الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهَذِه خَاتِمَةٌ لَطِيفَةٌ لِهَذَا الكِتَاب
من الجاري على ألسنة الناس ما ذكره بعضهم حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عُلَمَاءُ أُمَّتِيْ كَأَنْبِيَاءِ بَنيْ إسْرَائِيلَ"(1).
وممن نقله جازما به أنه حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم الإمام فخر الدين الرازي، والشيخ موفق الدين بن قدامة، والإسنوي، والبارزي، واليافعي.
وأشار إلى الأخذ بمعناه الإمام سعد الدين التفتازاني، والشيخ فتح الدين الشهيد، والشيخ العارف بالله سيدي أَبو بكر الموصلي، والحافظ المسند الشيخ جلال الدين السيوطي في "الخصائص الكبرى".
وقال الشيخ تاج الدين ابن عطاء الله الإسكندري في "لطائف المنن" بعد أن أورد الحديث جازماً به: أي: إن علماء أمتي يأتون مقررين ومؤكدين وآمرين بما جئت به، لا أنهم يأتون بشرع جديد؛ فأشار بذلك إلى وجه التشبيه بين علماء هذه الأمة وأنبياء بني إسرائيل.
قلت: ومن وجه التشبيه أيضاً: أنَّ هذه الأمة شهداء على الناس،
(1) قال السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 459): قال شيخنا - يعني ابن حجر - ومن قبله الدميري والزركشي: إنه لا أصل له، زاد بعضهم: ولا يعرف في كتاب معتبر.
كما أنَّ الأنبياء شهداء على قومهم، وأن الله تعالى لم يجعل على هذه الأمة في الدين من حرج، وأنَّ دعوتهم مستجابة كدعوة الأنبياء عليهم السلام.
وقد قدمت حديثاً في ثبوت ذلك لعموم الأمة، وإنما يكون ذلك لخواصهم، وعامتهم فيه تَبَع.
وللشبه وجوهٌ أخر ستعرف بعضاً كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ولا يلزم من كون علماء هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل أن يكونوا مثلهم في كل وصف هو لهم.
وكذلك لا يلزم منه أن يكونوا أفضل من الأنبياء كما فهمه الشيخ برهان الدين الناجي رحمه الله فألجأه ذلك إلى تأليف جزء ردَّ فيه على من قال: إنَّه حديث، وأشار إلى تخطئة من ذكرناهم آنفا محتجاً بأنه لم يُوجد في كتب الحديث المعتبرة، وبأنه يلزم منه تسوية علماء الأمة بالأنبياء، وقد وقع الإجماع من أهل السنة على أنَّ الأولياء لا يبلغون درجة الأنبياء.
وقد علمت أنه لا يلزم من اللفظ التسوية المذكورة، وقد أطبق البلغاء والعقلاء على أن المشبه لا يفضل المشبه به في وجه التشبيه المشترك بينهما، فإذا قلت: زيد كالأسد، لا يلزم منه تفضيل زيد في الشجاعة على الأسد، بل مفهومه أن الأسد أبلغ منه في الشجاعة.
فقوله صلى الله عليه وسلم - إنْ صحَّ عنه -: "عُلُماءُ أُمَّتِي كَأَنْبِياءِ بَنِي إِسْرائِيْلَ"؛ أي: في تقرير الشرائع وفهم الأحكام، لا في النبوة؛ لأن ذلك غير لازم.
ثم إنَّ الأنبياء فيما ذُكر أتم حالاً وأبلغ أمراً من علماء هذه الأمة، كما يفهم من صيغة التشبيه، فهذا اللفظ معناه صحيح.
وأما من حيث النقلُ فإنَّ العلماء الذين نقلوه حديثاً ثقات،
فالأولى حمل أمرهم على أنهم ظَفِروا به مسنداً، ولم نظفر نحن به (1).
على أن لهذا الحديث شواهد سنوردها قريباً - إن شاء الله تعالى -.
(1) ما قاله المصنف هنا ليس بحسن؛ إذ لو اعتمدنا ما أقره المصنف أن نصحح الحديث بناء على ثقة من ذكره في كتابه، لضاعت جهود علماء الحديث سدى طوال قرون طويلة في بحثهم عن الرجال وتقصي أحوالهم، ولما كان لعلم الجرح والتعديل كبير فضل، ولضاعت خصيصة هذه الأمة في الإسناد، وكما قال ابن المبارك:"الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء". "مقدمة صحيح مسلم"(ص: 15).
وقال الزهري عندما سمع أبا فروة - يحدث بأحاديث دون إسنادها -: قاتلك الله يا ابن أبي فروة! ما أجرأك على الله! لا تسند حديثك! تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة. كما في "معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص: 6) وقال شعبة بن الحجاج: كل حديث ليس فيه: حدثنا وأخبرنا، فهو خل وبقل. كما في "الكامل" لابن عدي (1/ 34).
وأما قول المصنف: "إن العلماء الذين نقلوه حديثا ثقات" فنحن لا نشك في ثقتهم ولكن عمن رووه! ؟
قال عبد الله بن عون: ذكر أيوب لمحمد حديث أبي قلابة، فقال: أَبو قلابة إن شاء الله ثقة رجل صالح، ولكن عمن ذكره أَبو قلابة؟ ! . كما في "الكامل" لابن عدي (1/ 147).
وقال أَبو إسحاق الطالقاني: سألت ابن المبارك قلت: الحديث الذي يروى "من صلى على أبويه" فقال: من رواه؟ قلت: شهاب بن خراش. فقال: ثقة، عمن؟ قلت: عن الحجاج بن دينار، فقال: ثقة، عمن؟ قلت: عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إن ما بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق الإبل. كما في "مقدمة صحيح مسلم"(ص: 16).
قلت: هذا بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بمن ذكرهم المصنف وبين النبي صلى الله عليه وسلم؟ ! .
وإذا تقرر لك أن المشبَّه به أفضل من المشبه في العادة، فأي مانع من تشبيه المفضول بالفاضل لتشبه بعض الصحابة ببعض الأنبياء في السمت.
وقد روى أَبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سرَّه أَنْ يَنْظُرَ إِلَى تَواضُعِ عيسى عليه السلام فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَبِي ذَرٍّ"(1).
وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي ذر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْمَسِيْحِ عِيْسَى بْنِ مَرْيَمَ؛ إِلَى بِرِّهِ وَصِدْقِهِ وَجِدِّهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَبِي ذَرٍّ"(2).
وروى الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم وصححاه، عن عقبة ابن عامر رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ كانَ بَعْدِيْ نبِيٌّ لَكانَ عُمَرَ ابْنَ الْخَطَّابِ"(3).
وروى ابن عساكر عن مسلم بن يسار رحمه الله مرسلاً، قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: "شَبِيهُ إبْراهِيمَ، وإنَّ الملائكةَ لَتَسْتَحْيي مِنْهُ"(4).
وروى الطبراني بأسانيد رجال بعضها رجال الصحيح، وصححه الحاكم وغيره، عن مسروق قال: قال عبد الله - يعني: ابن مسعود رضي الله عنه:
(1) ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(32267).
(2)
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(9/ 330): رواه الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 154)، والترمذي (3686) وحسنه، والحاكم في "المستدرك"(4495).
(4)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(39/ 96).
إن معاذاً كان أمة قانتاً لله حنيفاً، ولم يكُ من المشركين، فقال فروة - رجل من أشجع -: نسي أن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً، فقال: ومن نسي؟ إنا كنا نشبه معاذاً رضي الله عنه بإبراهيم.
قال: وسُئِلَ - يعني: ابن مسعود - عن الأمة، قال: معلم الخير، وسئل عن القانت فقال: مطيع الله ورسوله (1).
وروى ابن المبارك عن معقل بن يسار رضي الله عنه: أن الناس كانوا يقولون عن عامر بن عبد قيس رحمه الله: إنه مثل إبراهيم عليه السلام (2).
وروى الديلمي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما مِنْ نَبِيٍّ قَطُّ إِلَاّ وَلَهُ نظِيْرٌ فِيْ أُمَّتِي؛ أَبُو بَكْرٍ نَظِيْرُ إِبْراهِيْمَ، وَعُمَرُ نَظِيْرُ مُوسَى، وَعُثْمانُ نَظِيْرُ هارُونَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طالِبٍ نَظِيْرِي، وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عِيْسَى بْنِ مَرْيَمَ فَلْيَنْظُرْ إِلى أَبِي ذَرٍّ"(3).
وعن أبي الحمراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَرادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلى آدَمَ فِيْ وَقارِهِ، وَإِلى مُوْسَى فِيْ شِدَّةِ بَطْشِهِ، وَإِلَى عِيْسَى فِيْ زُهْدِهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذا الْمُقْبِلِ"، فأقبل علي رضي الله عنه (4).
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(9944)، والحاكم في "المستدرك" (5189). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 49): رواه الطبراني بأسانيد ورجال، بعضها رجال الصحيح.
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 298).
(3)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(6124). وكذا رواه ابن الأعرابي في "معجمه"(2/ 66) وقال: أخاف أن يكون الغلابي كذبه.
(4)
قال الشوكاني في "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة"(ص: 367): رواه الحاكم عن أبي الحمراء مرفوعاً، قال ابن الجوزي: موضوع، وفي إسناده =
وروى ابن أبي شيبة عن الماجشون بن أبي سلمة رحمه الله قال: قال سعد بن معاذ رضي الله عنه: ثلاث أنا فيما سواهنَّ ضعيف؛ ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قولاً إلا علمت أنه حق من الله تبارك وتعالى، ولا صليت صلاةً قط فألهاني عنها غيرها حتى أنصرف عنها، ولا سمعت جنازة قط فحدثت نفسي بغيرها هي قائلة أو مقول لها.
قال: فحدثت بذلك الزهري قال: إن كان لمأموناً على ما قال، وما كنتُ أرى أنَّ أحداً من الناس يكون هكذا إلا نبي (1).
وفي "سنن أبي داود": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: "أَنْتَ مِنِّىْ وَأَنا مِنْكَ".
وقال لجعفر رضي الله عنه: "أَشْبَهْتَ خَلْقِيَ وَخُلُقِي".
وقال لزيد بن حارثة رضي الله عنه: "أَنْتَ أَخُونا وَمَوْلانا"(2).
وروى أَبو نعيم عن ابن وهب قال: سمعت مالك بن أنس رضي الله عنه يقول: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: تأتي أمة محمد علماء حكماء كأنَّهم من الفقه أنبياء.
قال مالك: أراهم صدور هذه الأمة (3).
= أَبو عمر الأزدي متروك، قال في "اللآلئ": له طريق أخرى عند الديلمي، ثم ذكرها، ورواه ابن شاهين عن أبي سعيد مرفوعاً.
(1)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34796).
(2)
روى أَبو داود (2278) أصل الحديث عن علي رضي الله عنه دون لفظ المؤلف، وأما الحديث كما ذكره المؤلف فقد رواه البخاري (4005) عن البراء رضي الله عنه.
(3)
رواه أَبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 320).
قلت: إنما قال مالك هذا لأنَّ الصدر الأول مظنة هذه الأخلاق ما كادوا يخرجون عنها، فأراد أن يرى رأياً يسلمه له كل أحد، وإلا فإنا نعد بعد الصدر الأول خلائق كانوا متخلقين بهذه الخلائق، وناهيك بالأئمة الأربعة وأقرانهم وأصحابهم، وبأبي الحسن الأشعري وأقرانه من أهل السنة، وبالإمام أبي إسحاق الشيرازي، وإمام الحرمين، والشيخ نصر المقدسي، والقشيري، والغزالي، والنووي، والطحاوي، والكرخي، والقاضي عياض، والشيخ أبي عمر بن قدامة، وأخيه الموفق، وأمثالهم مما لا يُعد كثرة.
وروى أَبو نعيم عن سعيد بن هارون البرجمي رحمه الله قال: رأيت في المنام كأني في موضع علمتُ أنه ليس من الدنيا، فإذا أنا برجل لم أر قط أجمل منه، فقلت: مَنْ أنت يرحمك الله؟
قال: أنا يوسف بن يعقوب.
فقلت: قد كنت أحبُّ أن ألقى مثلك فأسأله.
قال: سَلْ.
فقلت: ما الرافضة؟
قال: يهود.
وقلت: والإباضية؟
قال: يهود.
قلت: فقوم عندنا نصحبهم.
قال: من هم؟
قلت: سفيان الثوري وأصحابه.
قال: أولئك يُبعثون على ما بعثنا الله عليه معاشرَ الأنبياء (1).
وروى أَبو الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار" عن سهل التستري رحمه الله قال: من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء عليهم السلام فلينظر إلى مجالس العلماء، يجيء الرجل فيقول: يا فلان! إيش تقول في رجل حلف على امرأته في كذا وكذا؟ فيقول: طلقت امرأته، ويجيئه آخر فيقول: ما تقول في رجُل حلف على امرأته في كذا وكذا؟ فيقول: ليس يحنث بهذا القول، وليس هذا إلا لنبي أو لعالم، فاعرفوا لهم ذلك (2).
وروى ابن المبارك في "الزهد" عن محمود بن الربيع قال: كنا عند عبادة بن الصامت رضي الله عنه فاشتكى، فأقبل الصُّنَابِحِيُّ، فقال عبادة: من سرَّه أن ينظر إلى رجل كأنما رقي به من فوق سبع سماوات فعمل ما عمل على ما رأى فلينظر إلى هذا، فلما انتهى الصنابحي إليه قال عباده: لئن سُئِلْتُ عنك لأشهدنَ لك، ولئن شفعت لأشفعنَّ لك، ولئن استطعت لأنفعنك (3).
فتأمل في شهادة عبادة للصنابحي؛ واسمه عبد الرحمن بن عُسَيْلَةَ
(1) رواه أَبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 385).
(2)
ورواه الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"(1/ 149).
(3)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 293). والشطر الأخير منه عند مسلم (29).
من كبار التابعين وعبادهم، قدم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بخمس ليال، وكان عبد الملك يجلسه معه على السرير، شهد له عبادة بأن يقينه كيقين أولي العزم من المرسلين.
وروى أَبو نعيم عن الأعمش قال: ما زال الحسن البصري يعي الحكمة حتى نطق بها.
قال: وكان إذا ذُكر عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن قال: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء (1).
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن العوام بن حوشب رحمه الله تعالى قال: ما أشبه الحسن إلا بنبي أقام في قومه ثلاثين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل.
وأخرجه أَبو أحمد العسكري، ولفظه: أقام في قومه ستين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل (2).
وروى العسكري عن مجاهد رحمه الله قال: سمعت عائشة رضي الله عنها كلام الحسن، فقالت: من هذا الذي يُشبه كلامه كلام الأنبياء عليهم السلام (3)؟
وروى أَبو نعيم عن سفيان بن عُيينة قال: رأيتُ منصور بن المعتمر - يعني: في المنام -، فقلت: ما فعل الله بك؟
(1) رواه أَبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 147).
(2)
وانظر: "تهذيب الكمال" للمزي (6/ 105).
(3)
وانظر: "ربيع الأبرار" للزمخشري (1/ 129).
قال: كدتُ أن ألقى الله بعمل نبي.
قال سفيان: إن منصوراً رحمه الله صام ستين سنة يقوم ليلها ولصوم نهارها (1).
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد، ومن طريقه أَبو نعيم عن أبي يحيى القتات رحمه الله قال: قدمت مع حبيب بن أبي ثابت الطائف وكأنما قدم عليهم نبي (2).
وقال اليافعي في "الإرشاد": وقد بلغنا عن بعض الأولياء الأكابر والعلماء الجامعين بين الباطن والظاهر أنه قال: لو كان نبي بعد النبي صلى الله عليه وسلم لكان الغزالي، وكان يجعل ثبوت معجزاته ببعض مصنفاته.
قلت: ولعل هذا لا يختص بالغزالي رضي الله عنه، ولعل كل من خرقت له عادة من علماء هذه الأمة في تصنيف أو إملاء أو حفظ، فإن تلك الخارقة صالحة لأن تكون معجزة لو كان باب النبوة منفتحاً، وهو مسدود الآن لختمه بالنبي صلى الله عليه وسلم بنص الكتاب والسنة.
وقال بعض فضلاء القاهرة في شيخ الإسلام والدي رضي الله عنه وأقره عليه ولم يُنكره: [من البسيط]
مَوْلًى هُوَ النَّاسِ وَالدُّنْيا بِما رَحُبَتْ
…
فَضْلاً وَعِلْماً فَكَيْفَ النَّاسُ تَعْدِلُهُ
(1) رواه أَبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 41).
(2)
رواه أَبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 60).
لَوْ يُرْسِلُ اللهُ بَعْدَ الْمُصْطَفى أَحَداً
…
لَكانَ فِيْ أَهْلِ هَذا الْعَصْرِ يُرْسِلُهُ
وروى ابن السمعاني: أنَّ إمام الحرمين ناظر فيلسوفاً في مسألة خلق القرآن، فقذف بالحق على باطله ودمغه دمغاً، ودحض شبهته دحضاً، وأوضح كلامه في المسألة حتى اعترف الموافق والمخالف له بالغلبة، فقال الأستاذ أَبو القاسم القشيري: لو ادعى إمام الحرمين النبوة لاستغنى بكلامه هذا عن إظهار المعجزة (1).
وما ذكره الإمام مالك عن عيسى عليه السلام رواه ابن عساكر وغيره بزيادة فيه عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه: أنَّ عيسى ابن مريم عليهما السلام قال: يا رب! أنبئني عن هذه الأمة المرحومة، فقال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم علماء حنفاء حكماء كأنهم أنبياء، يرضون مني بالقليل من العطاء، وأرضى منهم باليسير من العمل، وأدخلهم الجنة بلا إله إلا الله.
يا عيسى! هم أكثر سكان الجنة لأنه لم تذل ألسنة قوم قط بلا إله إلا الله كما ذلت ألسنتهم، ولم تذل رقاب قومٍ قط بالسجود كما ذلت رقابهم (2).
وروى أَبو نعيم عن أبي سليمان الداراني رحمه الله قال: حدثني
(1) وانظر: "ذيل تاريخ بغداد" لابن النجار (16/ 93).
(2)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(47/ 382).
شيخ بساحل الشام يقال له: علقمة بن يزيد بن سويد الأزدي قال: حدثني أبي عن جدي سويد بن الحارث رضي الله عنه قال: وفدتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة من قومي، فلما دخلنا عليه وكلمناه أعجبه ما رأى من سمتنا وزيتا، فقال:"ما أَنْتُمْ؟ "
قلنا: مؤمنون.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيْقَةً، فَمَا حَقِيْقَةُ قَوْلِكُمْ وَإِيْمَانِكُمْ؟ "
قال سويد: قلنا: خمس عشرة خصلة؛ خمس منها أمرتْنَا رسلُك أن نؤمن بها، وخمس منها أمرتنا رسلك أن نعمل بها، وخمس منها تخلَّقنا بها في الجاهلية فنحن عليها إلا أن تكره منها شيئاً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَمَا الخَمْسُ الَّتِيْ أَمَرَتْكُمْ رُسُلِيْ أَنْ تُؤْمِنُوْا بِهَا؟ "
قلنا: أمرتنا رسلك أن نؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت.
قال: "وَمَا الخَمْسُ الَّتِيْ أَمَرَتْكُمْ أَنْ تَعْمَلُوْا بِهَا؟ "
قلنا: أمرتنا رسلك أن نقول: لا إله إلا الله، ونُقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت من استطاع إليه سبيلاً.
قال: "وَمَا الخَمْسُ الّتِيْ تَخَلَّقْتُمْ بِهَا أَنْتُمْ فِيْ الجَاهِلِيَّةِ؟ "
قلنا: الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والصدق عند اللقاء، والرضا بمرِّ القضاء، والصبر عند شماتة الأعداء.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ كَادُوْا مِنْ صِدْقِهِمْ أَنْ يَكُوْنُوْا أَنْبِيَاءَ"(1).
وروى الديلمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم! قال: "كَادَ حَمَلَةُ القُرْآنِ أَنْ يَكُوْنُوا أَنْبِيَاء"(2).
وروى أَبو عمر بن عبد البر، والهروي في "ذم الكلام" عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَلَىْ خُلَفَائِي رَحْمَةُ اللهِ"، قيل: ومن خلفاؤك؟ قال: "الَّذِيْنَ يُحْيُوْنَ سُنَّتِيْ وَيُعَلِّمُوْنها عِبَادَ اللهِ"(3).
قيل: الحسن المذكور هو ابن علي رضي الله عنهما.
وقيل: البصري، فيكون الحديث مرسلاً.
لكن يؤيد الأول: أن الحديث رواه ابن السني، وأبو نعيم في "رياض المتعلمين" من حديث علي رضي الله عنه (4).
وروى أَبو نعيم في "فضل العالم العفيف" عن ابن عباس رضي الله عنهما
(1) رواه أَبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 279).
(2)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(221). قال السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 143): فيه من لا يعرف، وأحسبه غير صحيح.
(3)
رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(1/ 46)، والهروي في "ذم الكلام وأهله"(4/ 228).
(4)
رواه أَبو نعيم في "أخبار أصبهان"(1/ 251)، والرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (ص: 163). قال الذهبي في "ميزان الاعتدال"(1/ 270): هذا باطل.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَقْرَبُ النَّاسِ مِنْ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ أَهْلُ العِلْمِ وَالجِهَادِ"(1).
بل قال الله تعالى في كتابه العزيز: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68].
وقوله: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 68] معناه: إن أحق الناس بنصرته واتباعه، أو أقربهم شبهاً به؛ فإنَّ الآية نزلت رداً على أهل الكتاب القائلين: إن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً، فقال تعالى مبرئاً له عن ذلك {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67]، والنبي والمؤمنون حنفاء مسلمون، فهم أولى به ممن سواهم.
وروى أَبو نعيم عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَيْسَ مِنْ عَالِمٍ إِلَاّ وَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيْثَاقَهُ يَوْمَ أَخَذَ مِيْثَاقَ النَّبِيِّيَن يَدْفَعُ عَنْه مَسَاوِئَ عَمَلِهِ بِمَحَاسِنَ عمله (2) إِلَاّ أَنَّهُ لا يُوْحَىْ إِلَيْهِ"(3).
وروى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأَبْدَالُ فِيْ هَذِهِ الأُمَّةِ ثَلَاثُوْنَ مِثْلُ إِبْرَاهِيمِ خَلِيْلِ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ
(1) قال العراقي في " تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 12)؛ رواه أَبو نعيم في "فضل العالم العفيف" من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف.
(2)
في "مسند الفردوس": "بمجالس علمه" بدل "بمحاسن عمله".
(3)
ورواه الديلمي في "مسند الفردوس"(5161).
السَّلامُ، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ مَكَانَهُ رَجُلاً" (1).
وروى الطبراني عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَنْ تَخْلُوَ الأَرَضُ مِنْ أَرْبَعِيْنَ رَجُلاً مِثْلَ خَلِيْلِ الرَّحْمنِ، فَبِهِمْ تُسْقَوْن وَبِهِمْ تُنْصَرُوْنَ، مَا مَاتَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَا أَبْدَلَ اللهُ مَكَانَهُ آخَرَ"(2).
وروى أَبو نعيم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ للهِ فِيْ الخَلْقِ ثَلَاثَ مِئَةٍ قُلُوْبُهُمْ عَلَى قَلْبِ آدَمَ عليه السلام، وللهِ فِيْ الخَلْقِ أَرْبَعُوْنَ قُلُوْبُهُمْ عَلَىْ قَلْبِ مُوْسَىْ عليه السلام، وَللهِ فِي الخَلْقِ سَبْعَةٌ قُلُوْبُهُمْ عَلَىْ قَلْبِ إبْراهِيْم عليه السلام، وَللهِ فِيْ الخَلْقِ خَمْسَةٌ قُلُوْبُهُم عَلَىْ قَلْبِ جِبْرِيل عليه السلام، وللهِ فِيْ الخَلْقِ ثَلَاثةٌ قُلُوبُهُم عَلَىْ قَلْبِ مِيْكَائِيْلَ عليه السلام، وَللهِ فِيْ الخَلْقِ وَاحِدٌ قَلْبُهُ عَلَىْ قَلْبِ إِسْرَافِيْلَ عليه السلام، بِهِمْ يُحْيِي وُيمِيْتُ وَيُمْطِرُ وُينْبِتُ وَيرْفَعُ البَلاءَ"(3).
فلا يقال: يلزم من كون الأبدال مثل إبراهيم أو قلوبهم على قلبه أن يكونوا في رتبته في الفضل، وإنما جعل الله تعالى هؤلاء أبدالاً عن الأنبياء وخلفاء عنهم بطريق النيابة والوراثة، والأنبياء مفضلون عليهم بالنبوة
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 322) وقال: منكر.
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(4101). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 63): إسناده حسن.
(3)
رواه أَبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 9). قال الذهبي في "ميزان الاعتدال"(5/ 64): قاتل الله من وضع هذا الإفك.
والدرجة الرفيعة، وكذلك من كان من أولياء الله تعالى على قلب آدم أو موسى لا يكون في رتبتهما، وإنما ينوبان عنهما في النصيحة والمنفعة.
وروى أَبو نعيم، والبيهقي عن كعب الأحبار رحمه الله تعالى: أنه سمع رجلاً يقول: رأيت في المنام كأنَّ الناس جُمعوا للحساب، فَدُعِيَ الأنبياء، فجاء مع كل نبي أمته، ورأى لكل نبي نورين، ولكل من اتبعه نوراً يمشي به، فدعي محمد صلى الله عليه وسلم فإذا لكل شعرة من رأسه ووجهه نور على حدة يثبته من نظر إليه، ولكل من اتبعه نوران يمشي بهما كنور الأنبياء، فقال كعب: والله الذي لا إله إلا هو! لقد رأيتُ هذا في منامك؟ قال: نعم.
قال: والذي نفسي بيده إنها لصفة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة (1).
وروى أَبو نعيم عن كعب رحمه الله قال: قال موسى عليه السلام: إني لأجد في الألواح صفة قومٍ على قلوبهم من النور مثل الجبال الرواسي، تكاد الجبال والرمال أن تخرَّ لهم سجداً من النور، فسأل ربه وقال: اجعلهم من أمتي، قال الله تعالى: يا موسى! إني اخترت أمة محمد صلى الله عليه وسلم وجعلتهم أئمة الهدى، وهؤلاء طوائف من أمته.
قال: يا رب! فبمَ بلغ هؤلاء حتى آمر بني إسرائيل يعملوا مثل عملهم وأبلغ نعتهم؟
قال: يا موسى! إنَّ الأنبياء كادوا يعجزون عمَّا أعطيت أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
(1) رواه البيهقي في "دلائل النبوة"(7/ 39).
يا موسى! بلغوا أنهم تركوا الطعام الذي أحللت لهم رغبةً فيما عندي، وكان عيشهم في الفلق من الخبز، والخلِقِ من الثياب، أيسوا من الدنيا وأيست الدنيا منهم، أقربهم مني وأحبهم إلي أشدهم جوعاً وأشدهم عطشاً (1).
وروى البيهقي عن وهب بن منبه رحمه الله قال: إن الله أوحى في الزبور: يا داود! إنه سيأتي بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد صادقاً نبياً، لا أغضب عليه أبداً، ولا يغضبني أبداً، وقد غفرتُ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأمته أمة مرحومة، أعطيهم من النوافل مثلما أعطيت الأنبياء، وأفترض عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء، وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا في كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالغُسل من الجنابة كما أمرتُ الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الأنبياء قبلهم.
يا داود! إني فضلت محمداً وأمته على الأمم كلهم، أعطيتهم ست خصال لم أُعطها غيرهم من الأمم، لا أُؤاخذهم بالخطأ والنسيان، وكل ذنبٍ ركبوه على غير عمد إذا استغفروني منه غفرته، وما قدموه لإخوتهم من شيءٍ طيبةً به أنفسهم عجلت لهم أضعافاً مضاعفة، ولهم عندي أضعاف مضاعفة، وأفضل من ذلك أعطيهم على المصائب والبلايا إذا
(1) رواه أَبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 388).