الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} هذا موضع يكون في المؤنثة والثنتين والجميع منها بلفظ واحد ولا يُدْخلون فيها الهاء؛ لأنه ليس بصفة ولكنه ظرف لهن وموضع، والعرب تفعل ذلك في قريب وبعيد قال:
فإن تمس ابنة السّهمىّ منا
…
بعيدا لا نكلّمها كلاما
وقال الشّنفرى:
تؤرقنى وقد أمست بعيدا
…
وأصحابى بعيهم أو تباله
فإذا جعلوها صفة في معنى مقتربة قالوا: هي قريبة وهما قريبتان وهن قريبات. (1)
- ويجوز أن يسوى في قريب وبعيد، وقليل وكثير، بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما. (2)
كما قالوا: هو صديق، وهم صديق، وهي صديق، وهن صديق. (3)
الوجه الخامس: قال: قريب، ولم يقل: قريبة لأن تأنيثها غير حقيقي
.
فقيل: لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي؛ قاله الجوهري. وتأنيث "رحمت" لما كان تأنيثًا مجازيًا لا حقيقيًا جاز في الاستعمال اللغوي تأنيث خبره وصفته، وجاز تذكيرهما على حدٍ سواء، سواء كان في ضرورة الشعر، أو في النثر. (4)
ومن وراء هذه التوجيهات اللغوية والنحوية تكمن نكت بلاغية:
فقد أورد ابن القيم -يرحمه اللَّه- في بدائع الفوائد اثنا عشر مسلكًا لتوجيه تذكير
(1) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 216.
(2)
الكشاف للزمخشري 2/ 422.
(3)
البحر المحيط لأبي حيان 4/ 315.
(4)
وهذا ليس بجيد إلا مع تقديم الفعل، أما إذا تأخر فلا يجوز إلا التأنيث تقول: الشمس طالعة ولا يجوز طالع إلا في ضرورة الشعر بخلاف التقديم فيجوز: أطالعة الشمس وأطالع الشمس كما يجوز طلعت الشمس وطلع الشمس ولا يجوز طلع إلا في الشّعر؛ إعراب القرآن لابن سيدة: سورة الأعراف، وانظر: مغني اللبيب لابن هشام 2/ 221.
(قريب) والتي كان حقها التأنيث -زعموا- وأقوى ما ذكره:
المسلك السادس: إن هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر لكونه تبعًا له ومعنى من معانيه، فإذا ذكر أغنى عن ذكره؛ لأنه يفهم منه، ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى:{إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} (الشعراء: 4) فاستغنى عن خبر الأعناق بالخبر عن أصحابها، ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى:(واللَّه ورسوله أحق أن يرضوه)؛ المعنى: واللَّه أحق أن يرضوه ورسوله كذلك، فاستغنى بإعادة الضمير إلى اللَّه إذ إرضاؤه هو إرضاء رسوله فلم يحتج أن يقول: يرضوهما، فعلى هذا يكون الأصل في الآية: إن اللَّه قريب من المحسنين، وإن رحمة اللَّه قريبة من المحسنين، فاستغنى بخبر المحذوف عن خبر الموجود وسوغ ذلك ظهور المعنى. وهذا المسلك مسلك حسن إذا كسي تعبيرًا أحسن من هذا وهو مسلك لطيف المنزع دقيق على الأفهام وهو من أسرار القرآن والذي ينبغي أن يعبر عنه به: أن الرحمة صفة من صفات الرب تبارك وتعالى، والصفة قائمة بالموصوف لا تفارقه؛ لأن الصفة لا تفارق موصوفها فإذا كانت قريبة من المحسنين فالموصوف تبارك وتعالى أولى بالقرب منها، بل قرب رحمته تبع لقربه هو تبارك وتعالى من المحسنين، وقد تقدم في أول الآية أن اللَّه تعالى قريب من أهل الإحسان بإثابته ومن أهل سؤاله بإجابته وذكرنا شواهد ذلك، وأن الإحسان يقتضي قرب الرب من عبده كما أن العبد قريب من ربه بالإحسان، وأن من تقرب منه شبرًا تقرب اللَّه منه ذراعًا، ومن تقرب منه ذراعًا تقرب منه باعًا، فالرب تبارك وتعالى قريب من المحسنين ورحمته قريبة منهم، وقربه يستلزم قرب رحمته ففي حذف التاء ههنا تنبيه على هذه الفائدة العظيمة الجليلة، وأن اللَّه تعالى قريب من المحسنين وذلك يستلزم القربين: قربه وقرب رحمته، ولو قال: إن رحمة اللَّه قريبة من المحسنين لم يدل على قربه تعالى منهم؛ لأن قربة تعالى أخص من قرب رحمته، والأعم لا يسلتزم الأخص بخلاف قربه، فإنه لما كان أخص استلزم الأعم وهو قرب رحمته فلا تستهن بهذا المسلك فإن له شأنًا وهو متضمن لسر بديع من أسرار
الكتاب وما أظن صاحب هذا المسلك قصد هذا المعنى ولا ألم به وإنما أراد أن الإخبار عن قرب اللَّه تعالى من المحسنين كاف عن الإخبار عن قرب رحمته منهم.
فهو مسلك سابع في الآية وهو المختار وهو من أليق ما قيل فيها، وإن شئت قلت قربه تبارك وتعالى من المحسنين وقرب رحمته منهم متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر فإذا كانت رحمته قريبة منهم فهو أيضًا قريب منهم، وإذا كان المعنيان متلازمين صح إرادة كل واحد منهما، فكان في بيان قربه سبحانه من المحسنين من التحريض على الإحسان واستدعائه من النفوس وترغيبها فيه غاية حظ وأشرفه وأجله على الإطلاق، وهو أفضل إعطاء أعطيه العبد، وهو قربة تبارك وتعالى من عبده الذي هو غاية الأماني ونهاية الآمال وقرة العيون وحياة القلوب وسعادة العبد كلها، فكان في العدول عن قريبة إلى قريب من استدعاء الإحسان وترغيب النفوس فيه ما لا يتخلف بعده إلا من غلبت عليه شقاوته ولا قوة إلا باللَّه تعالى. (1)
وبعد هذا العرض الذي ربما طال بعض الشيء لإحاطة القارئ بما حول الآية؛ فلا يخفى ما في تذكير (قريب) مع أنها تعود -ظاهرًا- على مؤنث (رحمت) من روعة في النظم، إذ هناك فرق بين قرب المكان وقرب النسب (الصاهرة)، وهذا من لطيف الفروق العربيّة في استعمال المشترك إزالةً للإبهام بقدر الإمكان.
وكذلك تغليب قرب اللَّه عز وجل على قرب رحمته، فقربه عز وجل قرب لرحمته.
والإيجاز الذي في الاكتفاء بخبر واحد عن اللَّه عز وجل وصفته (رحمت)؛ فالصفة لا تفارق موصوفها.
* * *
(1) فليراجع كلام ابن القيم في بدائع الفوائد 3/ 540 ففيه فوائد بديعة.