الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حوالي سنتيمتر واحد، ويتفرع منه واحد وثلاثون زوجًا من الأعصاب تخرج جميعها خلال ثقوب صغيرة من بين الفقرات، وتوزع على بقية أجزاء الجسم لتقوم بنقل الأحاسيس، وكل عصب شوكي موكل بنقل إحساس معين من مكان محدود، ويأمر مجموعة معينة من العضلات بأوامر معينة في دقة وانسجام.
وعملية نقل الحس تثير الدهشة والتعجب، حيث تنقل الأحاسيس إلى خلايا الأعصاب الشوكية في النخاع الشوكي؛ ليصل في النهاية إلى المخِّ الذي يقوم بترجمتها وإصدار الأوامر إلى تلك الأعصاب؛ لتحرك عضلات معينة وفقا لما تقتضيه الحاجة، ولنا أن نتخيل أن عدد الإشارات التي تصب في الجهاز العصبي في كل ثانية (100.000.000) مائة مليون إشارة قادمة من الأعضاء الحسية، فالجلد مثلًا يحتوي على الأجهزة الآتية:
(3.000.000 إلى 4.000.000) من ثلاثة إلى أربعة ملايين جهاز للألم.
(500.000) خمسمائة ألف جهاز خاص باللمس أو الضغط.
(200.000) مائتي ألف جهاز حساس للحرارة.
ومن هنا نستشعر قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} (النساء: 56).
فمن راجع أقوال بعض العقلانيين قديمًا ومحاولتهم أن يلبسوا الإسلام ثوب العلم بِلَيِّ أعناق النصوص وجد العجب
.
انظر مثلًا إلى قول من قال إن الجلد ليس مسئولًا عن الإحساس بل هو المخ (وكان هذا هو الاعتقاد السائد في الأوساط العلمية حتى منتصف القرن الماضي)
وحاول أن يؤول آية النساء: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ. . .} لأنها لا توافق العلم!
وقد أثبت العلم الحديث أن الجلد هو المسئول عن الإحساس، وأن النهايات العصبية
الموجودة فيه هي التي تعطي إشارات للمخ. . . إلخ (1)، وهذا يعنى أن الجهاز العصبي الذي يقولون إنه هو المسئول عن الإحساس بالألم ما هو إلا أحد أجزاء هذا الجلد، وإذا تأملنا قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} (النساء: 56)، فإننا نجد أن الآية الكريمة تتحدَّث عن لون من ألوان العذاب الَّذي سَيُجزَى بهم الكافرون؛ وهو تبديل جلودهم المحترقة بغيرها، فيكون هذا العذاب من أشدِّ أنواع العذاب إيلامًا يعانون منه طيلة فترة إقامتهم في النار.
وقد كشف علمُ التشريح المجهري اليوم عن السرِّ في اختيار اللَّه لهذا النوع من التعذيب، فقد تبيَّن أن الجلد عضو غنيٌّ بالنهايات العصبية، الَّتي تقوم باستقبال جميع أنواع الحسِّ من المحيط الخارجي، كالإحساس بالألم والحرارة والضغط والبرودة، أمَّا النُسج الَّتي تلي طبقة الجلد فإنها أكثر تحسُّسًا بمستقبلات حسِّ الضغط، لكنها أقل منه تحسسًا بمستقبِلات الألم والحرارة واللمس؛ لذلك عندما يُحقن الشخص بإبرة فإنه يشعر بذروة الألم عندما تجتاز الإبرة الجلد، ومتى تجاوزت الجلد إلى الأنسجة الأخرى، تخفُّ درجة الإحساس بالألم، وعندما يتعرَّض الجلد للحرق فإن ذلك يؤدِّي للإحساس بألم شديد جدًا؛ لأن النار تنبِّه مستقبلات الألم، فإذا ما امتدَّ الحرق للأنسجة تحت الجلد يصبح الألم أخفَّ لأن هذه الأنسجة أقلُّ حساسيَّة بالألم.
وهكذا أشارت الآية القرآنية إلى أن أكثر أعضاء الجسم غنًى بمستقبلات الألم هو الجلد، كما أن الحروق هي أشدُّ المنبِّهات الأليمة، وتبديل الجلد المحترق بجلد سليم إشارة إلى استمرار الشعور بالعذاب والألم، بدل الانتقال إلى حالة من فقدان الحسِّ والشعور (2).
وهو مما يبين أن وسائل الإحساس في الجلد، فلو احترق هذا الجلد وما بُدل فلن يحس
(1) مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 21/ 200، أرشيف ملتقى أهل الحديث 1/ 4811.
(2)
(القرآن منهاج حياة) لغازي صبحي 1/ 333.
بالنار، فاللَّه يبدل الجلود لكي يستمر الإحساس بعذاب النار، قد أشار بعضهم إلى أن الإعجاز يكمن في الجملة التعليلية الواردة في الآية {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} ، وأن الآية ظاهرة الدلالة في أن علة التغيير والتبديل للجلود ليذوقوا المزيد من العذاب الأليم، فدل ذلك على أن أكثر أعضاء الجسم غنًى بمستقبلات الألم هو الجلد، كما أن الحروق هي أشد المنبهات الألمية.
وهذا ما عرفه العلم الحديث وقرره، ذلكم أن الجلد غني بالألياف العصبية التي تقوم باستقبال ونقل جميع أنواع الحس؛ لذا فإنه عندما يحقن الإنسان بإبرة فإنه يشعر بذروة الألم عندما تجتاز الإبرة الجلد، ومتى تجاوزت الجلد خف الألم، فظهر من الآية الكريمة أن تجديد الجلود ليستمر ويدوم الشعور بالألم دون انقطاع ويذوقوا العذاب الأليم، أعاذنا اللَّه من عذابه (1).
وقد أثبت العلم الحديث أن الجسيمات الحسية المختصة بالألم والحرارة تكون موجودة في طبقة الجلد وحدها، ومع أن الجلد سيحترق مع ما تحته من العضلات وغيرها إلا أن القرآن لم يذكرها؛ لأن الشعور بالألم تختص به طبقة الجلد وحدها، فمن أخبر محمدًا صلى الله عليه وسلم بهذه المعلومة الطبية؟ أليس اللَّه عز وجل!
وأثبت أهلُ الطِبِّ أيضًا أن الإحساس بألمِ الحريق محصورٌ بالجلد؛ لأن نهايات الأعصابِ المتخصصةِ بالإحساس بالحرارةِ والبرودةِ محصورة بالجلد، ولو ذاب الجلدُ فلن يشعر الإنسانُ في الدنيا بألمِ الحريق، واللَّه تعالى يقولُ في القرآن:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} (النساء: 56). (2)
ومعلوم عندهم أيضًا أن الجلد تتركز فيه أعصاب الإحساس، فحروق الدرجة الأولى أشد ألمًا من حروق الدرجة الثانية أو الثالثة حيث تضعف أعصاب الإحساس.
وعن الشبكة العصبية في الجلد يتوسع أحد الأطباء في بيان ذلك فيقول:
(1) مقالات موقع الألوكة 19، وهذا ما قرره الآلوسي من قبل.
(2)
موسوعة البحوث والمقالات العلمية صـ 4.
الجلد أكبر أعضاء جسم الإنسان من حيث المساحة، فمتوسط مساحته هو (8.1 متر مربع، وهو يحيط بالجسم كله؛ فيحميه، ويكسبه مظهرًا جميلًا، كما أنه يتلقى المؤثرات الواقعة على الجسم من خارجه، وتظهر عليه انفعالات الجسم.
يتركب الجلد كما توصلت إليه البحوث الحديثة من ثلاث طبقات:
الخارجية (السطحية) الرقيقة؛ تسمى البشرة [Epidermis].
والوسطى (المتوسطة)؛ وتسمى الأدمة [Dermis] وهي الجلد الحقيقي.
والداخلية (السفك) وتسمى النسيج تحت الجلد [Subcutaneous tissue].
أما البشرة فهي طبقة خالية من الأوعية الدموية، وتقوم بحماية الجسم من التأثيرات الخارجية والصدمات؛ وهي أرق طبقات الجلد وإن كانت تتألف من أربع طبقات ثانوية، بالإضافة إلى طبقة خامسة في مناطق مثل راحة اليد وباطن القدم، وتسمى (الطبقة الصافية) أي:(الطبقة الرائقة).
وأما الأدمة فتحتوي أوعية دموية، وغدد عرقية، وبصيلات الشعر، والنهايات العصبية المستقبلة للألم، والشعور بالحرارة، والبرودة، واللمس، وخلافه، كما أنها هي التي تحدد (ثخانة) الجلد في مناطق مثل: راحة اليد وباطن القدم، وتتراوح ثخانة الجلد بين (2/ 1 - 5 ملليمترات) حسب مناطق الجسم.
وهكذا يتضح بالتشريح الدقيق للجلد وجود شبكة من الألياف العصبية توجد بها نهايات عصبية حرة، في طبقات الجلد، وتقوم هذه النهايات باستقبال جميع المؤثرات الواقعة على الجلد من البيئة الخارجية المحيطة به، من درجة حرارة، إلى رطوبة، إلى ضغط، إلى لمس، إلى ألم. . . إلخ، كما تتحمل هذه الشبكة العصبية المسؤولية في تنظيم عمل المكونات الأخرى الموجودة بالجلد مثل: الغدد الجلدية وأجربة [follicles] الشعر والأوعية الدموية [Blood vessels].
ومما يذكر في هذا المقام أن الطبقة السفلى (تحت الأدمة) غنية بالنهايات العصبية
المسئولة عن الإحساس بالضغط لكنها -أي: الطبقة السفلى- فقيرة في مستقبلات الألم واللمس وتتبادل هذه النهايات العصبية [المستقبلات - Receptors]، الألم والشعور به، وفيها المسئول عن اللمس، الاحتكاك، والضغط. . . إلخ.
وانتهى به القول إلى القول أن الجلد عضو إحساس من الطراز الأول، وجه خريطة مدهشة من الأعصاب، لم يتم الكشف عنها إلا في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، بعد تقدم وسائل البحوث الحديثة في كل من علم التشريح [Anatomy]، وعلم الأنسجة [Histology] وغيرها من العلوم، إننا لن نفصل القول في الآلية (الميكانيكية) التي تعمل بها الأعصاب في جسم الإنسان، فمن يريد هذا التفصيل عليه مطالعة الكتب الطبية، ولسوف نوجز فنقول: إن هذه المستقبلات الحسية المنتشرة في طبقات الجلد تستقبل المؤثرات البيئية الواقعة عليها طوال اليوم، ويتحول كل مؤثر (حرارة، أو لمس، أو ضغط أو كي، أو غيرها) إلى نبضات كهربائية [Electric impulses] بداخل الأعصاب التي توجد هذه المستقبلات بأطرافها، وتنتشر وتنتقل هذه النبضات على امتداد هذه الأعصاب إلى الدماغ (المخ) -وهو المركز الرئيسي في الجهاز العصبي للإنسان- فتتم ترجمة المؤثر المستقبل [Resived stimulus] وبيان نوعه، وتحديد الاستجابة [Response]، المناسب تجاهه؛ إن كانت بالسلب أم بالإيجاب، أما في الأولى فتنفعل عضلات الإنسان لإبعاده عن موقع المؤثر السيئ، وأما في الثانية فتنفعل عضلاته نحو هذا المؤثر وتقترب منه أكثر، ويستطيع الإنسان أن يشعر بالمؤثر الواقع على الجلد طالما يقع هذا المؤثر داخل حدود معينة من الشدة [التردد - Frequency]، فإذا انخفضت شدته عن الحد الأدنى لم يشعر به الجلد، وإذا ارتفعت شدته عن الحد الأقصى شعر الجلد بألم، وقد ترتفع شدة المؤثر بدرجات كبيرة فتكون استجابة الجلد عنيفة وتؤدي إلى حدوث صدمة أو هبوط في الدورة الدموية وفقدان للوعي، وبالطبع، فإن هناك أجهزة أخرى غير الجلد يصيبها الإعياء والهبوط الوظيفي والتوقف عن العمل نتيجة تألم الجلد، أي: استجابته للمؤثر الواقع عليه، ولكن يبقى الجلد هو العضو الوحيد في جسم
الإنسان المسئول عن الشعور بالألم.
عندما يتعرض الجلد للإحراق فإنه يتألم، أي: ينقل الإحراق (كمؤثر) إلى الدماغ فيترجمه، وتكون النتيجة هي شعور الجسم بالألم وإذا كان الحرق من الدرجة الأولى (سطحي) تلتهب الطبقة الخارجية للجلد وتحمر ويتورم الجلد، ويصحب هذا آلام موضعية شديدة نتيجة لتأثير الحرق في الألياف العصبية، وتحدث هذه الحروق مثلًا نتيجة التعرض فترة طويلة للشمس المباشرة ساعات الظهيرة.
وإذا كان الحرق من الدرجة الثانية (أدمي) يشتد الألم لدرجة أن الجسم يفقد من السوائل ويتأثر ضغط الدم الشرياني وتتضرر الدورة الدموية، وقد يصاب الجسم بصدمة عنيفة، ويلاحظ في هذه الدرجة تكون أكياس مائية مختلفة الأحجام على البشرة، وقد تتمزق بسهولة، لتخرج سائلًا ملحيًا، أو تنزف دمًا.
وإذا كان الحرق من الدرجة الثالثة (تحت الجلدي) فإن الحرارة الشديدة للحرق تؤدي إلى حدوث تلف شديد للطبقات العميقة بالجلد والأنسجة المجاورة، وتؤدي أيضًا إلى التفحم الجلدي، واضطراب وظائف العظام والعضلات، كما تؤدي إلى تجلط بروتينات الألياف العصبية، وتكون النتيجة هي توقف هذه الألياف عن العمل؛ أي: لا تكون قادرة على الإحساس بالمؤثر (الحرق)، وبالتالي يتوقف شعور الإنسان بالألم.
تذكر الآيات القرآنية التي مرت معنا في الصفحات الأولى من لقائنا الحالي بصيغة الجمع دائمًا، وليس بصيغة المفرد، وفي هذه إشارة علمية عظيمة كشف العلم الحديث عنها وخلاصتها:
[1]
خلايا الجلد أسرع انقسامًا من غيرها من الجلد.
[2]
خلايا الجلد أسرع تغيرًا وتبدلًا من غيرها من الخلايا، وقد يتغير الجلد في مساحة معينة منه تغيرًا كاملًا في فترة وجيزة.
[3]
يتغير تركيب الجلد من مكان لآخر على سطح الجسم الواحد، فجلد جفون العيون يختلف عن جلد قناة الأذن الخارجية، ويختلف عن جلد باطن اليد، ويختلف عن
جلد باطن القدم. . . إلخ.
[4]
وهكذا تكسو الإنسان مجموعةٌ من الجلد وليس جلدٌ واحد، سواء من حيث المكان (على سطح الجسم)، أم الزمان (التبدل والتغير)، وهكذا، تظهر الإشارة العلمية بجلاء.
لقد عبر القرآن العظيم عن فقدان الجلد لتوصيل المؤثرات الواقعية عليه بلفظة (النضج)، والنضج علميًا هو (تجلط) أو (تخثر) بروتينات الألياف العصبية (في حالة حروق الدرجة الثالثة) نتيجة تعمق المؤثر وتغلغله إلى الطبقة تحت الجلدية، وذلك لشدته العنيفة.
ولما كان المقصود هو إذاقة العذاب للكافرين في جهنم استلزم هذا تجديد طبقات الجلد مرة أخرى ليشعر الإنسان بالألم، فإذا ازداد الإحراق، وتعمق أثره وتجلطت بروتينات الألياف العصبية السفلية؛ وفقد الإنسان القدرة على الإحساس بالألم تكرر تجديد الجلد بكافة طبقاته ليتكرر شعور الإنسان بالألم. . . وهكذا، وكما عبرت عنه الآية الخامسة والستين في سورة النساء بالضبط:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} ، والحكمة المقصودة هي:{لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} .
وهكذا يشير القرآن في هذه الآية إلى حقيقة علمية لم يتوصل العلماء إلى معرفتها إلا حديثًا، بعدما تقدمت علوم التشريح والأنسجة، واخترعت أجهزة التكبير والقياس، فالآية تشير إلى مراكز الإحساس في الجلد، وتشير إلى وجود البروتينات التي تتجلط بحرارة النار الشديدة.
وهذا ما توصل إليه العلم الحديث، فلقد اكتشف العلماء تغيرات وظيفية (فسيولوجية)
تطرأ على الجهاز التنفسي نتيجة لحروق الجلد العنيفة؛ مما يؤدي إلى اختلاف المعادلة الوظيفية التي تحكم نسبة التهوية/ التروية [Ventilation - perfusion ratio]
وكذلك فإن احتراق الجلد يسبب تلف القلب، ونلاحظ هذا في قول اللَّه تعالى: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} (الهمزة 4: 8).
وفيه يقول الفخر الرازي (في تفسير الكبير): {نَارُ اللَّهِ} الإضافة (أي: إضافة النار إلى اللَّه، أي: نسبتها إليه) للتفخيم؛ أي: هي نار لا كسائر النيران. {الْمُوقَدَةُ} : التي لا تخمد أبدًا، أو {الْمُوقَدَةُ} بأمره أو بقدرته. وفي الحديث النبوي:"أَوْقَدَ عليها ألف سنة حتى احمرت، ثم ألف سنة حتى ابيضت، ثم ألف سنة حتى اسودت، فهي الآن سوداء مظلمة"(1).
ثم يقول: أما قوله تعالى: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)} فأعلم أنه يقال: طلع الجبل، واطلع عليه إذا علاه. وفي تفسير الآية يقول: إن النار تدخل في أجوافهم، حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد (والفخر الرازي يقصد به القلب العضلي)، ولا أشد تألمًا منه بأدنى أذى يَمَاسُّه، فكيف إذا اطلعت نار جهنم واستولت عليه؟ ! ثم إن الفؤاد مع استيلاء النار عليه لا يحترق، إذ لو احترق لمات، وهذا هو المراد (يقصد المعنى) من قوله:{لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} ، ومعنى الإطلاع هو أن النار تنزل من اللحم إلى الفؤاد (2).
ويضيف العلم الحديث توضيحًا إلى هذا التفسير وما شابهه من تفسيرات للآية القرآنية، فلقد اكتشف العلماء حدوث تغيرات كبيرة في الفؤاد (القلب) والجهاز الدوراني بجسم المحروق؛ منها: هبوط انقباضية الفؤاد، هبوط في جانبه الأيسر، أو في جانبه الأيمن، أو في كليهما معًا، كما تحدث تغيرات ضارة جدًا في سوائل الدم وخلاياه.
وبعدُ فلنعُد إلى الآية الأساسية لموضوعنا الحالي، لنجد أن اللفظة القرآنية {نَضِجَتْ} (النساء: 56) ستظل باقية على مرِّ الزمان، وشاهدة بالإشارة إلى حقيقة علمية لم يتوصل
(1) رواه الترمذي (2516) وقَالَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا مَوْقُوفٌ أَصَحُّ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَفَعَهُ غَيْرَ يَحْيَى ابْنِ أَبِي بُكَيْرٍ عَنْ شَرِيكٍ، وضعفه السيوطي في الجامع الصغير (2799)، والألباني في الضعيفة (1305).
(2)
انظر مفاتيح الغيب 17/ 207 - 208 باختصار.
العلماءُ إليها سوى في العصر الحديث فقط، ألا وهي تجلط (تخثر) بروتينات النهايات العصبية في الطبقة الجلدية السفلى بفعل الحرارة الشديدة.
إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئًا ولا كاتبًا، فكيف جاء بهذه الحقيقة العلمية؟ ! كيف به يتحدث عن خصائص الأعصاب الحسية ووظائف مراكز الحس بالألم الموجود في الجلد؟ !
إنه بلا شك رسول يتلقى الوحي من اللَّه الخالق العظيم، وما تلقاه بلا شك كتابٌ عظيمٌ وهو القرآن، وحي اللَّه الذي ختم به حلقات اتصال السماء بالأرض، ولذلك أودع فيه أسرارًا لن تنتهي إلى يوم القيامة (1).
والحاصل أن هذه الآية خبر صريح عن أهل النار من الكفار، وبيان لاستمرار عذابهم فيها يوم القيامة، وأنهم يتألمون على الدوام بما فيها من العذاب ألمًا حسيًّا ومعنويًا، وقد أثبت العلم الحديث بما لا يدع مجالًا للشك أن الخلايا العصبية أو الجهاز العصبي جزءٌ من الجلد إذ هي مستبطنة فيه، وأن الجلد هو مصدر الإحساس بالألم أو طريق موصل للألم، وهذا إعجاز علمي قرآني، وبذلك يندفع التعارض بين الآية والعلم الحديث، وأن القرآن الكريم لا يخضع للتجارب؛ إنما تخضع التجارب له لأنه من عند حكيم عليم {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23)، واللَّه أعلم.
* * *
(1) إعجازات قرآنية في وظائف جلدية/ الإعجاز في جسم الإنسان (33) ل - د/ كارم غنيم بتصرف، نقلًا عن موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.