الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لم يكونوا من الزُّمْرَة المتحدّث عنها أوّلًا، ويظهر هذا في النصوص الدينيّة الموجَّهة لجميع الناس، وفي خُطَب الملوك والرؤساء والوعّاظ وأشباههم. (1)
الوجه الثالث: فائدة الالتفات في آية سورة يونس؛ وهو من نوع: الانتقال من الخطاب إلى الغيبة
.
وقوله: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} خروج من الخطاب إلى الغيبة، وهو في القرآن وأشعار العرب كثير؛ قال النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند
…
أقوت وطال عليها سالف الأمد. (2)
قال الزمخشري: فإن قلت: ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟
قلت: المبالغة؛ كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليُعَجِّبَهُمْ منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح. (3)
وأما الرجوع من الخطاب إلى الغيبة في آية يونس؛ فإنه إنما صرف الكلام ههنا من الخطاب إلى الغيبة لفائدةٍ وهي أنه ذكر لغيرهم حالهم، ليعجبهم منها كالمخبر لهم ويستدعي منهم الإنكار عليهمِ، ولو قال حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم بريح طيبة وفرحتم بها. . وساق الخطاب معهم إلى آخر الآية لذهبت تلك الفائدة التي أنتجها خطاب الغيبة، وليس ذلك بخافٍ عن نقدة الكلام، ومما ينخرط في هذا السلك قوله تعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)} (الأنبياء: 92 - 93) الأصل في (تقطعوا) تقطعتم
(1) البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها لعبد الرحمن الميداني 1/ 481.
(2)
تفسير القرطبي؛ يونس: 22، 8/ 301. والبيت مطلع معلقة النابغة الذُّبياني. وقد ورد ضدُّ هذا الالتفات الانتقال من الخطاب إلى الغيبة في القرآن أيضًا: قال ابن الأنباري: وجائز في اللغة أن يُرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب؛ قال اللَّه تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)} (الإنسان: 21 - 22) فأبدل الكاف من الهاء. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي؛ يونس: 22.
(3)
الكشاف 2/ 338.
عطفًا على الأول إلّا أنه صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة على طريقة الالتفات، كأنه ينعى عليهم ما أفسدوه إلى قوم آخرين ويقبح عندهم ما فعلوه، ويقول: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين اللَّه تعالى فجعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعًا، وذلك تمثيل لاختلافهم فيه وتباينهم ثم توعدهم بعد ذلك بأن هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون فهو مجازيهم على ما فعلوا. (1)
قوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} خطاب الحضور، وقوله:{وَجَرَيْنَ بِهِمْ} مقام الغيبة، فههنا انتقل من مقام الحضور إلى مقام الغيبة، وذلك يدل على المقت والتبعيد والطرد، وهو اللائق بحال هؤلاء؛ لأن من كان صفته أنه يقابل إحسان اللَّه تعالى إليه بالكفران - كان اللائق به ما ذكرناه. (2)
حكمة الالتفات هنا هي أنّ قوله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} خطاب فيه امتنان وإظهار نعمة للمخاطبين، والمسيرون في البر والبحر مؤمنون وكفار، والخطاب شامل، فحَسُن خطابهم بذلك ليستديم الصالح على الشكر، ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة فيرجع، فلما ذكرت حالةٌ آلَ الأمرُ في آخرها إلى أنَّ الملتبسَ بها هو باغٍ في الأرض بغير الحق - عدل عن الخطاب إلى الغيبة حتى لا يكون المؤمنون يخاطبون بصدور مثل هذه الحالةِ التي آخرها البغي. (3)
وفائدة هذا الالتفات بيانُ أنّ الذين تكون منهم هذه الظاهرة التي تحدّث عنها النّصّ ليسوا جميع المخاطبين؛ بل هم فريق منهم، فمن الحكمة الحديث عنهم بأسلوب الحديث عن الغائب، مع ما في الحديث عن الغائب من الإعراض المشعر بالتأنيب على ما يكون
(1) المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير 2/ 10، يُرجع إلى الفصل الذي عقده ابن الأثير في الالتفات وأنواعه فهو جامع ماتع.
(2)
التفسير الكبير للفخر الرازي؛ يونس: 22، 17/ 69.
(3)
البحر المحيط لأبي حيان؛ يونس: 22، 5/ 142.