الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"الضّعيفة"(865).
قلت: إن كان الأمر كما قال ابن عبد البر والقرطبي والذهبي وغيرهم من أهل العلم قديمًا، ومن المعاصرين فلا يقبل قول الآجري:"أما حديث مجاهد في فضيلة النبيّ صلى الله عليه وسلم وتفسيره لهذه الآية أنه يُقعده على العرش، فقد تلقاها الشيوخ من أهل العلم والنقل لحديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تلقوها بأحسن تلقٍ، وقبلوها بأحسن قبول، ولم ينكروها. وأنكروا على من ردّ حديث مجاهد إنكارًا شديدًا، وقالوا: من ردّ حديث مجاهد فهو رجل سوء" انتهى.
لأنّ الأمور الغيبية لا تثبت بالرّوايات الموقوفة الضّعيفة وقد ثبت بالروايات الصّحيحة المرفوعة والموقوفة أن المقام المحمود هو الشّفاعة الكبرى، فوجب المصير إليه وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين وهم أعلم بمجاهد وغيره، بل قد نُقل عن مجاهد نفسه أنّ المقام المحمود هو الشّفاعة. أخرجه ابن جرير في تفسيره (15/ 45) عن محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: عيسى، وحدّثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله تعالى:{مَقَامًا مَحْمُودًا} قال: شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
وأمّا من قال بقول مجاهد فلعلّه قال ذلك مغايظة الجهمية لأنّهم ينكرون أن يكون شيء على العرش، كما قال أبو داود السّجستانيّ بعد أن رواه عن إبراهيم بن موسى الرّازيّ، قال: ثنا محمد ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد في قوله تعالى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قال: يجلسه على عرشه.
قال أبو داود: "من أنكر هذا فهو عندنا متّهم. وقال: ما زال النّاس يحدّثون بهذا يريدون مغايظة الجهميّة، وذلك أنّ الجهميّة ينكرون أن على العرش شيئًا". رواه الخلّال في السنة (244)، وفي إسناده ليث وهو ابن أبي سليم صدوق اختلط أخيرًا ولم يتميز حديثه فترك.
ولكن لا إحالة في قبول هذا الخبر لو ثبت كما قال ابن جرير الطّبريّ بعد أن صوَّب بأنّ المقام المحمود هو الشّفاعة، قال:"وهذا وإن كان هو الصحيح من القول في تأويل قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} لما ذكرنا من الرواية عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، فإن ما قاله مجاهد من أن اللَّه يُقعد محمدًا صلى الله عليه وسلم على عرشه، قول غير مدفوع صحته، لا من جهة خبر ولا نظر؛ وذلك لأنّه لا خبر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن التابعين بإحالة ذلك" انتهى.
6 - باب شفاعة النّبيّ صلى الله عليه وسلم لكلّ من قال: لا إله إلّا اللَّه، ولم يشرك باللَّه ولو عمل الكبائر واستحقّ النار
• وعن أبي هريرة، أنه قال: قيل: يا رسول اللَّه، مَنْ أسعدُ النّاس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لقد ظننتُ يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث
أحدٌ أوّلُ منك، لما رأيتُ من حرصك على الحديث. أسعدُ النّاس بشفاعتي يوم القيامة، من قال: لا إله إلّا اللَّه خالصًا من قلبه أو نفسه".
صحيح: رواه البخاريّ في العلم (99) عن عبد العزيز بن عبد اللَّه، قال: حدّثني سليمان بن عمرو بن أبي عمرو، عن سعيد بن أبي سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، فذكر مثله.
• عن أنس قال: سمعتُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كان يومُ القيامة شُفِّعْتُ. فقلت: يا ربّ أدخل الجنّة من كان في قلبه خردلة، فيدخلون، ثم أقول: أدخل الجنّة من كان في قلبه أدنى شيء".
قال أنس: كأنّي أنظر إلى أصابع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
صحيح: رواه البخاريّ في التوحيد (7509) عن يوسف بن راشد، حدثنا أحمد بن عبد اللَّه، حدّثنا أبو بكر بن عياش، عن حُميد، قال: سمعت أنسًا، فذكر الحديث.
• عن أنس بن مالك، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يخرجُ قومٌ من النّار بعد ما مسّهم منها سَفْعٌ فيدخلون الجنّة، فيسمّيهم أهل الجنّة الجهنميين". وفي رواية: "ليصيبنَّ أقوامًا سَفْعٌ من النّار بذنوب أصابوها عقوبة، ثم يدخلهم اللَّه الجنّة بفضل رحمته، يقال لهم الجهنميّون".
صحيح: رواه البخاريّ في الرقاق (6559) عن هدبة بن خالد، حدّثنا همّام، عن قتادة، حدّثنا أنس بن مالك، فذكره.
والرّواية الثانية عند البخاريّ أيضًا (7450) من وجه آخر عن هشام الدّستوائيّ، عن قتادة، عن أنس، فذكر مثله.
وقوله: "سَفْع" من سَفَعَ يسْفَعُ سَفْعًا: قبض عليه وجذبه بشدّة، ومنه قوله تعالى:{كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} ويقال: سفعتِ النّارُ وجهه غيّرتْ لونَ بشرته وسوَّدتْه.
هؤلاء أهل التّوحيد ارتكبوا ذنوبًا وخطايا، فأُدخلوا النّار، فأدخلهم اللَّه الجنّة برحمته، وهم الذين تشملهم الشّفاعة. وأما أهل الشّرك فلا شفاعة لهم.
• عن أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أمّا أهل النّار الذين هم أهلها فإنّهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النّارُ بذنوبهم (أو قال: بخطاياهم)، فأماتهم إماتةً حتّى إذا كانوا فحمًا أُذن بالشّفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبثُّوا على أنهار الجنّة، ثم قيل: يا أهل الجنّة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحِبَّةِ تكون في حَميل السّيل".
فقال رجل من القوم: كأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد كان بالبادية.
صحيح: رواه مسلم في الإيمان (185) من طرق عن أبي سلمة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، فذكر مثله.
قوله: "ضبائر" وهو جمع ضِبارة -بكسر الضّاد وفتحها- بمعني جماعات في تفرقة، وقوله:"فبُثُّوا" أي فرقّوا.
• عن جابر، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يخرج من النّار بالشّفاعة كأنّهم الثّعارير". قلت: ما الثّعارير؟ قال: الضغابيس، وكان قد سقط فمُه. فقلت لعمرو بن دينار: أبا محمد، سمعتَ جابر بن عبد اللَّه يقول: سمعتُ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج بالشّفاعة من النّار"؟ قال: نعم.
متفق عليه: رواه البخاريّ في الرّقاق (6558)، ومسلم في الإيمان (191: 318) كلاهما من حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر فذكر مثله، واللفظ للبخاريّ، وليس عند مسلم:"كأنّهم الثّعارير" وتفسيره.
و"الضغابيس" هي صغار القثاء، وأحدها ضغبوس وقيل غير ذلك.
وقد جاء بيان هذه القصة من وجه آخر، أخرجه مسلم وهو الآتي:
• عن يزيد الفقير، قال: كنتُ قد شغفني رأيٌ مِنْ رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريدُ أن نحجَّ، ثم نخرج على النّاس. قال: فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد اللَّه يحدّث القوم -جالسٌ إلى سارية- عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قال: فإذا هو قد ذكر الجهنَّميين. قال: فقلت له: يا صاحبَ رسولِ اللَّه، ما هذا الذي تحدِّثون؟ واللَّه يقول:{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة آل عمران: 192]، و {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [سورة السجدة: 20] فما هذا الذي تقولون؟ قال: فقال: أتقرأ القرآن؟ قلتُ: نعم. قال: فهل سمعتَ بمقام محمد عليه السلام؟ (يعني الذي يبعثه اللَّه فيه)، قلت: نعم، قال: فإنّه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرجُ اللَّه به من يخرج. قال: ثم نعت وضعَ الصّراط ومرَّ الناسِ عليه. قال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك. قال: غير أنه قد زعم أنّ قومًا يخرجون من النّار بعد أن يكونوا فيها. قال: يعني فيخرجون كأنهم عيدان السّماسم. قال: فيدخلون نهرًا من أنهار الجنّة، فيغسلون فيه، فيخرجون كأنّهم
القراطيس. فخرجنا قلنا: ويحكم! أترون الشيخ يكذبُ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فرجعنا، فلا واللَّه ما خرج منا غير رجل واحد. أو كما قال أبو نعيم.
صحيح: أخرجه مسلم في الإيمان (191: 320) عن الحجاج بن الشاعر، حدّثنا الفضل بن دكين، حدّثنا أبو عاصم (يعني محمد بن أبي أيوب) قال: حدثني يزيد الفقير، فذكره.
"الفقير" بالفاء ثم القاف على وزن عظيم، وهو لقب له؛ لأنّه كان يشكو فقار ظهره، لا أنّه ضد الغني.
• عن عمران بن حصين، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يخرج قوم من النّار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيدخلون الجنّة يُسَمَّون الجهنميين".
صحيح: رواه البخاريّ في الرّقاق (6566) عن مسدّد، حدّثنا يحيى، عن الحسن بن ذكوان، حدّثنا أبو رجاء، حدّثنا عمران بن حصين، فذكره.
ورُوي مثل هذا عن ابن عباس.
قال ابن خزيمة في التوحيد (544) سمعت بندار -وهو محمد بن بشار- في الرّحلة الثانية، وقيل له: حدَّثكم يحيى بن سعيد، قال: حدّثنا الحسن بن ذكوان، عن أبي رجاء العُطارديّ، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثله؟ فقال بندار: نعم.
قال ابن خزيمة: "لستُ أُنكر أن يكون الخبران صحيحين؛ لأنّ أبا رجاء قد جمع بين ابن عباس وعمران بن حصين في غير هذا الحديث أيضًا".
• عن أنس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي".
صحيح: رواه أبو داود (4739)، والترمذيّ (2435)، وأحمد (13222)، وابن خزيمة في التوحيد (527)، وابن حبان (6468)، والحاكم (1/ 69) كلّهم من طرق عن أنس بن مالك، فذكره.
قال الترمذيّ: "حسن صحيح غريب".
وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشّيخين".
وقوله: "شفاعتي لأهل الكبائر" فإنّما أراد الشّفاعة بعد الشّفاعة الكبرى التي عمّت جميع المسلمين وهي شفاعة لمن قد أُدخل النّار من المؤمنين بذنوبهم وخطاياهم قد ارتكبوها، ولم يغفرها اللَّه لهم في الدّنيا، فيخرجون من النّار بشفاعته صلى الله عليه وسلم". ذكره ابن خزيمة (2/ 577).
• عن جابر، قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ شفاعتي يوم القيامة لأهل الكبائر من أمّتي".
صحيح: رواه ابن ماجه (4310) عن عبد الرحمن بن إبراهيم الدّمشقيّ، قال: حدّثنا الوليد بن مسلم، قال: حدّثنا زهير بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، فذكره.
وهذا إسناد صحيح، والوليد بن مسلم وإن كان مدلِّسًا إلا أنّه صرَّح بالتحديث، كما أنّه توبع
فقد أخرجه ابن خزيمة في التوحيد (531)، وابن حبان (6467)، والحاكم (1/ 69) كلّهم من طريق عمرو بن أبي سلمة، ثنا زهير بن محمد به مثله.
قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم".
وقال: وقد تابعه محمد بن ثابت البناني عن جعفر.
قلت: محمد بن ثابت البنانيّ تكلّم فيه غير واحد من أهل العلم، ومن طريقه رواه الترمذيّ (2436)، وابن خزيمة في كتاب التوحيد (530)، والحاكم (1/ 69)، والآجريّ في الشّريعة (778) كلّهم من طريق أبي داود الطّيالسيّ عنه، عن جعفر بن محمد بإسناده، مثله.
وقال محمد بن علي وهو أبو جعفر: قال لي جابر: "يا محمد، من لم يكن من أهل الكبائر فما له، وللشّفاعة؟ ! ".
قال الترمذيّ: "حديث غريب من هذا الوجه".
قلت: وهو كما قال، فإنّه غريب من الوجه الذي أخرجه، وفيه زيادة منكرة ولم يتابع عليها؛ ولذا أدخله ابنُ حبان في المجروحين في ترجمة محمد بن ثابت البناني (925) وإن لم يذكر تلك الزّيادة.
وأمّا الوجه الأول الذي أخرج من طريقه ابن خزيمة وابن حبان فهو صحيح.
• عن كعب بن عجرة، قال: قلت: يا رسول اللَّه، الشّفاعة؟ قال:"الشّفاعة لأهل الكبائر من أمّتي".
حسن: رواه الآجريّ في الشّريعة (780)، والخطيب في تاريخ بغداد (3/ 40)(في ترجمة محمد بن عمر بن عبد العزيز الهمدانيّ) كلاهما عن طريق محمد بن بكّار، حدّثنا عنبسة بن عبد الواحد، عن واصل، عن أُمَيّ أبي عبد الرحمن، عن الشّعبيّ، عن كعب بن عجرة، فذكره.
قال الخطيب عقب رواية الحديث: "قال علي بن عمر -يعني الدارقطنيّ-: هذا حديث غريب من حديث الشّعبيّ، عن كعب بن عجرة، تفرّد به أُمَيّ بن ربيعة الصيرفيّ عنه، وتفرّد به واصل بن حيّان، عن أُمَيّ، ولا يعلم حدَّث به عنه غير عنبسة بن عبد الواحد".
قلت: رجال إسناده ثقات لا يضرّ، تفرّد بعضهم عن بعض، أما واصل فيرى الدّارقطني أنه ابن حيان الأحدب وهو ثقة ثبت من رجال الجماعة، وقيل: هو مولى أبي عيينة وهو ثقة حجّة أيضًا.
وأمّا أُمَيّ فهو ابن ربيعة الصّيرفيّ أبو عبد الرحمن وهو ثقة أيضًا.
• عن عوف بن مالك الأشجعي قال: عَرَّس رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلةٍ، فافترش كلُّ رجل منّا ذراعَ راحلته، قال: فانتهيتُ إلى بعض الليل فإذا ناقهُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليس قُدَّامها أحدٌ، قال: فانطلقتُ أطلب رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فإذا معاذُ بن جبل وعبد اللَّه ابن قيس قائمان، قلت: أين رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قالا: ما ندري غير أنّا سمعنا صوتًا
بأعلى الوادي، فإذا مثل هزيز الرَّحل. قال:"امْكُثُوا يسيرًا". ثم جاءنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "إنّه أتاني اللّيلة آتٍ من ربِّي فخيَّرني بين أن يَدخُلَ نصفُ أمَّتي الجنَّةَ وبين الشَّفاعةِ فاخترتُ الشَّفاعةَ". فقلنا: ننشُدُك اللَّهَ والصُّحبةَ لَمَا جعلْتَنَا من أهل شفاعتك. قال: "فإنّكم من أهل شفاعتي". قال: فأقبلْنا مَعانيقَ إلى النّاس، فإذا هم قد فَزعُوا وفَقَدُوا نَبِيَّهم، وقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إنّه أتاني اللّيلة آتٍ من ربِّي فخيَّرني بين أن يَدخُلَ نصفُ أمَّتي الجنَّةَ وبين الشَّفاعةِ فاخترتُ الشَّفاعةَ". قالوا: يا رسول اللَّه نَنشُدُك اللَّهَ والصُّحْبة لما جعلتنا من أهل شفاعتك. قال: فلمّا أضَبُّوا عليه، قال:"فأنا أشهدُكم أنَّ شفاعتي لمن لا يشرك باللَّه شيئًا".
صحيح: رواه الإمام أحمد (24002)، وابن خزيمة (516، 517)، وابن حبان (211، 6463)، والآجري في الشريعة (793)، والحاكم (1/ 67) كلّهم من طريق قتادة، عن أبي المليح، عن عوف بن مالك الأشجعيّ، فذكره. ولفظهم سواء.
وأخرجه الترمذيّ (2441) من هذا الوجه مختصرًا.
ورواه ابن ماجه (4317) من وجه آخر مختصرًا أيضًا، وفيه:"هي لكل مسلم". وله طرق أخرى، انظر كتاب التوحيد لابن خزيمة.
• عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فنزلنا ليلة، فقمتُ أطلبُ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم فلم أجدْه، ووجدتُ معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعريّ فقالا: ما حاجتك؟ فقلت: أين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقالا: لا ندري فبينا نحن على ذلك، إذْ سمعنا في أعلى الوادي هديرًا كهدير الرَّحا، فلم نلبث أن جاء النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم. فقلنا: يا رسول اللَّه فقدناك اللّيلة؟ فقال: "إنه أتاني آتٍ من ربّي فخيّرني بين أن تكون أمتي شطر أهل الجنّة وبين الشّفاعة، فاخترتُ الشّفاعة". فقلنا: يا نبي اللَّه ادعُ اللَّه أن يجعلنا من أهل الشّفاعة. فقال: "اللهمّ اجعلهم من أهلها". ثم أتينا القوم فأخبرناهم، فقالوا: يا رسول اللَّه، ادعُ اللَّه أن يجعلنا من أهل شفاعِتك. فقال:"اللهمّ اجعلهم من أهلها". ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أشهدكم أنّ شفاعتي لكلِّ من مات لا يشرك باللَّه شيئا".
صحيح: رواه عبد الرزاق (20865)، وابنُ أبي عاصم (819)، وابن خزيمة (522) كلّهم من طريق أبي قلابة، عن عوف بن مالك، قال (فذكره)، واللّفظ لعبد الرزاق، ولفظهما قريب منه.
وإسناده صحيح، ورجاله ثقات غير أنّ أبا قلابة رُمي بالتدليس إلّا أنّ ابن خزيمة رواه من
طريقين عن أبي بشر الواسطيّ، قال: حدّثنا خالد -يعني ابن عبد اللَّه-، عن خالد -يعني الحذاء- عن أبي قلابة، بإسناده.
وقال: وقال خالد: فحدّثني حميد بن هلال، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن عوف بن مالك، قال: سمعت خلْف أبي موسى هزيزًا كهزيز الرّحى، فقلت: أين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: ورائي وقد أقبل، فإذا أنا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول اللَّه! إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا كان بأرض العدو كان عليه حارسًا! فقال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنّه أتاني آتٍ من ربّي آنفًا، فخيّرني بين أن يُدخل نصف أمّتي الجنّة، وبين الشّفاعة، فاخترتُ الشّفاعة" انتهى.
قال ابن خزيمة: "جعلت هذا الخبر -أعني خبر عوف بن مالك- بإسنادين:
أحدهما: أبو المليح، عن عوف بن مالك.
والثاني: أبو بردة، عن أبي موسى، عن عوف بن مالك".
فالطّريق الأول كما سبق، والطّريق الثاني هو طريق أبي قلابة تم تحويله إلى طريق أبي بردة، عن أبي موسى، عن عوف بن مالك. ولذلك أفردتُ هذا الطّريق، ولكن رُوي هذا الحديث أيضًا من مسند أبي موسى وهو الآتي:
• عن أبي موسى قال: كُنّا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فعرّس وعرّسنا، فقال:"أتي آتٍ بعدكم من ربِّكم فخيّرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة، وبين الشّفاعة، فاخترتُ الشّفاعة، فقلنا: يا رسول اللَّه، اجعلنا ممن تشفع له. قال: "أنتم منهم". قلنا: أفلا نبشِّر النّاس بها يا رسول اللَّه؟ وابتدرناه الرجال فلما كثروا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "هي لكلّ من مات لا يشرك باللَّه شيئًا".
حسن: رواه ابن أبي عاصم في "السنة"(821) عن هشام بن عمار، ثنا الحكم بن هشام، حدّثنا عبد الملك بن عمير، عن أبي بردة، وأبي بكر ابني أبي موسى، عن أبي موسى، فذكره.
وإسناده حسن من أجل الحكم بن هشام، فإنّه صدوق.
• عن ابن دارة مولى عثمان، قال: إنا لبالبقيع مع أبي هريرة إذ سمعناه يقول: أنا أعلم النّاس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، قال: فتداكّ النّاس عليه، فقالوا: إيهٍ يرحمك اللَّه! قال: يقول: "اللهمّ اغفر لكل عبد مسلم، لقيك يؤمن بي لا يشرك بك".
حسن: رواه أحمد (9852) عن حجاج، قال: حدّثنا ابن جريج، قال: حدثني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن ابن دارة، مولى عثمان فذكره.
وإسناده حسن من أجل العلاء بن عبد الرحمن وشيخه ابن دارة مولى عثمان وكلاهما حسن الحديث.
واختلف في ابن دارة هل له صحبة أم لا، والصحيح أنه ليست له صحبة.
• عن أبي موسى، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحرُسُه أصحابه، فقمتُ ذات ليلة، فلم أره في منامه، فأخذني ما قَدُم وما حدث، فذَهبتُ أنظر، فإذا أنا بمعاذ قد لقي الذي لقيتُ، فسمعنا صوتًا مثل هزيز الرحا، فوقفا على مكانهما، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم من قِبَل الصَّوت، فقال:"هل تدرون أين كنتُ؟ وفِيم كنتُ؟ أتاني آتٍ من ربّي عز وجل، فخيَّرني بين أن يدخل نصف أمَّتي الجنّة وبين الشّفاعة، فاخترتُ الشّفاعة". فقالا: يا رسول اللَّه، ادعُ اللَّه عز وجل أن يجعلنا في شفاعتك. فقال:"أنتم ومَنْ ماتَ لا يُشركُ باللَّه شيئًا في شفاعتي".
حسن: رواه أحمد (19618) عن عفّان، حدّثنا حمّاد -يعني ابن سلمة- أخبرنا عاصم، عن أبي بردة، عن أبي موسى، فذكره.
وإسناده حسن من أجل عاصم وهو ابن أبي النجود فإنّه حسن الحديث.
وعزاه الهيثميّ في "المجمع"(10/ 368 - 369) إلى أحمد والطبرانيّ وقال في رواية أحمد: "رجالهما رجال الصّحيح غير عاصم بن أبي النّجود، وقد وُثِّق، وفيه ضعف".
ورواه حمزة بن علي مخفر، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: غزونا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره قال: فعرّس بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فانتهيت بعض اللّيل إلى مناخ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أطلبه فلم أجده، قال: فخرجتُ بارزًا أطلبه، وإذا رجلٌ من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يطلبُ ما أطلبُ. قال: فيينا نحن كذلك إذ اتّجه إلينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: فقلنا: يا رسول اللَّه، أنت بأرض حرب ولا نأمن عليك فلولا إذْ بَدَتْ لك الحاجة قلت لبعض أصحابك، فقام معك. قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنّي سمعت هزيزا كهزيز الرّحى -أو حنينًا كحنين النّحل- وأتاني آت من ربّي عز وجل قال: فخيرني بأن يدخل ثلث أمتي الجنّة وبين الشّفاعة لهم فاخترت لهم شفاعتي وعلمت انها أوسع لهم، فخيّرني أن يُدْخِل شطر أمّتي الجنّة وبين شفاعتي لهم فاخترت شفاعتي لهم وعلمت أنّها أوسعُ لهم". فقالا: يا رسول اللَّه، ادعُ اللَّه تعالى أن يجعلنا من أهل شفاعتك. قال: فدعا لهما، ثم إنّهما نبّها أصحابَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأخبراهم بقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: فجعلوا يأتونه، ويقولون: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه تعالى أن يجعلنا من أهل شفاعتك فيدعو لهم، قال: فلمّا أَضَبَّ عليه القوم وكَثُروا، قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إنّها لمن مات وهو يشهد أن لا إله الا اللَّه".
رواه الإمام أحمد (19724) عن حسن بن موسى -يعني الأشْيب- قال: حدّثنا سُكين بن عبد العزيز، قال: أخبرنا يزيد الأعرج. -قال عبد اللَّه: يعني أظنّه الشنّيّ- قال: حدّثنا حمزة بن علي بن مخفر، عن أبي بردة، عن أبي موسى (فذكره).
وحمزة بن علي بن مخفر من رجال "التعجيل" وهو مجهول، كما ذكره المؤلف، إلّا أنه توبع،
ولبعض فقراته شواهد صحيحة كما مضتْ.
وفي الباب عن ابن عمر مرفوعًا: "خُيِّرت بين الشّفاعة، أو يدخل نصف أُمّتي الجنّة، فاخترتُ الشّفاعة؛ لأنّها أعمُّ وأكفى، أترونها للمنقين؟ لا، ولكنّها للمتلوّثين الخطّاؤون". قال زياد: أما إنّها لحن، ولكن هكذا حدّثنا الذي حدّثنا.
رواه الإمام أحمد (5452) حدّثنا معمر بن سليمان أبو عبد اللَّه، حدّثنا زياد بن خيثمة، عن علي ابن النّعمان بن قراد، عن رجل، عن عبد اللَّه بن عمر، فذكره.
وعلي بن النعمان بن قراد لم يرو عنه غير زياد بن خيثمة فهو مجهول، وإن كان ابن حبان ذكره في الثقات على قاعدته في ذكر المجاهيل، واعتمده الهيثمي في "المجمع"(1/ 378) فوثقه، وشيخه مبهم لا يُعرف من هو؟ .
وقد رُوي هذا الحديث عن أبي موسى الأشعريّ.
رواه ابن ماجه (4311) من وجه آخر عن زياد بن خيثمة، عن نعيم بن أبي هند، عن ربعي بن خراش، عن أبي موسى الأشعريّ، وفيه:"أترونها للمنقِّين؟ لا، ولكنّها للمذنبين الخطّائين المتلوثين".
وفي رواية أخرى عن ربعي، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسلًا.
ذكر الدّارقطنيّ هذا الحديث في كتابه "العلل" ونقل ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(2/ 438) قول الدارقطني: "ليس في الأحاديث شيء صحيح".
فمن لم يتنبَّه لوقوع الاضطراب في هذا الحديث صحّحه.
وقوله: "للمنقين" من التنقية - أي للمطهّرين من الذنوب.
• عن أنس قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّي لأوّلُ النّاس تنشقُّ الأرضُ عن جُمْجُمَتِي يوم القيامة ولا فخر، وأُعْطي لواء الحمد ولا فخر، وأنا سيّد النّاس يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل من يدخل الجنّة يوم القيامة ولا فخر، وإنّي آتي باب الجنّة فآخذ بِحَلْقَتِها فيقولون: مَنْ هذا فأقول: أنا محمّد. فيفْتَحُون لي فأدخلُ فإذا الجبّار مستقبلي، فأسجدُ له فيقول: ارْفَعْ رَأْسَك يا محمّد، وتَكَلَّمْ يُسْمَعْ منك وقُلْ يُقْبلُ منك، واشْفَع تُشَفَّع. فأرفع رأسي، فأقول: أُمّتي أُمّتي يا ربّ، فيقول: اذْهب إلى أُمَّتك فمن وجدتَ في قلبه مثقال حبّة من شعير من الإيمان فأدخله الجنّة، فأُقْبِلُ فَمَنْ وجدتُ في قلبه ذلك فأُدخِلُهُ الجنّة. فإذا الجبَّار مستقبلي فاسجد له فيقول: ارْفَعْ رَأْسَك يا محمّد، وتَكَلَّمْ يُسْمَعْ منك وقُلْ يُقْبلُ منك، واشْفَع تُشَفَّع. فأرفع رأسي فأقول: أمّتي أمّتي أَيْ رَبِّ فيقول: اذهب إلى أمّتك فمن وجدت في قلبه
نصف حبة من شعير من الإيمان فأدْخلْهم الجنّة، فأذهبُ فمن وجدتُ في قلبه مثقال ذلك أدخلهم الجنّة. فإذا الجبار مُستقبلي، فأسجد له فيقول: ارْفَعْ رَأْسَك يا محمّد، وتَكَلَّمْ يُسْمَعْ منك وقُلْ يُقْبلُ منك، واشْفَع تُشَفَّع. فأرفع رأسي فأقول: أمّتي أمّتي. فيقول: اذهب إلى أمَّتِك فمن وجدتُ في قلبه مثقالَ حبَّةٍ من خَرْدل من الإيمان فأدخله الجنّة، فأذهبُ فمن وجدتُ في قلبه مثقالَ ذلك أدخلتُهم الجنّة. وفرغ اللَّهُ من حساب النّاس وأدخل من بقي من أمّتي النّار مع أهل النّار. فيقول أهلُ النّار: ما أغني عنكم أنَّكم كنتم تعبدون اللَّه عز وجل لا تشركون به شيئًا! . فيقول الجبار: فبعِزَّتِي لأعتِقَنَّهم من النّار فيُرسل إليهم فيُخْرجُون وقد امْتَحَشُوا فيدخلون في نَهْر الحياة، فَينْبُتُونَ فيه كما تَنْبُتُ الحبَّةُ في غُثاءِ السَّيْل، ويُكْتَبُ بين أعينهم: هؤلاء عتقاءُ اللَّه فيُذْهبُ بهم فَيُدْخلُون الجنّة، فيقولُ لهم أهلُ الجنّة: هؤلاء الْجَهَنَّمِيُّوَن! فيقول الجبار: بل هؤلاء عتقاءُ الجبار".
حسن: رواه الإمام أحمد (12469)، وابن منده في الإيمان (877)، وابن خزيمة في التوحيد (601)، والضّياء في المختارة (2345)، والدّارميّ (53).
كلّهم من طريق اللّيث، عن ابن الهاد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أنس بن مالك، فذكره، واللّفظ لأحمد.
وإسناده حسن من أجل عمرو بن أبي عمرو مولى المطّلب فإنه مختلف فيه، فضعّفه ابنُ معين، والنسائيّ، ووثّقه أبو زرعة والعجليّ، وقال أحمد: ليس به بأس. وقال الذهبيّ: حديثه حسن.
وهو كما قال إذا لم يأت في حديثه ما ينكر عليه. وله أسانيد ضعيفة، والذي ذكرتُه أصحّها.
• عن أنس قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة، فقال:"أنا فاعل". قال: قلت: يا رسول اللَّه، فأين أطلبك؟ قال:"اطلبني أوّل ما تطلبني على الصّراط". قال: قلت: فإن لم ألقاك على الصّراط؟ قال: "فاطلبني عند الميزان". قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: "فاطلبني عند الحوض، فإنّي لا أخطئ هذه الثلاث المواطن".
حسن: رواه الترمذيّ (2433) عن عبد اللَّه بن الصّباح الهاشميّ، حدّثنا بدل بن المحبَّر، حدّثنا حرب بن ميمون الأنصاريّ أبو الخطّاب، حدّثنا النّضر بن أنس، عن أبيه، فذكر مثله.
ورواه الإمام أحمد (12825) عن يونس بن محمد، حدّثنا حرب بن ميمون، بإسناده، مثله.
وإسناده حسن من أجل حرب بن ميمون، فإنه حسن الحديث.
وقال الترمذيّ: "حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
• عن أمّ حبيبة، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أُريت ما تلقى أمّتي بعدي، وسفك بعضهم دماء بعضٍ، وسبق ذلك من اللَّه، كما سبق على الأمم قبلهم، فسألته أن يولّيني شفاعةً يوم القيامة فيهم، ففعل".
صحيح: رواه ابن خزيمة في التوحيد (533)، وابن أبي عاصم في السنة (801)، والحاكم (1/ 68) كلّهم من طريق أبي اليمان، قال: حدّثنا شعيب -وهو ابن أبي حمزة-، عن الزهريّ، عن أنس، عن أمِّ حبيبة، فذكرته.
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشّيخين ولم يخرجاه، والعلّة عندهما فيه أنّ أبا اليمان حدّث به مرّتين، فقال مرّة عن شعيب، عن الزّهريّ، عن أنس. وقال مرّة: عن شعيب، عن ابن أبي حسين، عن أنس. وقد قدّمنا القول في مثل هذا أنه لا ينكر أن يكون الحديث عند إمام من الأئمّة عن شيخين. فمرّة يحدِّثُ به عن هذا، ومرّة عن ذاك.
وقد حدّثني أبو الحسن علي بن محمد بن عمر، ثنا يحيى بن محمد بن صاعد، ثنا إبراهيم بن هانئ النّيسابوريّ، قال: قال لنا أبو اليمان: الحديثُ حديثُ الزّهريّ، والذي حدّثكم عن ابن أبي حسين غلطتُ فيه بورقة قلبتُها. قال الحاكم: هذا كالأخذ باليد؛ فإنّ إبراهيم بن هانئ ثقة مأمون" انتهى.
قلت: قول الحاكم: أن يكون الحديث عند إمام من الأئمّة عن شيخين. . . إلخ كلام سديد، ولكن يشترط له استواء الطّريقين في الصّحة، وأما إذا عُلِّلت إحدى الطّريقين فلا وجه لصحة الطّريقين كما هنا. فإنّ الحاكم نفسه نقل عن إبراهيم بن هانئ النّيسابوريّ أنه قال له أبو اليمان. . . إلخ ما ذكر.
فتبيّن من هذا أنّ هذا الحديث من حديث الزّهريّ، ومن قال خلاف ذلك فلا وجه له.
وقد روى جعفر بن محمد بن أبان الحرّاني أنّه سأل يحيى بن معين عن هذا الحديث فقال يحيى: أنا سألت أبا اليمان فقال: الحديث حديث الزّهريّ، فمن كتبه عنّي من حديث الزّهريّ فقد أصاب، ومن كتبه عنّي من حديث ابن أبي حسين فقد أخطأ، إنّما كتبُه في آخر حديث ابن أبي حسين، فغلطتُ فحدّثتُ به من حديث ابن أبي حسين، وهو صحيح من حديث الزّهريّ. هكذا قال يحيى.
وقد رُوي هذا الحديث عن أم سلمة، وفيه موسى بن عبيدة ضعيف. انظر:"السنة" لابن أبي عاصم (801).
• عن ابن عمر، قال: ما زلنا نُمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من في نبيِّنا صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ اللَّه تبارك وتعالى لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء". قال: "فإنّي أخّرتُ شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي يوم القيامة".
فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا.
حسن: رواه أبو يعلى (5813)، والطبراني في الأوسط -مجمع البحرين (4809) -، وابن أبي عاصم في السنة (380) كلّهم من طريق شيبان بن فرّوخ الأيلي، ثنا حرب بن سُريج المنقريّ، ثنا أيوب السّختيانيّ، عن نافع، عن ابن عمر، فذكره.
وإسناده حسن من أجل الكلام في حرب بن سريج فتكلّم فيه البخاريّ، وابن حبان، وأبو حاتم، ومشّاه أحمد وابن معين والدارقطني، وابن عدي وغيرهم، وهو حسن الحديث.
واعتمد الهيثمي في "المجمع"(7/ 5) توثيق من وثّقه فقال: "رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصّحيح غير حرب بن سريج وهو ثقة".
وقد رُوي عنه بإسناد آخر بلفظ: "شفاعتي يوم القيامة لأهل الكبائر من أمّتي". أورده الذهبيّ في "الميزان"(2/ 314) في ترجمة صديق بن سعيد الصوناخي التركي، عن محمد بن نصر المروزيّ، عن يحيى، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، فذكره.
وقال: "وهذا لم يروه هؤلاء قطّ، ولكن رواه عن صديق من يجهل حاله وهو أحمد بن عبد اللَّه ابن محمد الزيني فما أدري مَنْ وضعه" انتهى.
قلت: ومن هذا الطّريق أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (8/ 11) في ترجمة الحسين بن أحمد ابن سلمة الأسديّ القاضي أبو عبد اللَّه.
قال الخطيب: قرأت في كتاب علي بن محمد النُّعيمي بخطّه، حدّثني القاضي أبو عبد اللَّه الحسين ابن أحمد بن سلمة الأسديّ المالكي -ببغداد- حدّثنا أبو الحسين أحمد بن عبد اللَّه بن محمد الزيني البصريّ -بجيلا من كورة أسْفِيحان- حدّثنا الصديق بن سعيد الصّوناخي، بإسناده، مثله.
وفي الباب عن أبي الدّرداء مرفوعًا: "شفاعتي لأهل الذّنوب من أمّتي". قال أبو الدّرداء: وإنْ زنى وإن سرق؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "نعم، وإنْ زنى وإنْ سرق على رغم أنف أبي الدّرداء".
رواه الخطيب في "تاريخ بغداد"(1/ 416)(في ترجمة محمد بن إبراهيم بن محمد بن يزيد الطّرسوسيّ أبو الفتح، يعرف بابن البصريّ)، عن الأزهريّ والقاضي أبي العلاء محمد بن علي، قالا: أنبأنا أبو الفتح محمد بن إبراهيم بن محمد بن يزيد الطّرسوسيّ، قال: نبّأنا الحسن بن عبد الرحمن بن زريق -بحمص- قال: نبّأنا محمد بن سنان الشّيرازيّ، قال: نبّأنا إبراهيم بن حيان ابن طلحة، قال: نبّا شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي الدّرداء، فذكره.
وإسناده ضعيف، فإنّ محمد بن سنان الشّيرازيّ قال في "الميزان" (3/ 575):"صاحب مناكير".
وفيه أيضًا القاضي أبو العلاء محمد بن علي الواسطيّ المقرئ ضعيف مخلّط، وفي الإسناد رجال لا يعرفون.
ولكن رواه البزّار -كشف الأستار (5) - من وجه آخر مختصرًا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"من مات لا يُشرك باللَّه دخل الجنّة"، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن رغم أنف أبي الدّرداء".
قال البزّار: "وهذا قد روي عن أبي ذر، وأبي الدّرداء، وهذا أحسن أسانيد أبي الدّرداء؛ لأنّ الحسن كوفي مشهور، وزيد ثقة".
قلت: حديث أبي الدّرداء رواه الإمام أحمد (27561) مطوّلًا، عن حسن قال: حدّثنا ابنُ لهيعة، عن واهب بن عبد اللَّه، أنّ أبا الدّرداء، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلّا اللَّه، وحده لا شريك له، دخل الجنّة". قال: قلت: وإنْ زنى وإنْ سرق؟ ! قال: "وإنْ زنى وإنْ سرق". قلت: وإنْ زنى وإنْ سرق؟ ! قال: "وإن زنى وإن سرق". قلت: وإنْ زنى وإنْ سرق؟ ! قال: "وإن زنى وإن سرق، على رغم أنف أبي الدّرداء". قال: فخرجتُ لأُنادي بها في النّاس، قال: فلقيني عمر، فقال: ارجع، فإنَّ النّاس إنْ علموا بهذه، اتّكلوا عليها، فرجعتُ فأخبرتُه صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم:"صدق عمر".
وفيه ابن لهيعة، وفيه كلام معروف، ولعلّ الهيثميّ أشار إلى هذا في "المجمع" (1/ 16) بقوله:"رواه أحمد والبزّار والطبرانيّ في "الكبير"، و"الأوسط" وإسناد أحمد صحيح، وفيه ابنُ لهيعة، وقد احتجّ به غير واحد".
قلت: ولكن هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد معروف أنه من حديث أبي ذرّ المتفق عليه، وقد مضى في كتاب الإيمان، وسيأتي أيضًا في كتاب صفة الجنّة.
وكذلك لا يصح ما رُوي عن علي بن أبي طالب مرفوعًا: "شفاعتي لأمّتي من أَحَبَّ أهلّ بيتي وهم شيعتي".
رواه الخطيب في "تاريخ بغداد"(2/ 146) من طريق القاسم بن جعفر بن محمد بن عبد اللَّه بن عمر بن عليّ بن أبي طالب قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن جدّه محمد بن عمر، عن أبيه عمر بن عليّ، عن أبيه علي بن أبي طالب، فذكره.
قال الخطيب: "قدم القاسم بن جعفر بغداد، وحدّث بها عن أبيه، عن جدّه، عن آبائه نسخة أكثرها مناكير".
واعتمد الذّهبيّ قول الخطيب فذكره في الميزان (3/ 369) ولم يزد عليه.
وفي الباب عن سلمان الفارسيّ قال: يأتونَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فيقولون: يا نبيَّ اللَّه! أنتَ الذي فتح اللَّهُ بك، وختم بك، وغفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر، قُمْ فاشفع لنا إلى ربِّك، فيقول: نعم، أنا صاحبكم، فيخرج يحوشُ النّار، حتى ينتهي إلى باب الجنّة، فيأخذ بحلق في الباب من ذهب، فيقرعُ البابَ، فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد". قال: فيفتح له. قال: فيجيءُ حتّى يقومَ بين يدي اللَّه، فيستأذنُ في السُّجود، فيؤذن له. قال: فيفتحُ اللَّه له من الثّناء، والتّحميد، والتمجيد ما لم
يفتحْهُ لأحد من الخلائق، فينادَى: يا محمد، ارْفعْ رأسَك، سَلْ تُعْطَه، ادعُ تُجب. قال: فيرفعُ رأسه، فيقول: ربّ أمّتي أمّتي، ثم يستأذنُ في السُّجود، فيؤذنُ له، فيفتحُ له من الثّناء والتّحميد والتّمجيد ما لم يُفْتَحه لأحدٍ من الخلائق، فيُنادى: يا محمد، ارْفعْ رأسكَ، سلْ تُعطه، واشفع تشفَّع، وادعُ تُجَب. قال: يفعل ذلك مرّتين أو ثلاثًا، فيُشَفَّعُ فيمن كان في قلبه حبّة من حنطة، أو مثقالُ شعيرة، أو مثقالُ حبّة من خردل من إيمان". قال سلمان: فذلك المقام المحمود.
رواه ابن خزيمة في التوحيد (596) واللّفظ له، وابن أبي عاصم في السنة (813)، والطبرانيّ في الكبير (6/ 303 - 304) إلّا أنه اختصره.
كلّهم من طريق أبي معاوية قال: حدّثنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان النّهديّ، عن سلمان. وإسناده صحيح إلّا أنه موقوف على سلمان.
• عن أنس، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما زلتُ أشفع إلى ربّي ويُشَفِّعني حتى أقول: ربِّ شفّعني فيمن قال: لا إله إلّا اللَّه، قال: فيقول: ليست هذه لك يا محمد، إنّما هي لي، أما وعزّتي وحِلْمي ورحمتي لا أدعُ في النّار أحدًا -أو قال: عبدًا- قال: لا إله إلّا اللَّه".
حسن: رواه أبو يعلى (2786) عن هارون بن عبد اللَّه، حدّثنا حماد بن مسعدة، عن عمران العمي، عن الحسن، عن أنس، فذكره.
والحسن هو الإمام البصريّ معروف، ولكنّه مدلّس وصرّح بالسماع كما سيأتي.
ورواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد (581)، وابن أبي عاصم في السنة (828) كلاهما من حديث حماد بن مسعدة، بإسناده، مثله.
وإسناده حسن من أجل الكلام في عمران وهو ابن دَاوَر -بفتح الواو وبعدها راء- القطّان أبو العوّام العمي، غير أنّه حسن الحديث، وقد توبع.
وهو ما أخرجه الشّيخان - البخاريّ (7510)، ومسلم (193: 326) كلاهما من حديث حماد ابن زيد، حدّثنا معبد بن هلال العنزي، قال: انطلقنا إلى أنس بن مالك، فذكر الحديث بطوله كما مضى في شفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف، وجاء فيه في آخر الحديث:"فأقول: يا ربّ، ائذن لي فيمن قال: لا إله إلّا اللَّه. قال: ليس ذاك إليك، ولكن وعزّتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأخرجنّ من قال: لا إله إلّا اللَّه".
وقد أشار إليه أيضًا ابن خزيمة في كتاب التوحيد (582) فقال: في خبر حماد بن زيد، عن معبد ابن هلال، عن أنس، فذكر آخر الحديث.
وأخرجه بطوله في موضع آخر (604) من هذا الوجه، وجاء فيه:
قال معبدٌ: فأقبلنا حتى إذا كُنّا بظهر الجبال، قلتُ: لو مِلنا إلى الحسن -وهو مستخفٍ في