الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اعلم أن هذا الشرْج (1) غور من العربية بعيد ومذهب نازح فسيح، قد ورد به القرآن وفصيح الكلام منثورًا ومنظومًا، كتأنيث المذكر، وتذكير المؤنث، وتصور معنى الواحد في الجماعة، والجماعة في الواحد، وفي حمل الثاني على لفظ قد يكون عليه الأول أصلا كان ذلك اللفظ أو فرعا وغير ذلك. . .
والحمل على المعنى واسع في هذه اللغة جدًّا. . . ومن ذلك قوله:
بدا لي أنى لستُ مدركَ ما مضى
…
ولا سابقٍ شيئا إذا كان جائيا (2)
لأن هذا موضع يحسن فيه لست بمدرك ما مضى ومنه قوله سبحانه: (فأصدَّقَ وأكنْ)، وقوله:
فأبلوني بليَّتكم لعَلِّى
…
أصالحكم وأستدرجْ نَويّا (3)
حتى كأنه قال: أصالحْكم وأستدرجْ نويا. (4)
الوجه الثالث: توجيه جزم الفعل عطفا على المنصوب
.
قال سيبويه: وسألت الخيل عن قوله عز وجل: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} فقال: هذا كقول زهير:
بدا لي أنّي لست مدركَ ما مضى
…
ولا سابقٍ شيئًا إذا كان جائيا
فإنَّما جرّوا هذا؛ لأنَّ الأوّل قد يدخله الباء (وهو قوله: مدرك)، فجاءوا بالثاني (وهو
(1) الشَرْج: الضَّرْب يقال هُما شَرْج واحدٌ وعلى شَرْج واحد أَي ضرْب واحد؛ لسان العرب لابن منظور شرج.
(2)
البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 287.
(3)
البيت لأبي داود الإيادي، وكان أبو داود جاور هلال بن كعب من تميم، فلعب غلام له مع غلمان الحي في غدير، فغطسوه في الماء، ومات، فعزم أبو داود على مفارقتهم وذم جوارهم، وأحسن منهم أنهم يحاولون إرضاءه، فقال هذا البيت وبيتا آخر. وقد أعطاه هلال فوق الرضا، حتى ضرب به الثل في الوفاء فقيل: جار كجار أبي داود. وقوله: "فأبلوني" يقال: أبلاه إذا صنع به صنعًا جميلا، والبلية اسم منه. و"نويا" يريد نواي والنوي: النية، وهو الوجه الذي يقصد، و"أستدرج": أرجع أدراجي من حيث كنت. يقول: أحسنوا إليَّ فإن أحسنتم فلعلي أصالحكم وأرجع حيث كنت جارا لكم. وقد أحسنوا إليه، وظل على جوارهم. وانظر شرح شواهد المغني البغدادي في الشاهد 669.
(4)
الخصائص لابن جنى 2/ 423، 424.
قوله: سابق) وكأنَّهم قد أثبتوا في الأول الباء، فكذلك هذا لما كان الفعل الذي قبله قد يكون جزمًا ولا فاء فيه تكلّموا بالثاني، وكأنهم قد جزموا قبله، فعلى هذا توهموا هذا. (1)
وكذلك وجَّه الإمام الزمخشري مجيء الفعل: "وأكن" مجزومًا مردوفًا على الفعل المنصوب "فأصدق"(2) بأن قوله تعالى: "لولا أخرتني. . " في محل جزم لتضمنه معنى الشرط، فكأنه قيل: إن أخرتني أصدقْ وأكنْ من الصالحين.
قال الزمخشري: وقُرِئَ: "وأكنْ"، عطفًا على محل:(فَأَصَّدَّقَ) كأنه قيل: إِنْ أخرتني أصدَّقْ وأكنْ، ومن قرأ:"وأكونَ" على النصب فعلى اللفظ، وقرأ عبيد بن عمير:"وأكونُ"، على:"وأنا أكونُ" عِدَةٌ منه بالصلاح. (3)
فالعطف على المحل المجزوم بالشرط المفهوم مما قبله جائز عند العرب، ولو لم تكن الفاء لكانت كلمة:(أصدق) مجزومة، فجاز العطف على موضع الفاء.
قال الفرَّاءُ: يقال: كيف جزم: (وأكن)، وهى مردودة على فعل منصوب؟
فالجواب في ذلك: أن -الفاء- لو لم تكن في أصدق كانت مجزومة، فلما رددت (وأكنْ) - ردّت على تأويل الفعل لو لم تكن فيه الفاء، ومَن أثبت الواو ردَّه على الفعل الظاهر فنصبه، وهى في قراءة عبد اللَّه، "وأكونَ من الصالحين".
وَقد يجوز نصبها في قراءتنا، وإن لم تكن فيها الواو؛ لأن العربَ قد تسقط الواو في بعض الهجاء، كما أسقطوا الألف من سليمن وأشباهه، ورأيت في بعض مصاحف عبد اللَّه:(فقولا): فقلا بغير واو. (4)
فالتوجيه بأن هذا الفعل مجزوم على تضمن عبارة التمني: "لولا أخرتني إلى أجل
(1) الكتاب لسيبويه 3/ 100.
(2)
قرأ الجمهور فأصدقَ وهو منصوب على جواب الرغبة. البحر المحيط لأبي حيان 8/ 270.
(3)
الكشاف للزمخشري 4/ 544.
(4)
معاني القرآن للفراء 3/ 160.
قريب "أو على الشرط المقدر بـ "إن أخرتني" هو توجيه سديد، وقد سبق إلى القول به علمان من أئمة النحو، هما الخليل وسيبويه.
والذي سوَّغ إيثار عبارة التمني: "لولا أخرتني" على الشرط الصريح "إن أخرتني" - أن قائل هذه العبارة يقولها في ساعة يملكه فيها اليأس من التأخير وهى ساعة حضور الموت، والتمني كما نعلم يستعمل في طلب المحال أو المتعذر، أما الشرط فيستعمل في الأمور التي لا استحالة فيها ولا تعذر.
فهو إذن من تبادل الصيغ وإحلال بعضها محل بعض لداعٍ بلاغيِّ، وقرين إرادة الشرط من عبارة التمني هو جزم الفعل:"أكن" وسره البلاغي أن من حضرته الوفاة وهو مقصر في طاعة اللَّه تدفعه شدة الحاجة التي نزلت به إلى طمعٍ من نوع ما هو مستحيل أو متعذر الوقوع، ومما تقدم يظهر لنا استقامة العبارة القرآنية وبُعْدُها عن كل خلل، ووفاؤُها بالمعنى المراد نحوًا وبيانًا.
* * *