الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
78 -
بَاب مَا نزل فِي كيد النِّسَاء
قَالَ تَعَالَى {واستبقا الْبَاب} أَي تسابقا إِلَيْهِ وَهَذَا كَلَام مُتَّصِل بقوله {وَلَقَد هَمت بِهِ وهم بهَا} الْآيَة وَمَا بَينهمَا اعْتِرَاض وَوجه تسابقهما أَن يُوسُف أَرَادَ الْفِرَار وَالْخُرُوج من الْبَاب وَامْرَأَة الْعَزِيز أَرَادَت أَن تسبقه إِلَيْهِ لتمنعه عَن الْفَتْح وَالْخُرُوج قَالَ السُّيُوطِيّ بَادر إِلَيْهِ يُوسُف للفرار وَهِي للتشبث بِهِ فَأَمْسَكت ثَوْبه
{وقدت} أَي جذبت قَمِيصه {من دبر} من وَرَائه فانشق إِلَى أَسْفَله {وألفيا سَيِّدهَا لَدَى الْبَاب} أَي وجدا الْعَزِيز هُنَالك {قَالَت مَا جَزَاء من أَرَادَ بأهلك سوءا} من الزِّنَا وَنَحْوه وَقَالَت هَذِه الْمقَالة طلبا للحيلة وللستر على نَفسهَا فنسبت مَا كَانَ مِنْهَا إِلَى يُوسُف {إِلَّا أَن يسجن أَو عَذَاب أَلِيم} هُوَ الضَّرْب بالسياط وَالظَّاهِر أَنه مَا يصدق عَلَيْهِ الْعَذَاب الْأَلِيم من ضرب أَو غَيره وَفِي الْإِبْهَام زِيَادَة تهويل {قَالَ هِيَ راودتني عَن نَفسِي} يَعْنِي طلبت مني الْفَحْشَاء فأبيت وفررت {وَشهد شَاهد من أَهلهَا} أَي من قرابتها قيل كَانَ ابْن عَم لَهَا وَقيل ابْن خَال لَهَا وَقيل طِفْل فِي المهد تكلم وَهُوَ الصَّحِيح للْحَدِيث الْوَارِد فِي ذَلِك {إِن كَانَ قَمِيصه قد من قبل فصدقت وَهُوَ من الْكَاذِبين وَإِن كَانَ قَمِيصه قد من دبر فَكَذبت وَهُوَ من الصَّادِقين} فِي دَعْوَاهُ عَلَيْهَا وَللَّه مَا أبلغ هَاتين الْآيَتَيْنِ معنى وأفصحها لفظا {فَلَمَّا رأى} الْعَزِيز {قَمِيصه} أَي قَمِيص يُوسُف {قد من دبر} كَأَنَّهُ لم يكن رأى ذَلِك بعد أَو لم يتدبره فَلَمَّا تنبه لَهُ وَعلم حَقِيقَة الْحَال وَعرف خِيَانَة امْرَأَته وَبَرَاءَة يُوسُف عليه السلام {قَالَ إِنَّه من كيدكن} ومكركن وحيلكن يَا معشر النِّسَاء {إِن كيدكن عَظِيم} وصف كيدهن أَي جنس النِّسَاء بالعظيم لِأَنَّهُ مِنْهُنَّ أعظم من كيد جَمِيع الْبشر فِي إتْمَام مرادهن لَا يقدر عَلَيْهِ الرِّجَال فِي هَذَا الْبَاب فَإِنَّهُ ألطف وأعلق بِالْقَلْبِ وَأَشد تَأْثِيرا فِي النَّفس
وَعَن بعض الْعلمَاء إِنِّي أَخَاف من النِّسَاء مَا لَا أَخَاف الشَّيْطَان فَإِنَّهُ تَعَالَى يَقُول {إِن كيد الشَّيْطَان كَانَ ضَعِيفا} وَقَالَ للنِّسَاء (إِن كيدكن عَظِيم) وَلِأَن الشَّيْطَان يوسوس مسارقة وَهن يواجهن بِهِ الرِّجَال وَقَالَ الحفناوي هَذَا فِيمَا يتَعَلَّق بِأَمْر الْجِمَاع والشهوة لَا أَنه عَظِيم على الْإِطْلَاق إِذْ الرِّجَال أعظم مِنْهُنَّ فِي الْحِيَل والمكايدة فِي غير مَا يتَعَلَّق بالشهوة
ثمَّ خَاطب الْعَزِيز يُوسُف عليه السلام بقوله {يُوسُف أعرض عَن هَذَا} وأكتمه وَلَا تَتَحَدَّث بِهِ حَتَّى لَا يفشو ويشيع بَين النَّاس {واستغفري} يَا زليخا {لذنبك} الَّذِي وَقع مِنْك {إِنَّك كنت من الخاطئين} أَي من جنسهم برمي يُوسُف بالخطيئة
{وَقَالَ نسْوَة} جمَاعَة من النِّسَاء {فِي الْمَدِينَة} هِيَ مصر وَقيل مَدِينَة الشَّمْس {امْرَأَة الْعَزِيز تراود فتاها عَن نَفسه} وَهُوَ يمْتَنع مِنْهَا {قد شغفها حبا} أَي غلبها حبه وَقيل دخل حبه فِي شغافها وَهُوَ غلاف الْقلب وَهُوَ جلدَة عَلَيْهِ وَقيل هُوَ وسط الْقلب وَقَالَ ابْن عَبَّاس قَتلهَا حب يُوسُف
قَالَ السَّيِّد غُلَام على آزاد البلجرامي فِي سبْحَة المرجان فِي آثَار هندوستان لَا إستعباد فِي إِظْهَار الْعِشْق من جَانب الْمَرْأَة أما ترى فِي الْقُرْآن الْكَرِيم غرام امْرَأَة الْعَزِيز بِيُوسُف عليه السلام والأهاند يذكرُونَ الْعِشْق فِي تغزلاتهم من جَانب الْمَرْأَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرجل خلاف الْعَرَب وَسَببه أَن الْمَرْأَة فِي دينهم لَا تنْكح إِلَّا زوجا وَاحِدًا فحظ عيشها مَنُوط بحياة الزَّوْج وَإِذا مَاتَ تحرق نَفسهَا مَعَه والعشق بَين الرجل وَالْمَرْأَة وضع إلهي فَتَارَة يكون من الطَّرفَيْنِ وَتارَة يكون من أَحدهمَا وَإِذا لوحظ الْوَضع الإلهي فالمرأة معشوقة عاشقة وَالرجل عاشق معشوق وَأهل الْهِنْد وافقوا الْعَرَب فِي التغزل بِالنسَاء بِخِلَاف الْفرس وَغَيرهم فَإِن تغزلهم بالمرد فَقَط وَلَا ذكر للْمَرْأَة فِي أغزالهم ولعمر الْمحبَّة إِنَّهُم لظالمون حَيْثُ يضعون الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى فِي قوم لوط عليه السلام {وَمَا هِيَ من الظَّالِمين بِبَعِيد} والمولدون من
الْعَرَب فِي التغزل بالمرد مقلدون لَهُم وَالْأَصْل فِي التغزل بِالنسَاء وَمَعْنَاهُ الْوَصْف لَهُنَّ وَأما الأهاند فَلَا يعْرفُونَ التغزل بالمرد قطعا انْتهى حَاصله
قلت الأَصْل فِي الْعِشْق هُوَ الرجل يعشق الْمَرْأَة تدل على ذَلِك قصَّة آدم فِي عشقه حَوَّاء عليهما السلام وَظُهُور الْعِشْق من جَانب الْمَرْأَة للرجل قصَّة مِلَّة الْكفْر كَمَا مر وَيُؤَيِّدهُ شِيمَة أهل الْهِنْد فَلَا حجَّة فِيهِ لجَوَاز الْعِشْق على الْمُسلمين وَأما عشق المرد سَمَّاهُ الله تَعَالَى فَاحِشَة فِي قصَّة لوط فالمقلدون لَهُم فِي ذَلِك من أهل الْفرس وَغَيرهم خاطئون مخطئون فَإِن هَذَا مِمَّا لَا يحل فِي أَي صُورَة وَلَا يستطاب عِنْد أحد من الْعُقَلَاء وللحافظ ابْن الْقيم وَالشَّيْخ مُحَمَّد حَيَاة الْمدنِي قدس الله سرهما كَلَام نَفِيس فِي الرَّد على عشق المرد والنسوان فِي إغاثة اللهفان والدَّاء والدواء وَغَيرهمَا وَعقد السَّيِّد آزاد رَحمَه الله تَعَالَى الْفَصْل الرَّابِع من كِتَابه الْمَذْكُور فِي بَيَان أَقسَام المعشوقات وأنواع العشاق وَأورد لكل قسم مِنْهُمَا أشعارا عَجِيبَة وأبياتا غَرِيبَة بِاعْتِبَار الْجِهَات المتنوعة والحيثيات المتلونة إِن رَآهَا السالي تذوب طَبِيعَته الجامدة أَو العاذل تشْتَمل ناره الخامدة وَلَيْسَ هَذَا الْكتاب مَحل ذكر مثل هَذِه الْأَبْوَاب وَفِي ذَلِك الْبَاب كتاب نشوة السَّكْرَان من صهباء تذكار الغزلان وَهُوَ أجمل مَا جمع فِي هَذَا الْبَاب وَلَا نشك أَن كل محبَّة من كل أحد لكل أحد يُخَالف الْإِسْلَام البحت وَالْإِيمَان الصّرْف وَالْإِحْسَان الْمَحْض إِلَّا مَا أرشد إِلَيْهِ خَالق الْبشر ومعطي القوى وَالْقدر وَرَسُوله الْمبلغ إِلَى الْأمة كل مَعْرُوف ومنكر وَقد قَالَ سبحانه وتعالى {وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله} فَهَذِهِ الْمحبَّة وشدتها تغني عَن كل عشق وغرام وتكفي عَن جَمِيع أَنْوَاع الوله والهيام اللَّهُمَّ اجْعَل حبك أحب إِلَيْنَا من كل شَيْء سواك وَلَا تدع لحب وَلَا لعشقه فِينَا موقعا واجعلنا من الَّذين قَالَ فيهم نبيك صلى الله عليه وسلم تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك
(أَتَانِي هَواهَا قبل أَن أعرف الْهوى
…
فصادف قلبا خَالِيا فتمكنا)
(وَكَيف ترى ليلى بِعَين ترى بهَا
…
سواهَا وَمَا طهرتها بالمدامع)
(وتلتذ مِنْهَا بِالْحَدِيثِ وَقد جرى
…
حَدِيث سواهَا فِي حروق المسامع)
(أَجلك يَا ليلى عَن الْعين إِنَّمَا
…
أَرَاك بقلب خاضع لَك خاشع)
(إِذا كَانَ هَذَا الدمع يجْرِي صبَابَة
…
على غير ليلى فَهُوَ دمع مضيع)
(دلّ آرامي كه دَاري دلّ درو نبد
…
دكر جشم أزهمه عَالم فروند)
وَهل يجوز فِي الْإِسْلَام أَن يعشق أحد خلقا من خلق الله أَو شَيْئا من كائناته سُبْحَانَهُ وَلَا يحب الله الَّذِي خلق هَذِه المعشوقات الفانية المكدرة المشوبة بالآلام المحفوفة بالأسقام وَيتْرك خَالِقهَا ذَا الْجمال الْمُطلق والجلال الْكَامِل وَتَمام الْإِكْرَام أَو رَسُوله الجائي إِلَيْنَا بِهَذَا الْإِيمَان وَالْإِحْسَان وَالْإِسْلَام وَللَّه در إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عليه السلام فِي قَوْله لَا أحب الآفلين وَكَيف يَأْتِي من الْعَاقِل أَن يخْتَار الفاني على الْبَاقِي ويرضى بالدنيء من الفاني وَهل هَذَا إِلَّا كَمَا حكى سبحانه وتعالى فِي هَذَا الْمقَام عَن النسْوَة الْمَذْكُورَات {إِنَّا لنراها فِي ضلال} عَن طَرِيق الرشد وَالصَّوَاب {مُبين} وَاضح لَا يلتبس على من نظر فِيهِ حَيْثُ تركت مَا يجب على أَمْثَالهَا من العفاف والستر
{فَلَمَّا سَمِعت} امْرَأَة الْعَزِيز {بمكرهن} أَي بغيبتهن إِيَّاهَا {أرْسلت إلَيْهِنَّ} تدعوهن إِلَيْهَا لتقيم عذرها عِنْدهن ولينظرن إِلَى يُوسُف حَتَّى يقعن فِيمَا وَقعت فِيهِ قيل دعت أَرْبَعِينَ امْرَأَة من أَشْرَاف مدينتها فِيهِنَّ هَؤُلَاءِ اللائي عيرنها
{وأعتدت لَهُنَّ متكأ} أَي هيأت لَهُنَّ مجَالِس يتكئن عَلَيْهَا من نمارق ومسانيد {وآتت كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ سكينا} ليقطعن مَا يحْتَاج إِلَى التقطيع من الْأَطْعِمَة قيل وَكَانَ من عادتهن أَن يأكلن اللَّحْم والفواكه بالسكين وَكَانَت تِلْكَ السكاكين خناجر {وَقَالَت اخْرُج عَلَيْهِنَّ} أَي فِي تِلْكَ الْحَالة الَّتِي هن عَلَيْهَا من الإتكاء وَالْأكل {فَلَمَّا رأينه أكبرنه} أَي أعظمنه وَقيل هبنه وَقيل دهشن من شدَّة جماله وَقيل أمذين وَقيل حضن وَالْأول أولى قَالَ الرَّازِيّ وَعِنْدِي أَنَّهُنَّ إِنَّمَا أكبرنه لِأَنَّهُنَّ رأين عَلَيْهِ نور النُّبُوَّة وسيماء الرسَالَة وشاهدن فِيهِ مهابة ملكية وَهِي عدم الِالْتِفَات إِلَى المطعوم والمنكوح وَعدم الِاعْتِدَاد بِهن فتعجبن من تِلْكَ الْحَالة فَلَا جرم أَنَّهُنَّ أكبرنه وعظمنه واحترمنه {وقطعن أَيْدِيهنَّ} أَي جرحنها حَتَّى سَالَ الدَّم وَقيل المُرَاد بِالْأَيْدِي هَهُنَا أناملهن وَقيل أكمامهن وَعَن مُنَبّه عَن أَبِيه قَالَ مَاتَ من النسْوَة تسع عشرَة امْرَأَة كمدا {وقلن حاش لله مَا هَذَا بشرا} إِنَّمَا نفين عَنهُ البشرية لِأَنَّهُ برز فِي صُورَة قد لبست من الْجمال البديع مَا لم يعْهَد لأحد من الْبشر وَلَا أبْصر المبصرون مَا يُقَارِبه فِي جَمِيع النَّسمَة البشرية {إِن هَذَا إِلَّا ملك كريم} على الله لِأَنَّهُ قد تقرر فِي الطباع وركز فِي النُّفُوس أَنهم على شكل فَوق شكل الْبشر فِي الذوات وَالصِّفَات وَأَن لَا شَيْء أحسن من الْملك وَأَنَّهُمْ فائقون فِي كل شَيْء كَمَا تقرر أَن الشَّيَاطِين على الْعَكْس من ذَلِك إِذْ لَا شَيْء أقبح مِنْهُم وَالْمَقْصُود من هَذَا إِثْبَات الْحسن الْفَائِق الباهر المفرط ليوسف عليه السلام
{قَالَت فذلكن الَّذِي لمتنني فِيهِ} قَالَت لَهُنَّ هَذَا لما رَأَتْ افتتانهن بِيُوسُف إِظْهَارًا لعذر نَفسهَا وَمعنى فِيهِ فِي حبه {وَلَقَد راودته عَن نَفسه فاستعصم} أَي استعف واستعصى وَامْتنع مِمَّا أريده طَالبا لعصمة نَفسه عَن ذَلِك
(كرمن آلوده دامنم جه عجب
…
همه عَالم كواه عصمت أوست)