياته إما ستون سنة أو أقل أو أكثر) لا تقارن بالمدة التي يقضيها في يوم القيامة.
فإذا قمنا بإحصائيات على مستوى العالم: كم من البشر يتكلمون؟ وكم منهم لا يتكلمون؟ نجد أن العدد الأكبر يتكلمون، وأيضًا هناك عدد كبير لا يتكلمون سواء كانوا أطفالًا رضع أو كانوا بكمًا، هذا في الدنيا فلا نستبعد في الآخرة أن السعداء يتكلمون ويحدث بعضهم بعضًا حديثًا رقراقًا جميلًا، والأشقياء تحدث لهم أحوالٌ متغايرة من كلام وعدم كلام؛ وهذا دليل على شدة الإرتباك والحيرة التي يَمُرُّ الكافر بها يوم القيامة، وأن أحواله تتغير يوم القيامة من سوء لأسوء كما كان قلبه يتقلب في أوحال الكفر في الدنيا؛ قال تعالى:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} (الأنعام: 110).
قال أبو السعود: {فَلَا أَنْسَابَ} بينهم تنفعهم لزوال الزاحم والتعاطف من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة؛ بحيث يفر المرء من أخيه، وأمه، وأبيه، وصاحبته، وبنيه، أو لا أنساب يفتخرون بها يومئذ كما هي بينهم اليوم {وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} أي: لا يسأل بعضهم بعضًا لاشتغال كل منهم بنفسه ولا يناقضه قوله تعالى فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون؛