الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وروى ابن أبي الدنيا عن الفضيل رحمه الله تعالى قال: قيل لعيسى عليه السلام: بأي شيء تمشي على الماء؟ قال: بالإيمان واليقين، قالوا: إنّاَ آمنَّا كما آمنت، وأيقنا كما أيقنت، قال: فامشوا إذاً، فمشوا معه، فجاء الموج فغرقوا، فقال لهم عيسى: ما لكم؟ قالوا: خفنا الموج، قال: ألا خفتم رب الموج، قال: فأخرجهم، ثم ضرب بيده إلى الأرض فقبض بها ثم بسطهما، فإذا في إحدى يديه ذهب، وفي الأخرى مدر (1) أو حصى، فقال: أيهما أجلُّ في قلوبكم؛ قالوا: هذا الذهب، قال: فإنهما عندي سواء (2).
وروى أبو الشيخ عن أبي الخير البصري رحمه الله تعالى قال: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: تزعم أنك تحبني وتُسيء بي الظن صباحًا ومساءً، أما كانت لك عبرة أن شققت سبع أرضين فأريتك ذرة في فِيها برة ما نسيتها (3).
قلت: وهذا في كتاب الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6].
52 - ومنها: التوكل والتفويض والتسليم
.
قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)} [الصافات: 103].
وقال تعالى يحكي عن هود عليه السلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي
(1) المدر: قطع الطين.
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "اليقين"(ص: 40).
(3)
كذا عزاه السيوطي في "الدر المنثور"(4/ 401) إلى أبي الشيخ.
وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56].
وقال تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود: 88].
وقال تعالى حكاية عنه مترجِمًا عن نفسه وعن المؤمنين من
قومه: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} [الأعراف: 89].
وقال تعالى: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)} [الشعراء: 61].
وهذا يدل على أنه كان في أعلى طبقات التوكل والثقة بحفظ الله تعالى؛ لأنه قاله وهو بين البحر، وبين العدو، والعدو أضعاف أضعافهم، وهم في غاية الحَنَق والغيظ عليهم، فلما كان بهذه المثابة من اليقين والتوكل على الله تعالى فَرَقَ له البحر.
وقال تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)} [يوسف: 67].
وقال تعالى حكاية عن الرسل عليهم السلام: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا (12)} [إبراهيم: 12].
وروى ابن النجار في "تاريخه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيْمُ عليه السلام فِيْ النَّارِ قَالَ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيْلُ، فَمَا احْتَرَقَ مِنْهُ إِلَاّ مَوْضعُ الكِتَابِ".
وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حسبنا الله ونعم
الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلقي النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال الناس:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} [آل عمران: 173](1).
وروى ابن أبي شيبة، وابن حنبل في "الزهد" عن سالم بن أبي الجعد رحمه الله تعالى قال: قال عيسى عليه السلام: اعملوا لله ولا تعملوا لبطونكم، انظروا إلى هذه الطير تغدو وتروح، لا تحرث ولا تحصد، الله يرزقها، فإن قُلتم نحن أعظم بطونًا من الطير فانظروا إلى هذه الأباقر والحمر تغدو وتروح، ولا تحرث ولا تحصد، الله يرزقها، اتقوا فضول الدنيا؛ فإنَّ فضول الدنيا رجز (2)؛ أي: عذاب.
وهذا كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الدنيا حلالها حساب، وحرامها عقاب، وفي رواية: عذاب. رواه ابن أبي الدنيا (3).
وأخرجه بعضهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً.
وإنما أطلق عيسى عليه السلام على فضول الدنيا أنها رجز؛ إما باعتبار شريعته، وإما باعتبار أن الفضول إن كان حرامًا فذاك، وإن كان حلالاً كان حساباً، والحساب عذاب أيضًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ نُوْقِشَ الحِسابَ عُذِّبَ". رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها (4).
(1) رواه البخاري (4287).
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34232)، وكذا ابن المبارك في "الزهد"(1/ 291).
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في "الزهد"(ص: 18).
(4)
رواه البخاري (6171)، ومسلم (2876).