الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ:
الثَّالِثُ، أَنْ يَثْبُتَ الزِّنَى، وَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَيْئَيْنِ؛
ــ
إصْبَعَه في فَرْجِها، وكذلك لو اسْتَدْخَلَتِ المرأةُ ذَكَرَ صَبِىٍّ لم يَبْلُغْ عشْرًا، فلا حَدَّ عليها. قال شيخُنا (1): والصَّحِيحُ أنَّه متى وَطِئَ مَن أمْكَنَ وَطْؤُها، أَوْ أمْكَنَتِ المرأةُ مَن يُمْكِنُه الوَطْءُ، فوَطِئَها، أنَّ الحَدَّ يَجِبُ على المُكَلَّفِ منهما (2)، ولا يَصِحُّ تَحْديدُ ذلك بتِسْعٍ ولا عشْرٍ؛ لأَنَّ التَّحْدِيدَ إنَّما يكونُ بالتَّوْقيفِ، ولا تَوْقِيفَ في هذا، وكونُ التسعِ وَقْتًا لإِمْكانِ الاسْتِمْتاعِ غالبًا، لا يَمْنَعُ وُجودَه قبلَه (2)، كما أنَّ البُلوغ يوجَدُ في خمسةَ عشَرَ عامًا غالبًا، ولا يَمْنَعُ مِن وُجودِه قبلَه.
فَصْلٌ: (الثَّالِثُ، أَنْ يَثْبُتَ الزِّنَى، وَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بأحدِ شَيْئَيْنِ؛
(1) في: المغنى 12/ 341.
(2)
سقط من: الأصل.
أحَدُهمَا، أَنْ يُقِرَّ أرْبَعَ مَرَّاتٍ، في مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ، وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ، وَيُصَرِّحَ بِذِكْرِ حَقِيقَةِ الْوَطْءِ، وَلَا يَنْزِعَ عَنْ إِقْرَارِهِ حَتَّى يَتِمَّ الْحَدُّ.
ــ
أحدُهما، أن يُقِرَّ أرْبَعَ مرَّاتٍ، في مَجْلِس أَوْ مَجالِسَ، وهو بالِغٌ عاقِلٌ، ويُصَرِّحَ بذِكْرِ حَقيقةِ الوَطْءِ، ولا يَنْزِعَ عن إقْرارِه حتَّى يَتِمَّ الحَدُّ) لا يَثْبُتُ الزِّنَى إلَّا بإقْرارٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ، فإن ثَبَت بإقْرارٍ، اعْتُبرَ إقْرارُ أرْبَعِ مَرَّاتٍ. وبهذا قال الحَكَمُ، وابنُ أبى ليلى، وأصحابُ الرَّأْى. وقال الحسنُ، وحَمَّادٌ، ومالكٌ، والشافعىُّ، وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: يُحَدُّ بإقْرارِه مَرَّةً؛ لقولِ رسوْلِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلى امْرَأةِ هذَا، فَإنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» (1). واعْتِرافُ مَرَّةٍ اعْترافٌ، وقد أوْجَبَ عليها الرَّجْمَ به. ورَجَم الجُهَنِيَّةَ، وإنَّما اعْتَرَفَتْ مَرَّةً (2). وقال عمرُ: إنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ واجبٌ على مَن زَنَى وقد أَحْصَنَ، إذا قامتِ البَيِّنَةُ، أَوْ كان الحَبَلُ، أَوْ الاعْترافُ (3). ولأنَّه حَقٌّ، فثَبَتَ باعْتِرافِ مَرَّةٍ، كالإِقْرارِ بالقَتْلِ.
(1) تقدم تخريجه في 13/ 450.
(2)
تقدم تخريجه في صفحة 205.
(3)
تقدم تخريجه في: 23/ 158.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ولَنا، ما روَى أبو هُرَيْرَةَ، قال: أتى رجل مِنِ الأسْلَمِيِّين رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو في المسجدِ، فقال: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّىِ زَنيْتُ. فأعْرَضَ عنه، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِه، فقال: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّى زَنيْتُ. فأعْرَضَ عنه، حتَّى ثَنَى ذلك أربعَ مَرَّاتٍ، فلمَّا شَهِد على نَفْسِه أرْبَعَ شَهاداتٍ، دَعاهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قال:«أبِكَ جُنُونٌ؟» . قال: لا. قال: «هَلْ (1) أَحْصَنْتَ؟» . قال: نعم. فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «ارْجُمُوهُ» . مُتَّفقٌ عليه (2). ولو وجَبَ الحَدُّ بمَرَّةٍ، لم يُعْرِضْ عنه رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لأنَّه لا يجوزُ تَرْكُ حَدٍّ وَجَب للَّهِ تعالى. ورَوَى نُعَيْمُ بنُ هَزَّالٍ حديثَه، وفيه: حتَّى قالَها أرْبَعَ مَرَّاتٍ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّكَ قَدْ قُلْتَهَا أربعَ مَرَّاتٍ، فَبِمَنْ؟» . قال: بفُلانَةَ. رَواه أبو داودَ (3). وهذا تَعْلِيلٌ منه يَدُلُّ على أنَّ إقْرارَ الأرْبعِ [هى المُوجِبةُ](4). ورَوَى أبو بَرْزَةَ الأَسْلَمِىُّ، أنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قال له عندَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم: إن أقْرَرْتَ أرْبَعًا، رَجَمَكَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (5). وهذا يَدُلُّ مِن وَجْهَيْن؛ أحدُهما،
(1) سقط من: الأصل.
(2)
تقدم تخريجه في صفحة 168.
كما أخرج هذه القصة الترمذى، في: باب ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 201، 202. وابن ماجه، في: باب الرجم، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 854.
(3)
تقدم تخريجه في صفحة 208.
(4)
في م: «هو الموجب» .
(5)
أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 1/ 8. وأبو يعلى، في: مسنده 1/ 42، 43. والبزار، انظر كشف الأستار 2/ 217. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم، أقَرَّه على هذا، ولم يُنْكِرْه، فكانَ بمَنْزِلَةِ قولِه؛ لأنَّه لا يُقِرُّ على الخَطَأ. الثانى، أنَّه قد عَلِم هذا مِن حُكْمِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، لولا ذلك ما تَجاسَرَ على قولِه بينَ يَدَيْه. فأمَّا أحادِيثُهمِ، فإنَّ الاعْتِرافَ لفظٌ للمَصْدَرِ، يَقَعُ على القليلِ والكثيرِ، وحدِيثُنا يُفَسِّرُه، ويُبَيِّنُ أنَّ الاعْتِرافَ الَّذى يَثْبُتُ به كان أرْبعًا.
فصل: وسَواءٌ كان في مجلسٍ واحدٍ، أَوْ مجالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ. قال الأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللَّه يُسْألُ عن الزَّانِى، يُرَدَّدُ أرْبَعَ مَرَّاتٍ؟ قال: نعم، على حديثِ ماعِزٍ، هو أحْوَطُ. قلتُ له: في مجلس واحدٍ، أَوْ في مجالِسَ شَتَّى؟ قال: أمَّا الأحاديثُ، فليستْ تَدُلُّ إلَّا على مجلسٍ واحدٍ، إلَّا عن (1) ذلك الشَّيخِ بَشِيرِ بنِ المُهاجِرِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ بُرَيْدَةَ، عن أبيه (2)، وذلك عندِى مُنْكَرُ الحديثِ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَثْبُتُ إلَّا بأَرْبَعِ إقْراراتٍ، في أرْبَعَةِ مجالسَ؛ لأَنَّ ماعِزًا أقَرَّ في أرْبَعةِ مجالسَ. ولَنا، أنَّ الحديثَ الصَّحِيحَ إنَّما يَدُلُّ أنَّه أقَرَّ أرْبعًا في مجلس واحدٍ، وقد ذَكَرْنا الحديثَ، ولأنَّه أحَدُ حُجَّتَىِ الزِّنَى، فاكْتُفِىَ به في مجلسٍ واحدٍ، كالبَيِّنَةِ.
= وقد رووه كلهم عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبى بكر. وقال الهيثمى: وفى أسانيدهم كلها جابر بن يزيد الجعفى وهو ضعيف. مجمع الزوائد 6/ 266. وانظر: الإرواء 8/ 26، 27.
(1)
في م: «على» .
(2)
تقدم تخريجه في صفحة 209 حاشية 4 عند أبى داود مختصرًا، وأخرجه بتمامه الطحاوى، في: باب الاعتراف بالزنى، من كتاب الحدود. شرح معانى الآثار 3/ 143، 144.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: ويعْتَبَرُ في صِحَّةِ الإِقْرارِ أن يَذْكُرَ حقيقةَ الفعلِ، لتَزُولَ الشُّبْهَةُ؛ لأَنَّ الزِّنَى يُعَبَّرُ به عمّا ليسَ بمُوجِبٍ للحَدِّ. وقد رَوى ابنُ عباس، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال لماعِزٍ:«لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أو غَمَزْتَ؟» . قال: لا. قال: «أفَنِكْتَهَا؟» . [لا يَكْنِى. قال: نعم. قال: فعندَ ذلك أَمَرَ برَجْمِه. رَواه البُخارِىُّ (1). وفى روايةٍ عن أبى هريرةَ، قال: «أفنكتها».](2) قال: نعم. قال: «حَتَّى غَابَ ذَاكَ مِنْكَ في ذَاكَ مِنْهَا؟» . قال: نعم. قال: «كَمَا يَغِيبُ المِرْوَدُ في المُكْحُلَةِ، والرِّشَاءُ في البِئْرِ؟» . قال: نعم. قال: «أَتدْرِى مَا الزِّنَى؟» . قال: نعم، أتَيْتُ منها حَرَامًا ما يَأْتِى الرجلُ مِن امرأتِه حَلالًا. وذكرَ الحديثَ. رَواه أبو داودَ (3).
فصل: فإنْ أقَرَّ أنَّه زَنَى بامرأةٍ فكَذَّبَتْه، فعليه الحَدُّ دُونَها. وبه قال الشافعىُّ. وقال أبو حنيفةَ، وأبو يوسفَ: لا حَدَّ عليه؛ لأنَّا صَدَّقْناها
(1) في: باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت، من كتاب الحدود. صحيح البخارى 8/ 207.
كما أخرجه أبو داود، في: باب رجم ماعز بن مالك، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 458. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 238، 270، 289. والطبرانى، في: المعجم الكبير 11/ 338. والحاكم، في: المستدرك 4/ 361. والدارقطنى، في: سننه 3/ 121.
(2)
تكملة لازمة من المغنى 12/ 356.
(3)
في: باب رجم ماعز بن مالك، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 459.
كما أخرجه ابن الجارود في: المنتقى 307، 308. والدارقطنى، في: سننه 3/ 196، 197. وابن حبان، انظر: الإحسان 90/ 244، 245. وضعفه في: الإرواء 8/ 24.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
في إنْكارِها، فصارَ مَحْكُومًا يكَذِبِه. ولَنا، ما روَى أبو داودَ (1)، بإسْنادِه، عن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّ رجُلًا أتاه، فأقَرَّ عندَه أنَّه زَنَى بامرأةٍ، فسَمَّاها له، فبَعَثَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى المرأةِ، فسَأَلَها عن ذلك، فأنْكَرَتْ أن تكونَ زَنَتْ، فجَلَدَه الحَدَّ وتَرَكَها. ولأَنَّ انْتِفاءَ ثُبُوتِه في حَقِّها لا يُبْطِلُ إقْرارَه، كما لو سَكَتَتْ، أَوْ كما لو لم (2) تُسْأَلْ. ولأَنَّ عُمومَ الخبرِ يَقْتَضِى وُجوبَ الحَدِّ عليه باعْتِرافِه، وهو قولُ عمرَ: إذا كان الحَبَلُ أَوْ الاعْتِرافُ (3). وقولُهم: إنَّا صَدَّقْناهَا في إنْكارِها. غيرُ صَحِيحٍ، فإنَّا لم نَحْكُمْ بصِدْقِها، وانْتِفاءُ الحَدِّ إنَّما كان لعَدَمِ المُقْتَضِى، وهو الإِقْرارُ أَوْ (4) البَيِّنَةُ، لا لوُجودِ التَّصْدِيقِ، بدَليلِ ما لو سَكَتَتْ، أَوْ لم تَكْمُلِ البَيِّنَةُ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ الحُرَّ والعبدَ، والبكْرَ والثَّيِّبَ، في الإِقْرارِ سَواءٌ؛ لأنَّه أحَدُ حُجَّتَى الزِّنَى، فاسْتَوَى الكلُّ فيه، كالْبَيِّنَةِ.
فصل: ويُشْتَرَطُ أن يكونَ المُقِرُّ بالِغًا عاقِلًا، ولا خِلافَ في اعْتِبارِ ذلك في وُجُوبِ الحَدِّ، وصِحَّةِ الإِقْرارِ؛ لأَنَّ الصَّبِىَّ والمجنونَ قد رُفِعَ القَلمُ عنهما، ولا حُكْمَ لكلامِهما؛ لِما روَى علىٌّ، رَضِىَ اللَّهُ عنه،
(1) في: باب إذا أقر الرجل بالزنى ولم تقر المرأة، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 469. كما أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 5/ 339، 340.
(2)
سقط من: الأصل.
(3)
تقدم تخريجه في 23/ 158.
(4)
في الأصل: «و» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال:«رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ» . رَواه أبو داودَ، والتَّرْمِذِىُّ (1)، وقال: حديثٌ حسنٌ.
فصل: والنَّائِمُ مَرْفُوعٌ عنه [القلمُ، فلو زُنِىَ بنَائِمَةٍ، أَوْ اسْتَدْخَلَتِ امرأةٌ ذَكَرَ نائِمٍ، أَوْ وُجدَ منه الزِّنَى حالَ نَوْمِه، فلا حَدَّ عليه؛ لأَنَّ القَلمَ مَرْفوعٌ عنه](2)، ولو أقَرَّ في حالِ نوْمِه، لم يُلْتَفَتْ إلى إقْرارِه؛ لأَنَّ كلامَه غيرُ معْتَبَرٍ، ولا [يَدُلُّ على](3) صِحَّةِ مَدْلُولِه. وأمَّا السَّكْرانُ ونحوُه، فعليه حَدُّ الزِّنى والسَّرِقَةِ والشُّرْبِ والقَذْفِ، إذا فعله في حالِ سُكْرِه؛ لأَنَّ الصحابةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، أوْجَبُوا عليه حَدَّ (4) الفِرْيَةِ؛ لكَوْنِ السُّكْرِ مَظِنَّةً لها، ولأنَّه تَسَبَّبَ إلى هذه المُحَرَّماتِ بسَبَبٍ لا يُعْذَرُ فيه، فأشْبَهَ مَن لا عُذْرَ له. وفيه وَجْهٌ آخرُ، أنَّه (5) لا يَجِبُ عليه الحَدُّ؛ لأنَّه غيرُ
(1) تقدم تخريجه في 3/ 15، وانظر طرق الحديث في: الإرواء 2/ 4 - 7.
(2)
سقط من: الأصل، تش.
(3)
في الأصل: «يصح» .
(4)
سقط من: الأصل.
(5)
سقط من: م.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عاقِلٍ، فيكونُ ذلك شُبْهَةً في دَرْء ما يَنْدِرئُ بالشُّبُهاتِ، ولأَنَّ طَلاقَه لا يَقَعُ في رِوايَةٍ، فأشْبَهَ النائِمَ. والأَوَّلُ أَوْلَى؛ لأَنَّ إسْقاطَ الحَدِّ عنه يُفْضِى إلى أنَّ مَن أرادَ فِعْلَ هذه المُحَرَّماتِ، شَرِبَ الخمرَ، وفَعَل ما أحَبَّ، فلا يَلْزَمُه شئٌ، ولأَنَّ السُّكْرَ (1) مَظِنَّةٌ لفِعْلِ المحارِمِ، وسَبَبٌ إليه، فقد تَسَبَّبَ إلى فِعْلِها حالَ صَحْوِه. فأمَّا إن أقَرَّ بالزِّنَى وهو سَكْرِانُ، لم يُعْتَبَرْ إقْرارُه؛ لأنَّه لا يَدْرِى ما يقولُ، ولا يَدُلُّ قولُه على صِحَّةِ خبَرِه، فأشْبَهَ قولَ النَّائِمِ والمجْنونِ. وقد روَى بُرَيْدَةُ، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَنْكَهَ ماعِزًا. رَواه أبو داودَ (2). وإنَّما فعلَ ذلك، ليَعْلَمَ هل هو سَكْرانُ أَوْ لا، ولو كان السَّكْرانُ مَقْبُولَ الإِقْرارِ، لَما احْتِيجَ إلى تَعَرُّفِ بَرَاءَتِه منه.
فصل: وأمَّا الأخْرَسُ؛ فإن لم تُفْهَمْ إشارَتُه، فلا يُتَصَوَّرُ منه إقْرارٌ، وإن فُهِمَتْ إشارَتُه، فقالَ القاضى: عليه الحَدُّ. وهو قولُ الشافعىِّ، وابنِ القاسمِ [صاحِبِ مالِكٍ، وأبى ثَوْرٍ](3)؛ وابنِ المُنْذِرِ؛ لأَنَّ مَن صَحَّ إقْرارُه بغيرِ الزِّنَى، صَحَّ إقْرارُه به، كالنَّاطِقِ. وقال أصحابُ أبى
(1) في الأصل: «السكران» .
(2)
في: باب رجم ماعز بن مالكٌ، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 460.
كما أخرجه مسلم مطولا، في: باب من اعترف على نفسه بالزنى، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1322. وعنده: فقام رجل فاستنكهه.
(3)
سقط من: الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
حنيفةَ: لا يُحَدُّ بإقْرارٍ ولا بَيِّنَةٍ؛ لأَنَّ الإِشارَةَ تَحْتَمِلُ ما فُهِمَ منها وغيرَه، فيكونُ ذلك شُبْهَةً في دَرْءِ الحَدِّ، لكَوْنِه ممَّا يَنْدَرئُ بالشُّبُهاتِ، ولا يَجِبُ بالبَيِّنَةِ؛ لاحْتِمالِ أن يكونَ له شُبْهَة لم يُمْكِنْه التَّعْبِيرُ عنها، ولم يَعْرِفْ كَوْنَها شُبْهَةً. ويَحْتَمِلُ كَلامُ الخِرَقِىِّ أن لا يَلْزَمَه الحَدُّ بإقْرارِه؛ لأنَّه شَرَط أن يكونَ صَحِيحًا، وهذا غيرُ صَحِيحٍ، ولأَنَّ الحَدَّ لا يجبُ بالشُّبْهَةِ، فأمَّا الإِشارَةُ فلا تَنْتَفِى (1) معها الشُّبُهاتُ. وأمَّا البَيِّنَةُ، فيَجِبُ عليه بها الحَدُّ؛ لأَنَّ قولَه معها غيرُ مُعْتَبَرٍ.
فصل: ولا يَصِحُّ الإِقْرارُ مِن المُكْرَهِ، فلو ضُرِبَ الرجلُ ليُقِرَّ بالزِّنَى، لم يجبْ عليه الحَدُّ، ولم يَثْبُتْ عليه الزِّنى. ولا نعلمُ بينَ أهلِ العلمِ خِلافًا في أنَّ إقْرارَ المُكْرَهِ لا يجبُ به حَدٌّ. ورُوِىَ عن عمرَ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، أنَّه قال: ليس (2) الرجلُ مَأْمُونًا على نَفْسِه إذا جَوَّعْتَه، أَوْ ضَرَبْتَه، أَوْ
(1) في الأصل: «ينبغى» .
(2)
سقط من: الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أوْثَقْتَه. رَواه سعيدٌ (1). وقال ابنُ شِهَابٍ، في رجلٍ اعْتَرَفَ بعدَ جَلْدِه: ليس عليه حَدٌّ. ولأَنَّ الإِقْرارَ إنَّما يَثْبُتُ به المُقَرُّ به، لوُجُودِ الدَّاعِى إلى الصِّدْقِ، وانْتِفاءِ التُّهْمَةِ عنه، فإنَّ العاقِلَ لا يُتَّهمُ بقَصدِ الإِضْرارِ (2) بنَفْسِه، ومع الإِكْراهِ يَغْلِبُ على الظَّنِّ أنَّ إقْرارَه لدَفْعِ ضَرَرِ الإِكْراهِ، فانْتَفَى ظَنُّ (3) الصِّدْقِ عنه، فلم يُقْبَلْ.
فصل: وإن أقَرَّ بوَطْءِ امرأةٍ، وادَّعَى أنَّها امرأتُه، فأنْكَرتِ المرأِةُ الزَّوْجِيَّةَ (4)، نَظَرْنا، فإن لم تُقِرَّ المرأةُ بوَطْئِه إيَّاها، فلا حَدَّ عليه، لأنَّه لم يُقِرَّ بالزِّنَى، وِلا مَهرَ لها، لأنَّها لا تَدَّعِيه، وإنِ اعْتَرَفَتْ بوَطْئِه، إيَّاها، واعْتَرفت بأنَّه زَنَى بها مُطاوِعَةً، فلا مَهْرَ عليه أيضًا، ولا حَدَّ على واحدٍ منهما، إلَّا أن يُقِرَّ أرْبَعَ مَرَّاتٍ، لأَنَّ الحَدَّ لا يجبُ بدُونِ إقْرارِ أرْبَعٍ، وإنِ ادَّعَتْ أنَّه أكْرَهَها عليه، أَوْ اشْتَبَهَ عليه، فعليه المَهْرُ، لأنَّه أقَرَّ بسَبَبِه. وقد روَى مُهَنَّا، عن أحمدَ، أنَّه سَألَه عن رجلٍ وَطِئَ امرأةً، وزَعَمَ أنَّها زَوْجَتُه، وأنْكَرَتْ هى أن يكونَ زَوْجَها، وأقَرَّتْ بالوَطْءِ، فقال: هذه
(1) تقدم تخريجه في 22/ 152.
(2)
في الأصل: «الإقرار» .
(3)
في الأصل: «ضمن»
(4)
سقط من: الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قد أقَرَّتْ على نَفْسِها بالزِّنَى، ولكن يُدْرَأُ عنه الحَدُّ بقَوْلِه: إنَّها امرأتُه. ولا مَهْرَ عليه، وأدْرَأُ عنها الحَدَّ حتَّى تَعْتَرِفَ مِرارًا. قال أحمدُ: وأهلُ المدينةِ يَرَوْنَ عليها (1) الحَدَّ، يذْهَبُونَ إلى قولِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم:«وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هذَا، فَإنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» (2). وقد تَقَدَّمَ الجَوابُ عن قولِهم.
فصل: (ولا يَنْزِعُ عن إقْرارِه حتَّى يَتِمَّ الحَدُّ) لأَنَّ مِن شروطِ إقامةِ الحدِّ بالإِقرارِ البقاءَ عليه إلى (3) تمام الحَدِّ، فإن رَجَع عن إقرارِه أَوْ هرَب، كُفَّ عنه. وبهذا قال عَطاءٌ، ويحيى بنُ يَعْمُرَ، والزُّهْرِىُّ، وحَمَّادٌ، ومالكٌ، والشافعىُّ، والثَّوْرِىُّ، وإسحاقُ، وأبو حنيفةَ، وأبو يوسفَ.
(1) سقط من: الأصل.
(2)
تقدم تخريجه في 13/ 450.
(3)
في م: «على» .