الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكنى بها عن امرأة:
فلا الظل من برد الضحا تستطيعه
…
ولا الفئ من برد العشى تذوق (1).
قال أ. د/كارم غنيم: الظل أمر متوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة، وهو أعدل (أفضل) الأحوال؛ لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع، وينفر منها الحس، والضوء الكامل يبهر الحس البصري، ويؤذي بالتسخين؛ ولذلك وصف اللَّه سبحانه وتعالى الجنة بالظل في قوله سبحانه:{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} (2).
الوجه الثامن: الشمس دليل للظل بسبب نسخها له لا بسبب اتباعها له
.
قال الطبري: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} يقول جلَّ ثناؤه: ثم دللناكم أيها الناس بنسخ الشمس إياه عند طلوعها عليه أنه خلْق من خلق ربكم يوجده إذا شاء، ويفنيه إذا أراد، والهاء في قوله:{عَلَيْهِ} من ذكر الظلِّ، ومعناه: ثم جعلنا الشمس على الظلِّ دليلًا، قيل: معنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس التي تنسخه لم يعلم أنه شيء؛ إذا كانت الأشياء إنما تعرف بأضدادها، نظير الحلو الذي إنما يعرف بالحامض، والبارد بالحارِّ، وما أشبه ذلك، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. (3)
قلت: فكيف يقول عاقل: إن الشمس تسير خلف الظل وتتبعه؟ وما حدث لهذا المشكك في هذه الآية إلا من جراء تعثر فهمه للغة العربية.
الوجه التاسع: مناقشة معنى كلمة: (الدليل) في قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا}
.
قال ابن عاشور: 1 - والدليل: المرشد إلى الطريق والهادي إليه، فجعل امتداد الظل لاختلاف مقاديره كامتداد الطريق وعلامات مقاديره مثل: صوى الطريق، وجعلت الشمس من حيث كانت سببًا في ظهور مقادير الظل كالهادي إلى مراحل بطريقة التشبيه
(1) الجامع لأحكام القرآن 13/ 38 (الفرقان: 44).
(2)
المصدر: موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في مقاله: الظل الممدود له حدود.
(3)
جامع البيان 19/ 267.
البليغ، فكما أن الهادي يخبر السائر أين ينزل من الطريق؟ كذلك الشمس بتسببها في مقادير امتداد الظل تُعَرِّفُ المستدلَ بالظل بأوقات أعماله ليشرع فيها.
2 -
وتعدية (دليلًا) بحرف (على) تفيد أن دلالة الشمس على الظل هنا دلالة تنبيه على شيء قد يخفى كقول الشاعر: (إلا على دليل)، وشمل هذا حالتي المد والقبض.
3 -
وجملة {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} عطف على جملة {مَدَّ الظِّلَّ} أو على جملة {جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} ؛ لأن قبض الظل من آثار جعل الشمس دليلًا على الظل.
4 -
و (ثم) الثانية مثل الأولى مفيدة التراخي الرتبي؛ لأن مضمون جملة {قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} أهم في الاعتبار بمضمونها من مضمون {جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} ؛ إذ في القبض دلالة من دلالة الشمس هي عكس دلالتها على أمتداده، فكانت أعجب إذ هي عمل ضد للعمل الأول، وصدور الضدين من السبب الواحد أعجب من صدور أحدهما السابق في الذكر.
5 -
والقبض: ضد المد فهو مستعمل في معنى النقص أي: نقصنا امتداده والقبض هنا استعارة للنقص، وتعديته بقوله:(إلينا) تخييل شبه الظل بحبل أو ثوب طواه صاحبه بعد أن بسطه على طريقة المكنية، وحرف (إلى) ومجروره تخييل.
وموقع وصف القبض بـ (يسيرًا) هنا أريد أن هذا القبض يحصل ببطء دون طفرة فإن في التريث تسهيلًا لقبضه؛ لأن العمل المجزأ أيسر على النفوس من المجتمع غالبًا؛ فأطلق اليسر وأريد به لازم معناه عرفًا وهو التدريج ببطء على طريقة الكناية ليكون صالحًا لمعنى آخر سنتعرض إليه في آخر كلامنا، وتعدية القبض بـ (إلينا) لأنه ضد المد الذي أسند إلى اللَّه في قوله:{مَدَّ الظِّلَّ} وقد علم من معنى: {قَبَضْنَاهُ} أن هذا القبض وأقع بعد المد فهو متأخر عنه.
6 -
وفي مد الظل وقبضه نعمةُ معرفةِ أوقات النهار للصلوات وأعمال الناس ونعمة التناوب في انتفاع الجماعات والأقطار بفوائد شعاع الشمس وفوائد الفيء، بحيث إن الفريق الذي كان تحت الأشعة يتبرد بحلول الظل، والفريق الذي كان في الظل ينتفع
بانقباضه، هذا محل العبرة والمنة اللتين تتناولهما عقول الناس على اختلاف مداركهم.
7 -
ووراء ذلك عبرة علمية كبرى توضحها قواعد النظام الشمسي، وحركة الأرض حول الشمس، وظهور الظلمة والضياء، فليس الظل إلا أثر الظلمة؛ فإن الظلمة هي أصل كيفيات الأكوان ثم انبثق النور بالشمس، ونشأ عن تداول الظلمة والنور نظام الليل والنهار، وعن ذلك نظام الفصول، وخطوط الطول والعرض للكرة الأرضية وبها عرفت مناطق الحرارة والبرودة.
8 -
ومن وراء ذلك إشارة إلى أصل المخلوقات؛ كيف طرأ عليها الإيجاد بعد أن كانت عدمًا، وكيف يمتد وجودها في طور نمائها؟ ثم كيف تعود إلى العدم تدريجًا في طور انحطاطها إلى أن تصير إلى العدم؟ فذلك مما يشير إليه {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} ، فيكون قد حصل من التذكير بأحوال الظل في هذه الآية مع المنة، والدلالة على نظام القدرة تقريب لحالة إيجاد الناس، وأحوال الشباب وتقدم السن، وأنهم عقب ذلك صائرون إلى ربهم يوم البعث مصيرًا لا إحالة فيه ولا بعد كما يزعمون فلما صار قبض الظل مثلًا لمصير الناس إلى اللَّه بالبعث وصف القبض بـ (يسير) تلميحًا إلى قوله:{ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} .
9 -
وفي هذا التمثيل إشارة إلى أن الحياة في الدنيا كظل يمتد وينقبض؛ وما هي إلا ظل، فهذان المحملان في الآية من معجزات القرآن العلمية (1).
قال القرطبي: فـ (الدليل) فعيل بمعنى: الفاعل، وقيل: بمعنى: المفعول كالقتيل والدهين والخضيب؛ أي: دللنا الشمس على الظل حتى ذهبت به، أي: أتبعناها إياه، فالشمس دليل أي: حجة وبرهان، وهو الذى يكشف المشكل ويوضحه، ولم يؤنث الدليل وهو صفة الشمس لأنه في معنى الاسم، كما يقال: الشمس برهان والشمس حق، {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} يريد ذلك الظل الممدود {إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} أي: يسيرًا قبضه علينا -وكل أمر
(1) التحرير والتنوير 10/ 64.