الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أرأيت قول اللَّه: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)} ؟ قال: إن يوم القيامة يوم له حالات وتارات في حال لا ينطقون، وفي حال ينطقون، وفي حال يعتذرون، لا أحدثكم إلا ما حدثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان يوم القيامة ينزل الجبار في ظلل من الغمام، وكل أمة جاثية في ثلاثة حجب مسيرة كل حجاب خمسون ألف سنة، حجاب من نور، وحجاب من ظلمة، وحجاب من ماء؛ لا يُرى لذلك، فيأمر بذلك الماء فيعود في تلك الظلمة، ولا تسمع نفس ذلك القول إلا ذهبت فعند ذلك لا ينطقون"(1).
أولًا: إن الكتمان وعدمه يختلف ما بين النفخة الأولى والنفخة الثانية:
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه قال سعيد: جاءه رجل، فقال: يا ابن عباس، إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ، فقد وقع ذلك في صدري! فقال ابن عباس: أتكذيبٌ؟ فقال الرجل: ما هو بتكذيب! ولكن اختلاف. قال: فهلم ما وقع في نفسك. قال له الرجل: أسمع اللَّه تعالى يقول: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} ، وقال في آية أخرى:{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)} ، وقال في آية أخرى:{وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} ، وقال في آية أخرى:{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فقد كتموا في هذه الآية؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هات ما وقع في نفسك من هذا؟ فقال السائل: إذا أنت أنبأتني بهذا فحسبي. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قوله تعالى: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} فهذه في النفخة الأولى، ينفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء اللَّه فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، ثم إذا كان في النفخة الأخرى قاموا فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (2).
قال ابن حجر: وحاصل جواب ابن عباس: أن نفي المسائلة فيما قبل النفخة الثانية عند
تشاغلهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط وإثباتها فيما عدا ذلك، وهذا منقول عن السدي؛ أخرجه الطبري، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن نفي المساءلة عند النفخة الأولى وإثباتها بعد النفخة الثانية (1).
وقال أيضًا: والآية الأخرى التي ذكرها ابن عباس وهي قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فقد ورد ما يؤيده من حديث أبي هريرة؛ أخرجه مسلم في أثناء حديث وفيه: "ثم يلقى الثالث فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك ويثني ما استطاع فيقول الآن نبعث شاهدًا عليك فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليَّ؟ ! فيختم على فيه وتنطق جوارحه"(2).
قال الشوكاني: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} قيل: هذه هي النفخة الأولى. وقيل: الثانية؛ وهذا أولى، وهي النفخة التي تقع بين البعث والنشور. وقيل: المعنى: فإذا نفخ في الأجساد أرواحها على أن الصور جمع صورة لا القرن؛ ويدل على هذا قراءة ابن عباس والحسن {الصُّورِ} بفتح الواو مع ضم الصاد جمع صورة، وقرأ أبو رزين بفتح الصاد والواو، وقرأ الباقون بضم الصاد وسكون الواو وهو القرن الذي ينفخ فيه، {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} أي: لا يتفاخرون بالأنساب ويذكرونها لما هم فيه من الحيرة والدهشة {وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} أي: لا يسأل بعضهم بعضًا فإن لهم إذ ذاك شغلًا شاغلًا ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)} ، وقوله:{وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)} ، ولا ينافي هذا ما في الآية الأخرى من قوله:{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)} فإن ذلك محمول على اختلاف المواقف يوم القيامة، فالإثبات باعتبار بعضها والنفي باعتبار بعض آخر؛ كما قررناه في نظائر هذا مما أُثبت تارة ونُفي أخرى (3).
(1) فتح الباري 8/ 558.
(2)
فتح الباري 8/ 558.
(3)
فتح القدير 3/ 715.