الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمَنْ شَرِبَهُ مُخْتَارًا عَالِمًا أَنَّ كَثِيرَهُ يُسْكِرُ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا،
ــ
لعَيْنِه، فلم يُبَحْ للتَّدَاوِى، كلَحْمِ الخِنْزيرِ. فإن شَرِبهَا للعَطَشِ، وكانت مَمْزُوجَةً بما يَرْوِى مِن العَطَشِ، أُبِيحَتْ لدَفْعِه عندَ الضَّرُورَةِ، كما تُبَاحُ المَيْتَةُ عندَ المَخْمَصَةِ، وكإباحَتِها لدَفْعِ الغُصَّةِ، وقد رَوَيْنا في حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ حُذَافَةَ، أنَّه حَبَسَه طاغيَةُ الرُّومِ في بيتٍ فيه ماءٌ مَمْزُوجٌ بخَمْرٍ (1)، ولَحْمُ خِنْزيرٍ مَشْوِىٌّ، ليَأكُلَه ويَشرَبَ الخَمْرَ، وتَرَكَه ثلاثةَ أيامٍ، فلم يَفْعَلْ، ثم أخْرَجُوه حينَ خَشُوا مَوْتَه، فقال: واللَّهِ لقد كانَ اللَّهُ أحَلَّه لى، فإنِّى مُضْطَرٌّ، ولكن لم أكُنْ أُشْمِتُكُمْ بدِينِ الإِسلامِ (2). وإن كانت صِرْفًا، أو مَمْزُوجةً بشئٍ يَسِيرٍ لا يَرْوِى مِن العَطَشِ، لم تُبَحْ، وعليه الحَدُّ. وقال أبو حنيفةَ: تُبَاحُ. وهو أحَدُ الوَجْهَيْن لأصحابِ الشافعىِّ؛ لأنَّه حالُ ضَرُورَةٍ. ولَنا، أنَّ العَطَشَ لا يَنْدَفِعُ به، فلم يُبَحْ، كما لو تَدَاوَى بها فيما لا يَصْلُحُ له. فأمَّا شُرْبُها لدَفْعِ الغُصَّةِ فيجوزُ، كما يجوزُ أكْلُ المَيْتَةِ في حالِ المَخْمَصَةِ، ولا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا.
4461 - مسألة: (ومَن شَرِبَه مُخْتَارًا عالِمًا أنَّ كَثِيرَه يُسْكِرُ، قَلِيلًا
(1) سقط من: الأصل.
(2)
أخرجه ابن عساكر في: تاريخه 9/ 115، 116.
فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ثَمَانُونَ جَلْدَةً. وَعَنْهُ، أَرْبَعُونَ إِنْ كَاْنَ حُرًّا.
ــ
كان أو كَثِيرًا، فعليه الحَدُّ ثَمَانُون جَلْدَةً. وعنه، أرْبَعُونَ) ولا نعلمُ بينَهم خِلافًا في عَصِيرِ العِنَبِ غيرِ المَطْبُوخِ، واخْتَلَفُوا في سائِرِها، فمذهبُ أحمدَ التَّسْوِيَةُ بينَ عصيرِ العنبِ وغيرِه من المُسْكِراتِ. وهو قولُ الحسنِ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وقَتادَةَ، والأوْزاعِىِّ، ومالكٍ، والشافعىِّ. وقالت طائِفَةٌ: لا يُحَدُّ، إلَّا أن يُسْكرَ؛ منهم [أبو وائلٍ](1) ، والنَّخَعِىُّ، وكثيرٌ مِن أهلِ الكُوفَةِ، وأصحابُ الرَّأْى. وقال أبو ثَوْرٍ: مَن شَرِبَه مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَه حُدَّ، ومَن شَرِبَه مُتَأوِّلًا (2)، فلا حَدَّ عليه؛ لأنَّه مُخْتَلَفٌ فيه، فأشْبَهَ النِّكاحَ بلا وَلِىٍّ. ولَنا، ما رُوِى عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال:«مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ» . رَواه أبو داودَ، وغيرُه (3).
(1) في الأصل: «وائل» .
(2)
سقط من: الأصل.
(3)
أخرجه أبو داود، في: باب إذا تتابع في شرب الخمر، من كتاب الأشربة. سنن أبى داود 2/ 474.
كما أخرجه الترمذى، في: باب ما جاء من شرب الخمر فاجلدوه. . .، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 223. والنسائى، في: باب ذكر الروايات المغلظات في شرب الخمر، من كتاب الأشربة. المجتبى 8/ 281. وابن ماجه، في: باب من شرب الخمر مرارا، من كتاب الحدود. سنن ابن ماجه 2/ 859. والدارمى، في: باب العقوبة في شرب الخمر، من كتاب الأشربة. سنن الدارمى 2/ 115. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 136، 191، 504، 519، 4/ 93، 95، 96، 101.
وانظر صفحة 185.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقد ثَبَت أنَّ كلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، فيَتَناوَلُ الحديثُ قليلَه وكثيرَه، ولأنَّه شَرابٌ فيه شِدَّة مُطْرِبَةٌ، فوَجَبَ الحَدُّ بقليله، كالخمرِ، والاخْتِلافُ فيها لا يَمْنَعُ وُجوبَ الحَدِّ فيها، بدليلِ ما لو اعْتَقَدَ تَحْرِيمَها. وبهذا فارَقَ النِّكاحَ بلا وَلِىٍّ وغيرَه من المُخْتَلَفِ فيه، وقد حَدَّ عمرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، قُدامَةَ بنَ مَظْعُونٍ، وأصحابَه، مع اعْتِقادِهم حِلَّ ما شَرِبُوه. والفرقُ بينَ هذا وبينَ سائرِ المُخْتَلَفِ فيه من وَجْهَيْن؛ أحدُهما، أنَّ فِعْلَ المُخْتَلَفِ فيه ههُنا دَاعِيةٌ إلى فِعْلِ ما أُجْمِعَ على تَحْرِيمِه، وفِعْلَ سائر المُخْتَلَفِ فيه يَصْرِفُ عن جِنْسِه من المُجْمَعِ على تَحْرِيمِه. الثانى، أن السُّنَّةَ عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم قد اسْتفاضَتْ بتَحْرِيمِ المُخْتَلَفِ فيه، فلم يَبْقَ فيه لأحَدٍ عُذْرٌ في اعْتقادِ إباحَتِه، بخِلافِ غيرِه من المُجْتَهَداتِ. قال أحمدُ بنُ القاسم: سمعتُ أبا عبدِ اللَّهِ، يقولُ: في تحريمِ المُسْكِرِ عشرونَ وَجْهًا عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، في بَعْضِها:«كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» . وفى بعضِها: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: وحَدُّه ثمانون، في إحْدى الرِّوايَتَيْن. وبهذا قال مالكٌ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، ومَن تَبِعَهم؛ لإجْماعِ الصَّحابةِ، فإنَّه رُوِى أنَّ عمرَ اسْتَشَارَ النَّاسَ في حَدِّ الخمرِ، فقال عبدُ الرحمنِ: اجْعَلْه كأخَفِّ الحدودِ ثمانينَ. فضَرَبَ عمرُ ثمانين، وكَتَب به إلى خالدٍ، وأبى عُبَيْدَةَ بالشَّامِ (1). ورُوِىَ أنَّ عليًّا قال في المَشُورَةِ: إنَّه إذا سَكِرَ هَذَى، وإذا هَذَى افْتَرَى، فَحُدُّوه حَدَّ المُفْتَرِى. روَى ذلك الجُوزْجَانِىُّ، والدَّارَقُطْنِىُّ، وغيرُهما (2). والرِّوايةُ الثَّانيةُ، أنَّ الحَدَّ أربعون. وهو اخْتيارُ أبى بكرٍ، ومذهبُ الشافعىِّ؛ لأَنَّ عليًّا، رَضِىَ اللَّهُ عنه، جَلَد الوليدَ ابنَ عُقْبَةَ أربعين، ثم قال: جَلَد النبىُّ صلى الله عليه وسلم أرْبعين، وأبو بكرٍ أربعين،
(1) أخرجه مسلم، في: باب حد الخمر، من كتاب الحدود. صحيح مسلم 3/ 1330، 1331. وأبو داود، في: باب في الحد في الخمر، من كتاب الحدود. سنن أبى داود 2/ 472. والترمذى، في: باب ما جاء في حد السكران، من أبواب الحدود. عارضة الأحوذى 6/ 222. والدارمى، في: باب في حد الخمر، من كتاب الحدود. سنن الدارمى 2/ 175. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 115، 176، 180، 272، 273. وليس عندهم: فكتب به. . . والحديث أخرجه البخارى، في: باب ما جاء في ضرب شارب الخمر، وباب الضرب بالجريد والنعال، من كتاب الحدود. صحيح البخارى 8/ 196. مختصرا دون ذكر الاستشارة.
(2)
تقدم تخريجه في 22/ 141.
ويضاف إليه: والإمام مالك، في: باب الحد في الخمر، من كتاب الأشربة. الموطأ 2/ 842. وعبد الرزاق، في: المصنف 7/ 378.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وعمرُ ثمانين، وكلٌّ سُنَّةٌ، وهذا أحَبُّ إلىَّ. رَواه مسلمٌ (1). وعن أنَسٍ، قال: أُتِى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم برجلٍ قد شَرِب الخمرَ، فضَرَبَه بالنِّعالِ نحوًا مِن أربعين، ثم أُتِى به أبو بكرٍ، فصَنَعَ (2) مثلَ ذلك، ثم أُتِى به عمرُ، فاسْتَشَارَ النَّاسَ في الحُدُودِ، فقال ابنُ عوفٍ: أقَلُّ الحدودِ ثمانون. فضَرَبَه عمرُ. مُتَّفَقٌ عليه (1). وفعلُ النبىِّ صلى الله عليه وسلم حُجَّةٌ لا يجوزُ تَرْكُه لفِعْلِ غيرِه، ولا يَنْعَقِدُ الإِجْماعُ على ما خالَفَ فعلَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم وأبى بكرٍ وعلىٍّ، رَضِىَ اللَّهُ عنهما، فتُحْمَلُ الزِّيادَةُ على أنَّها تَعْزِيرٌ، يجوزُ فِعْلُها إذا رَآها الإِمامُ.
فصل: وإنَّما يَلْزَمُ الحَدُّ مَن شَرِبَها مُخْتارًا لشُرْبِها، فإن شَرِبَها مُكْرَهًا، فلا حَدَّ عليه، ولا إثْمَ، سَواءٌ أُكْرِهَ بالوَعِيدِ أو الضَّرْبِ، أو أُلْجِئَ إلى شُرْبِها بأن يُفْتَحَ فُوه، وتُصَبَّ فيه، فإنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم، قال: «عُفِىَ
(1) تقدم تخريجه في صفحة 186.
(2)
بعده في الأصل: «به» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لأُمَّتِى عَنِ الخَطَأ، وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» (1). وكذلك مَن اضْطُرَّ إليها لدَفْعِ غُصَّةٍ (2) بها، إذا لمِ يَجِدْ مائِعًا سِوَاها، فإنَّ اللَّهَ تعالى قال في آيَةِ التَّحْرِيمِ:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (3). وكذلك إن شَرِبَها لعَطَشٍ شديدٍ، وكانت مَمْزُوجَة بما يَرْوِى من العَطَشِ، فإنَّها تُباحُ بذلك عندَ الضَّرُورَةِ، كما تُبَاحُ المَيْتَةُ في المَخْمَصَةِ.
فصل: فإن ثَرَدَ في الخمرِ، أو اصْطَبَغَ به، أو طَبَخ به لَحْمًا فأكَلَ من مَرَقِه، فعليه الحَدُّ؛ لأَنَّ عينَ الخمرِ مَوْجودة، وكذلك إن لَتَّ به سَوِيقًا فأكَلَه. فإن عَجَن به دَقِيقًا، فخَبَزَه وأكَلَه، لم يُحَدَّ؛ لأَنَّ النَّارَ أكَلَتْ أجْزاءَ الخمرِ، فلم يَبْقَ إلَّا أثَرُه، وإنِ احْتَقَنَ بالخمرِ، لم يُحَدَّ؛ لأنَّه ليس بشُرْبٍ ولا أكْلٍ، ولأنَّه لم يَصِلْ إلى حَلْقِه، فأشْبَهَ ما لو دَاوَى به جُرْحَه، فإنِ اسْتَعَطَ به، فعليه الحَدُّ؛ لأنَّه أوْصَلَه إلى باطِنِه من حَلْقِه، ولذلك نَشَرَ الحُرْمَةَ في الرَّضاعِ دونَ الحُقْنَةِ. وحُكِىَ عن أحمدَ، أنَّ على مَن احْتَقَنَ به الحَدَّ؛ لأنَّه أوْصَلَه إلى جَوْفِه. والأَوَّلُ أوْلَى؛ لِما ذَكَرْناه.
(1) بعده في ق، م:«رواه النسائى» . والحديث تقدم تخريجه عند ابن ماجه في 1/ 276.
(2)
في ر 3: «لقمة غص» .
(3)
سورة البقرة 173.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: ويُشْتَرَطُ لوُجُوبِ الحَدِّ على مَن شَرِبَها أن يَعْلَمَ أنَّ كثيرَها يُسْكِرُ، فإن لم يَعْلَمْ، فلا حَدَّ عليه؛ لأنَّه غيرُ عالم بالتَّحْرِيمِ، ولا قَصَد ارْتِكابَ المَعْصِيَةِ بها، فأشْبَهَ مَن زُفَّتْ إليه غيرُ امرأتِه. وهذا قولُ عامَّةِ أهلِ العلمِ. فأمَّا مَن شَرِبَها غيرَ عالم بتَحْرِيمِها، فلا حَدَّ فيه أيضًا؛ لأَنَّ عمرَ وعثمانَ قالا: لا حَدَّ إلَّا على مَن عَلِمَه (1). ولأنَّه غيرُ عالمٍ بالتَّحْريمِ، أشْبَهَ مَن لم يَعْلَمْ أنَّها خَمْرٌ. ومتى ادَّعَى الجَهْلَ بتَحْرِيمِها، وكان ناشِئًا ببَلَدِ الإِسْلامِ بينَ المسلمين، لم تُقْبَلْ دَعْواهُ؛ لأَنَّ هذا لا يَكادُ يَخْفَى على مِثْلِه، فلم تُقْبَلْ دَعْوَاه فيه. وإن كان حديثَ عهدٍ بالإِسْلامِ، أو ناشِئًا بباديةٍ بعيدةٍ عن البُلدان (2) قُبلَ منه؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ ما قالَه.
(1) تقدم تخريجه في صفحة 170.
(2)
في ر 3، ق، م:«البلد» .