الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رجب الحنبلي:
"وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث -إذا تفرّد به واحد- وإن لم يرو الثقات خلافه-: "إنه لا يتابع عليه"، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثُرَ حفظُه واشتهرتْ عدالتُه وحديثُه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعضَ تفرّدات الثقاتِ الكبار أيضًا، ولهم في كلِّ حديثٍ نقدٌ خاصٌّ، وليس عندهم لذلك ضابطٌ يضبطه" (
1).
19 -
ذكر أحاديث جماعة سبق الكلام فيهم
وقد ذكرتُ في هذا الجامع أحاديث جماعة من الرواة الذين سبق الكلام الخفيف فيهم من بعض الأئمة، فنظرتُ في أخبار ما رووه فإنْ ظهر لي صدق ما رووه أدخلته في الجامع، وإنْ ظهر لي خطأهم تجنّبتُ منه.
قال ابن عبد الهادي: "وأصحاب الصحيح إذا رووا لمن تُكلّمَ فيه فإنهم ينتقون من حديثه ما لم ينفردْ به، بل وافق فيه الثقاتُ، وقامت شواهدُ صدقه"
(2)
.
وكل حديث له نقدٌ خاصّ لا يقاس عليه غيره.
20 - حديث المدلس
وهو أن يروي عمن لقيه أو عاصره فإن بيّن السماع فلا خلاف بين أهل العلم في قبول حديثه إذا لم يكن لقبوله مانع آخر. انظر شرحه المفصل في كتابي: "معجم مصطلحات الحديث".
واختلف أهل العلم في الذي لم يبين فيه السماع، وقد ثبت لقاؤه فذهب أصحاب الكتب الصحاح مثل البخاري ومسلم وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيره وكذلك أصحاب السنن الدارقطني والبيهقي قبولهم مطلقا في الغالب سواء بيّن السماعَ أو لم يبيّن.
والمثال على ذلك أبو الزبير وهو محمد بن مسلم بن تدرس أحد أئمة الحديث، واعتمده مسلم، وروى له البخاري متابعة وهو ممن عُرفَ بالتدليس، وكان الإمام مسلم رحمه الله قبل حديثه مطلقا سواء صرّح بالتحديث أو لم يصرّح، وسواء رواه
(1)
شرح علل الترمذي له (1/ 352 - 353).
(2)
تنقيح التحقيق (3/ 277).
عنه الليث بن سعد أو روى عنه غيره، لأن الليث بن سعد قال: جئت أبا الزبير فدفع إلى كتابين، فانقلبت بهما، ثم قلت في نفسي: لو أنني عاودته فسألته أسمع هذا كله من جابر؟ فسألته فقال: منه ما سمعت منه، ومنه ما حُدّثتُ عنه، فقلت له: أعلم لي على ما سمعت منه، فأعلم لي على هذا الذي عندي"
(1)
.
وقد تتبع الذهبي رواية أبي الزبير في صحيح مسلم فقال: "وفي صحيح مسلم عدة أحاديث مما لم يوضح فيها أبو الزبير السماع من جابر، وهي من غير طريق الليث عنه، ففي القلب منه شيء".
ومن هذه الأحاديث:
لا يحل لأحد حمل السلاح بمكة. صحيح مسلم (1356)
رأى النبي صلى الله عليه وسلم امرأة، فأتي أهله زينب، فقضى حاجته، صحيح مسلم (1403)
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور. صحيح مسلم (970) انتهى كلام الذهبي.
قلت: وقد وجدت في صحيح مسلم أحاديث أبي الزبير، عن جابر من غير طريق الليث بن سعد عنه أكثر من هذا بدون التصريح، فالظاهر أن الإمام مسلم لم يُعِلّ الحديثَ بعنعنة أبي الزبير سواء روى عنه الليث بن سعد أو غيره.
فالمنهج الذي اخترتُه في حديث المدلسين هو ما يأتي:
1 -
المدلّسون الذين ذكرهم الحافظ ابن حجر في الطبقة الأولي والثانية مثل يحيى بن سعيد الأنصاري، وسفيان بن سعيد بن مسروق الثوري وسفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي وغيرهم يُقبل تدليسُهم مطلقا، لأنهم لا يدلّسون إلا عن الثقات، ويُلحق بهم الأعمش، والزهري، وقتادة، وعمرو بن دينار وغيرهم، وإن كان بعض هؤلاء ممن ذكرهم ابن حجر في الطبقة الثالثة. فإنَّ ردَّ رواية هؤلاء بالعنعنة يودّي إلى تضعيف طائفة كبيرة من الأحاديث الصحيحة.
فإن قيل: لماذا كان هؤلاء يدلّسون؟ وهم أئمة هذا الفن وعمدتهم! ؟
فالجواب: لهم ظروف وحالات، فإذا كانوا في مجلس التحديث والرواية فما كانوا يدلسون، إذ المطلوب في مجلس التحديث اتصال الإسناد، وحديث المدلّس
(1)
ميزان الاعتدال (4/ 37) ـ
فيه انقطاع، وأما إن كانوا في المسجد أو في السوق أو في مقام الفتيا فكانوا يختصرون الإسناد إذ ليس المقصود منه في هذه الحالة اتصال الإسناد، فإذا سئلوا هل سمعت من فلان؟ فقالوا: لا، إنما سمعت من فلان عنه.
2 -
أن ينص أحد الأئمة على أن فلانا دلّس في هذا الحديث.
3 -
أن يعترف المدلس نفسه بأنه دلّس في هذا الحديث إذا سئل.
4 -
أن يروي المدلس حديثا يخالف المعروف، فالحمل عليه بأنه دلس عن بعض الضعفاء.
5 -
أن يُعرف بأنه لا يبالي عمن يدلس حبًّا لكثرة الحديث مثل محمد بن إسحاق والحسن البصري وغيرهما، فهؤلاء لا بد لهم من التصريح بالسماع.
6 -
أن يُعرف أنه يكثر التدليس عن الضعفاء والمجاهيل، فهذا لا يقبل حتى يصرّح مثل بقية بن الوليد.
7 -
أن يكون المدلس قد ضُعِّفَ أيضًا بسبب آخر فلا يُقبل ولو صرّح بالسماع، وهم الذين ذكرهم الحافظ ابن حجر في الطبقة الخامسة.
والذي يكثر النظرَ في الكتب يجد أن الرواةَ غيّروا صيغة الأداء في كثير من روايات المدلسين، فإننا نجد راويًا واحدًا مرة يروي بصيغة السماع، وأخرى بصيغة العنعنة، وقد نبّهتُ على ذلك في كثير من المواضع في الجامع الكامل
والمثال الغريب الذي وقفتُ عليه هو ما ذكره مسلم في كتابه "التمييز" بأن النبي صلى الله عليه وسلم وقّتَ لأهل العراق ذات عرق، فليس بصحيح، لأنه رواه ابن جريج فقال في حديث أبي الزبير، عن جابر. هكذا قال في التمييز.
ثم وجدناه أنه روى هذا الحديث في صحيحه (1183) من طرق عن محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد اللَّه. . . فذكر الحديث.
فهذا الإسناد فيه دليل صريح أنه وقع تغيير في صيغة الأداء لأنه من المستبعد أن يكون أبو الزبير مرة قال: عن جابر، وأخرى: أنه سمع جابرا.
ولذا يجب الاحتياط في ردّ حديث الأئمة المدلسين الثقات بالعنعنة، وفي كلام مسلم إشارة إلى أنه أول من أظهر تدليس أبي الزبير، ومع ذلك فإنه أخرج أحاديثه
في صحيحه.
ويؤكد ذلك ابن حبان في مقدمة صحيحه
(1)
بقوله: "فإذا صحَّ عندي خبر من رواية مدلس أنه بيّن السماع فيه، لا أبالي أن أذكره من غير بيان السماع في خبره بعد صحته عندي من طريق آخر".
يعني أن ابن حبان رحمه الله يُغيّر السماع بالعنعنة، فكل حديث مدلس بالعنعنة عند ابن حبان في صحيحه يُحمل على السماع.
وما قاله ابن حبان أخشى أن يكون هو الذي فعله بعض الرواة فغيّروا صيغة الأداء من السماع إلى العنعنة اختصارًا ظنًّا منهم بأن الصيغتين سواء كما ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمة جعفر بن مسافر في تهذيبه.
قال يعقوب بن سفيان الفسوي: "سمعت عبد الرحمن بن إبراهيم دحيمًا، حَدَّثَنَا الوليد (هو ابن مسلم، مدلّس تدليس التسوية) قَال: كان الأوزاعي إذا حَدَّثَنَا يقول: حَدَّثَنَا يحيى قَال: حَدَّثَنَا فلان، حَدَّثَنَا فلان حتى ينتهي.
قال الوليد: فربما حدّثتُ كما حدّثني، وربما قلتُ: عن، عن، عن، تخففنا من الأخبار"
(2)
. انتهي.
ومن يطالع "تحفة الأشراف" للمزي فيجد أنه غيّر جميع صيغ الأداء بالعنعنة اختصارًا، ولذا اضطر الحافظ ابن حجر إلى تنصيص ذلك في مقدمة "إتحاف المهرة"
(3)
بأنه يسوق ألفاظ الصيغ في الإسناد غالبا لتظهر فائدة ما يصرح به المدلس بخلاف المزي.
فيظهر من ذلك أن تغيير صيغة الأداء لم يكن عندهم من الأمور المحظورة.
ولذا يجب الاحتياط في ردّ أحاديث المدلسين الثقات من أجل العنعنة إلا من عُرفَ أنه يُكثر التدليس عن الضعفاء والمجاهيل، فهذا لا يُقبل حتى يصرّح مثل بقية ابن الوليد.
وأما من ضُعِّفَ بأمر آخرَ مع التدليس فحديثه مردود، ولو صرّح بالسماع مثل
(1)
صحيح ابن حبان (1/ 162).
(2)
المعرفة والتاريخ (2/ 464).
(3)
إتحاف المهرة (1/ 158 - 159).
الحجاج بن أرطاة، وإبراهيم بن أبي يحيى، وجابر الجعفي وغيرهم ويلحق بهم ابن لهيعة إلا إذا روى عنه أحد العبادلة وصرّح بالسماع فحديثه حسن.
وأما المراتب التي ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في طبقات المدلسين وهي مستمدة من جامع التحصيل للعلائي فإليكم ذكر هذه الطبقات مع إضافات العلائي:
الأولى: من لم يوصف بذلك إلا نادرا كيحيى بن سعيد الأنصاري.
وأضاف العلائي: هشام بن عروة وموسى بن عقبة.
الثانية: من احتمل الأئمة تدليسه، وأخرجوا له في الصحيح لإمامته وقلة تدليسه في جنب ما روي كالثوري، أو كان لا يدلس إلا عن ثقة كابن عيينة.
وأضاف العلائي الزهري، وسليمان الأعمش، وإبراهيم النخعي، وإسماعيل بن أبي خالد، وسليمان التيمي، وحميد الطويل، والحكم بن عتيبة، ويحيى بن أبي كثير، وابن جريج، وشريك، وهشيم، وقال: ففي الصحيحين وغيرهما لهولاء الحديث الكثير مما ليس فيه التصريح بالسماع، وبعض الأئمة حمل ذلك على أن الشيخين اطلعا على سماع الواحد لذلك الحديث الذي أخرجه بلفظ "عن" ونحوها من شيخه، وفيه تطويل.
قلت: إنْ صحَّ ما قالوا: فمعنى ذلك أن بعض الرواة غيّروا صيغة السماع بلفظ "عن".
الثالثة: من أكثر من التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرّحوا فيه بالسماع ومنهم من ردّ حديثهم مطلقا ومنهم من قبله مطلقا كأبي الزبير المكي، وكذلك الزهري، وقتادة، وحميد الطويل صاحب أنس.
والذي في جامع التحصيل من توقف فيهم جماعة فلم يحتجوا بهم إلا بما صرّحوا فيه بالسماع، وقبلهم آخرون مطلقا كالطبقة التي قبلها لأحد الأسباب المتقدمة كالحسن، وقتادة، وأبي إسحاق السبيعي، وأبي الزبير المكي، وأبو سفيان طلحة بن نافع، وعبد الملك بن عمير.
الرابعة: من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم عن الضعفاء والمجاهيل كبقية بن الوليد.