الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك كل من سَنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من يعمل بها إلى يوم القيامة؛ بل الشيطان سَنَّ كل سنة سيئة.
وقال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 60 - 62].
وعبادة الشيطان مجرد الميل إليه، والتعلق به على غير وجه الإعراض واللعن، وهي أعم من الطاعة والسجود له، والانقياد إليه، واتخاذه إلهاً - وإن كان هذا أشد أنواع العبادة - ألا ترى إلى قوله:{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 62]؛ أي: تعقلون ما يمنعكم عن الميل إليه، وإلى ما يأمر به؛ فإنه لا يجر إلا إلى الضَّلال، وأنتم لا تجدون أحداً عبده وأطاعه إلا ضل.
*
تَنْبِيْهٌ:
في قوله تعالى: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] إشارة
إلى أنه قد يكون الاستكبار سبباً للعمى عن الحق، كما صار في إبليس على القول الثاني بأنه كان عالماً فسُلب العلم.
ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146].
ثم الأرجح أن إبليس أول من كفر، بل أول من عصى.
قال النيسابوري: ما كفر أحد قبل إبليس.
وروي: أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: أول من مات إبليس لأنه أول من عصاني (1).
وقالت طائفة: كان تقدمه من الجن من كفر، فشبهه الله تعالى بهم في الكفر، وجعله منهم لَمَّا فعل فعلهم، فقال:{وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34].
قلت: وفي هذا تقريرٌ لما حرَّرنا سابقاً من أن من تشبه بقوم فهو منهم.
وفيه نكتة لطيفة، وهي أن الشيطان كان في كفره متشبهاً بكفرة الجن، فهو أول من تشبه بالكفار والفجار، كما أنه أول من امتنع من التشبه بالأخيار، وأول من منعه من ذلك الاستكبار، وأول من باء بسبب ذلك باللعن والعار والبوار.
وقد نقل الإمام الوالد في "تفسيره": أن المراد بقوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50]: تشتبه أفعاله بأفعالهم؛ لأنه إن كان منهم حقيقة فإنه
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 304)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(61/ 154).
كان من الملائكة على قول ابن عباس وأكثر المفسرين كما نقله البغوي، وحكاه القرطبي - أيضاً - عن ابن مسعود، وابن جريح، وابن المسيب، وقتادة، وغيرهم؛ قال: وهو قول الشيخ أبي الحسن الأشعري، ورجحه الطبري (1).
قلت: وروى ابن جرير، وابن عساكر عن ابن مسعود، وناس من الصحابة رضي الله عنهم: أن إبليس كان من قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خُزَّان الجنة (2).
وعليه: فالجن الذي كان إبليس منهم غير الجن الذين هم أحد الثقلين، وبينهم فرق في الاشتقاق أيضاً؛ فالجن أحد الثقلين سموا جناً لتسترهم عن الناس، والجن الحي من الملائكة سموا جناً لأنهم خُزَّان الجنَّة.
وهذا الذي ذكرناه هنا قول ثالث في قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50].
وروى عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة رحمه الله تعالى في الآية؛ قال: كان من قبيل من الملائكة يقال لهم: الجن.
قال: وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: ولو لم يكن
(1) انظر: "تفسير القرطبي"(1/ 294).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(1/ 203).
من الملائكة لم يؤمر بالسجود (1).
قلت: وهذا دليل واضح.
وروى أبو الشيخ عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال: لما لعن إبليس تغيرت صورته، فجزع لذلك، فَرَنَّ؛ فكل رنة في الدُّنيا إلى يوم القيامة فهي منها (2).
وهنا فصلان ينبغي التنبه عليهما.
(1) رواه عبد الرزاق في "التفسير"(2/ 404)، والطبري في "التفسير"(1/ 225).
(2)
رواه أبو الشيخ في "العظمة"(5/ 1678).
الفَصْلُ الأَوَّلُ
علم مما اختاره الشيخ الوالد في تفسير قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50]: أن الجن غير الشَّياطين، وهو ما عليه المحققون أن الجن خلقٌ على حِدَتِهم، خُلِقَ أبوهم - وهو الجان - من مارج من نار السَّموم كما قال تعالى:{وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15].
وقال تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27].
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الجان أبو الجن، كما أن آدم أبو البشر (1).
وأما قوله تعالى حكايةً عن إبليس: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} [الأعراف: 12]، فالمراد أنه خلق من النار التي خلقت منها الملائكة، وهي النور.
وقد وقعت تسمية النور ناراً - أيضاً - في قوله تعالى: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29] الآية.
ثم لما لعن إبليس وطرد صار له ذرية، كما قال تعالى:
(1) انظر: "تفسير البغوي"(3/ 49).
{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50]؛ فذريته هم الشياطين، وهو أبو الشياطين.
وأما قوله تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112]، وقوله تعالى:{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 4 - 6]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"يَا أَبَا ذَرٍّ! تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالجِنِّ"، قال: قلت: يا رسول الله! وللإنس شياطين؟ قال: "نَعَمْ". رواه الإمام أحمد، والبيهقي في "الشعب"(1).
فالمراد بشياطين الجن والإنس من كان من الثقلين على قدم الشيطان.
سُمُّوا شياطين لتلبسهم بأخلاق الشيطان.
فأعتى الشياطين إبليس - وهو المراد بالشيطان عند الإطلاق - ثم أعتاهم من كان من ذريته، ثم من كان من الجن، ثم من كان من الإنس.
إلا أن من الناس من قال: إن شيطان الإنس أشد لأنه أبلغ في الاستزلال والإضلال؛ بسبب أن الجنس أميل إلى الجنس، فرب مستمال بشيطنة الإنسي ما لا يستمال بشيطنة الجني.
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 178)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(3576).
والذي تلخص مما سبق - على القول الأصح -: أن آدم عليه السلام أبو البشر، وإبليس - لعنه الله - أبو الشياطين، والجان أبو الجن، ثم إن الجن والإنس هما الثقلان، وعليهما التكليف، ولهما ثواب الطاعة، وعليهما عقاب المعصية على الأصح.
خلافاً لمن يقول: لا ثواب للجن إلا الخروج من النار، ثم يكونون تراباً، أو في رَبَض الجنة.
وقيل: هم أصحاب الأعراف.
وقيل غير ذلك.
وعلى الأصح: فالجن منهم كافرون، ومنهم مسلمون، فالمسلمون لا يخلد عاصيهم في النار، ولا يدخل الجنة منهم الكفار، وقد نطق القرآن العظيم بأن نفراً من الجن صرفوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعوا منه القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصتوا، وصح الحديث، وأصله عند مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهم رسلاً إلى قومهم، وسألوه الزاد، فقال:"لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِيْ أَيْدِيْكُمْ أَوْفَىْ ما يَكُوْنُ لَحْماً، وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوابِّكُمْ".
قال صلى الله عليه وسلم: "لا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا؛ فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمُ الْجِنِّ"(1).
وروى الإمام الشافعي، والبيهقي: أن رجلاً من الأنصار خرج يصلي العشاء، فَسَبَتْهُ الجن، وقعد أعواماً، وتزوجت امرأته، ثم أتى المدينة،
(1) رواه مسلم (450).
فسأله عمر رضي الله تعالى عنه، فقال: اختطفتني الجن، فلبثت فيهم زماناً طويلاً، فغزاهم جن مؤمنون، وقاتلوهم، فأظهرهم الله تعالى عليهم، فَسَبَوْا منهم سبايا، وسَبَوْني معهم، فقالوا: نراك رجلاً مسلماً، ولا يحل لنا سباؤك، فخيروني بين المقام عندهم والقفول إلى أهلي، فاخترت أهلي، فأتوا بي المدينة، فقال له عمر: ما كان طعامهم؟ قال: كل ما لم يذكر اسم الله عليه، قال: فما كان شرابهم؟ قال: الحذف (1)، وهو الرغوة؛ لأنها تحذف عن الماء، وقيل: كل إناء كشف عنه غطاؤه.
ودلَّ هذا الخبر أن مطعوم كفار الجن ما لم يذكر اسم الله عليه، كما دل الذي قبله أن مطعوم مؤمنيهم ما ذكر اسم الله عليه، وهو تشرع منهم.
ومَا دل عليه من سباء الجن للإنس دلَّ عليه ما رواه الإمام أحمد، والترمذي، وأبو يعلى بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث ذات ليلة نساءه حديثاً، فقالت امرأة منهن: يا رسول الله! هذا حديث خرافة، قال:"أتدْرُوْنَ مَا خُرَافَةُ؟ إِنَّ خُرَافَةَ كانَ رَجَلاً مِنْ بَنِي عَذْرَةَ أَسْرَتْهُ الْجِنُّ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَكَثَ فِيْهِمْ دَهْرًا، ثُمَّ رَدُّوهُ إِلَى النَّاسِ، فَكَانَ يُحَدِّثُ النَّاسَ بِمَا رَأى فِيْهِم مِنَ الأَعَاجِيْبِ، فَقَالَ النَّاسُ: حَدِيْثُ خُرَافَةَ"(2).
(1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 445).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 157)، وأبو يعلى في "المسند"(4442).
قال ابن الأثير: ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خُرَافَةُ حَقٌّ"(1)؛ أي: حديثه.
وقد نطق القرآن العظيم أن من الجن صالحين - كما تقدمت الإشارة إلى ذلك - وهم إخوان المؤمنين من الإنس، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم في العظم والبعر:"فَإِنَّهُما طَعامُ إِخْوانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ"(2) - كما تقدم - وقال في الطاعون: " [وخز] أَعْدائِكُمْ مِنَ الْجِن"(3)، فسماهم أعداء لأن المؤمنين من الجن لا يطعنون المؤمنين من الإنس، وأما ما اشتهر على الألسنة:"وَخْزُ إِخْوانِكُمْ" فإنه لفظ منكر لم ترد به الرواية، كما نبه عليه ابن حجر في "بذل الماعون"(4).
وبذلك يتضح أن إخبار الأنصاري عن طعام الجن أنه كل ما لم يذكر اسم الله عليه أراد به الإخبار عن الجن الكفار الذين سبَوه أولاً، فلا تعارض بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم:"لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ" لأنه في مقام الدعوة والتكليف لمؤمنيهم، ممَّا يدل على أن الجن متعبدون بشريعته صلى الله عليه وسلم كما نقل ابن عطية، وغيره الإجماع على ذلك، [ويدل عليه]: ما رواه الإمام أحمد، والطبراني في "الأوسط"، والبيهقي، وأبو نعيم كلاهما في "الدلائل" عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى
(1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 25).
(2)
تقدم تخريجه قريباً.
(3)
سيأتي تخريجه.
(4)
وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 182).
عنهما قال: أول خبر قدم المدينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن امرأة من أهل المدينة كان لها تابع، فجاء في صورة طائر حتى وقع على حائط دارهم، فقالت له المرأة: انزل، قال: إنه بعث بمكة نبي منع منا القرار، وحرم علينا الزناء (1).
وروى أبو نعيم في "الدلائل" عن تميم الداري رضي الله تعالى عنه قال: كنت بالشام حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت إلى بعض حاجتي، فأدركني الليل، فقلت: أنا في جوار عظيم هذا الوادي، فلما أخذت بمضجعي إذا أنا بمناد ينادي لا أراه: عُذْ بالله؛ فإن الجن لا تجير على الله أحداً، قلت: ويم الله! ما تقول؟ قال: قد خرج الأمين رسول الله، وصلينا خلفه بالحجون، فأسلمنا، واتبعناه، وذهب كيد الجن، ورميت بالشهب، فانطلق إلى محمد رسول رب العالمين، فأَسْلِمْ.
قال تميم: فلما أصبحت ذهبت إلى راهب فأخبرته الخبر، فقال: قد صدقوك؛ يخرج من الحرم، ومهاجره الحرم، وهو خير الأنبياء، فلا تُسْبَقْ إليه (2).
وروى أبو سعد الخركوشي في "شرف المصطفى صلى الله عليه وسلم" عن الجعد
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 356)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(765)، والبيهقي في "دلائل النبوة"(2/ 261).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(ص: 155)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(11/ 73).
ابن قيس المرادي قال: خرجنا أربعة أنفس نريد الحج في الجاهلية، فمررنا بواد من أودية اليمن، فلما أقبل الليل استعذنا بعظيم الوادي، وعقلنا رواحلنا، فلمَّا هدأ الليل ونام أصحابي إذا هاتف من بعض أرجاء الوادي يقول:[من الطويل]
أَلا أَيُّها الرَّكْبُ الْمُعَرِّسُ بَلِّغُوْا
…
إِذا ما وَقَفْتُمْ بِالْحَطِيْمِ وَزَمْزَما
مُحَمَّدًا الْمَبْعُوْثَ مِنَّا تَحِيَّةً
…
تُشَيِّعُهُ مِنْ حَيْثُ سارَ وَيَمَّما
وَقُوْلُوا لَهُ إِنَّا لِدِيْنِكَ شِيْعَةٌ
…
بِذَلِكَ أَوْصانا الْمَسِيْحُ بْنُ مَرْيَما (1)
ومن أشهر ما في هذا الباب قصة سواد بن قارب رضي الله تعالى عنه، وقد أخرجها البخاري في "تاريخه" والطبراني عن سعيد بن جبير، عن سواد، والحسن بن سفيان في "مسنده" عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: دخل سواد بن قارب على عمر رضي الله تعالى عنه.
وهو وأبو يعلى، والحاكم، والطبراني، والبيهقي عن محمد بن كعب قال: دخل سواد بن قارب رضي الله تعالى عنه على عمر رضي الله تعالى عنه.
والبيهقي عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما: أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال لسواد بن قارب رضي الله تعالى عنه: حَدِّثْنا ببدء إسلامك، قال: كان لي رَئي من الجن، فبينما أنا ذات ليلة نائم إذ جائني فقال: قم، وافهم، واعقل إن كنت تعقل؛ قد بعث
(1) انظر: "الخصائص الكبرى" للسيوطي (1/ 182).
رسول من لؤي بن غالب، ثم أنشأ يقول:[من السريع]
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَأَنْحاسِها
…
وَشَدِّها الْعِيْسَ بِأَحْلاسِها
تَهْوِيْ إِلَىْ مَكَّةَ تَبْغِيْ الْهُدَىْ
…
ما مُؤْمِنُوْها مِثْلُ أَرْجاسِها
فَانْهَضْ إِلَىْ الصَّفْوَةِ مِنْ هاشِمٍ
…
وَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلَىْ راسِها
ثم أنبهني، وأفزعني، وقال: يا سواد بن قارب! إن الله تعالى بحث نبياً، فانهض إليه تَهْتَدِ وترشد، فلما كانت الليلة الثانية أتاني فأنبهني، ثم أنشأ يقول:[من السريع]
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَطْلابِها
…
وَشَدِّها الْعِيْسَ بِأَقْتابِها
تَهْوِيْ إِلَىْ مَكَّةَ تَبْغِيْ الْهُدَىْ
…
لَيْسَ قُداماها كَأَذْنابِها
فَانْهَضْ إِلَىْ الصَّفْوَةِ مِنْ هاشِمٍ
…
ما صادِقُ الْجِنِّ كَكَذَّابِها
فلمَّا كان في الليلة الثالثة أتاني فأنبهني، ثم أنشأ يقول:[من السريع]
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَخْبارِها
…
وَشَدِّها الْعِيْسَ بِأَكْوارِها
تَسْعَىْ إِلَىْ مَكَّةَ تَبْغِيْ الْهُدَىْ
…
لَيْسَ ذَوُوْ الشَّرِّ كَأَخْيارِها
فَانْهَضْ إِلَىْ الصَّفْوَةِ مِنْ هاشِمٍ
…
ما مُؤْمِنُ الْجِنِّ كَكُفَّارِها
قال: فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة دخل في قلبي حب الإسلام، فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأني قال:"مَرْحَبًا بِكَ يا سَوادُ بْنُ قارِبٍ، قَدْ عَلِمْنا ما جاءَ بِكَ"، قلت: يا رسول الله! قد قلت شعراً، فاسمعه مني، فقلت:[من الطويل]
أَتانِيْ رَئِيٌّ بَيْنَ لَيْلٍ وَهَجْعَةٍ
…
وَلَمْ أَكُ فِيْما قَدْ بَلَوْتُ بِكاذِبِ
ثَلاثَ لَيالٍ قَوْلُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ
…
أَتاكَ رَسُوْلٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غالِبِ
فَشَمَّرْتُ عَنْ ساقِيْ الإِزارَ وَوَسَّطَتْ
…
بِيَ الذِّعْلِبُ الْوَجْناءُ بَيْنَ السَّباسِبِ
فَأَشْهَدُ أَنَّ اللهَ لا رَبَّ غَيْرُهُ
…
وَأَنَّكَ مَأْمُوْنٌ عَلَىْ كُلِّ غائِبِ
وَأَنَّكَ أَدْنَىْ الْمُرْسَلِيْنَ شَفاعَةً
…
إِلَى اللهِ يا ابْنَ الأَكْرَمِيْنَ الأَطايِبِ
فَمُرْنا بِما يَأتِيْكَ يا خَيْرَ مَنْ مَشَىْ
…
وَإِنْ كانَ فِيْما جاءَ شَيْبُ الذَّوائِبِ
وَكُنْ لِيْ شَفِيْعاً يَوْمَ لا ذُو شَفاعَةٍ
…
سِواكَ بِمُغْنٍ عَنْ سَوادِ بْنِ قارِب (1)
وروى الطبراني، وابن عساكر عن خريم بن فاتك رضي الله تعالى عنه قال: خرجت في طلب إبل لي، وكنا إذا نزلنا بواد قلنا: نعوذ بعزيز هذا الوادي، فتوسدت ناقة، وقلت: أعوذ بعزيز هذا الوادي، فإذا هاتف يهتف وهو يقول:[من الرجز]
ويحَكَ عُذْ بِاللهِ ذِيْ الْجَلالِ
…
مُنَزِّلِ الْحَرامِ وَالْحَلالِ
وَوَحِّدِ اللهَ وَلا تُبالِيْ
…
ما كَيْدُ ذِيْ الْجِنِّ مِنَ الأَهْوالِ
(1) رواه البخاري في "التاريخ الكبير"(4/ 202) وقال: لا يصح، والطبراني في "المعجم الكبير"(6476) عن سعيد بن جبير، عن سواد.
وأبو يعلى في "معجمه"(329)، والحاكم في "المستدرك "(6558)، والطبراني في "المعجم الكبير"(6475)، والبيهقي في "دلائل النبوة"(2/ 252) عن محمد بن كعب.
والبيهقي في "دلائل النبوة"(2/ 249) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
إِذْ يُذْكَرُ اللهُ عَلَىْ الأَمْيالِ
…
وَفِيْ سُهُوْلِ الأَرْضِ وَالْجِبالِ
وَصارَ كَيْدُ الْجِنِّ فِيْ سَفالِ
…
إِلَاّ التُّقَىْ وَصالِحَ الأَعْمالِ
فقلت له:
يا أَيُّها الْقائِلُ ما تَقُوْلُ
…
أَرَشَدٌ عَنْكَ أَمْ تَضْلِيْلُ
فقال:
هَذا رَسُوْلُ اللهِ ذُوْ الْخَيْراتِ
…
جاءَ بِيَاسِيْنَ وَحامِيْماتِ
وَسُوَرٍ بَعْدُ مُفَصَّلاتِ
…
يَأْمُرُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ
وَيَزْجُرُ الأَقْوامَ عَنْ هِنَاتَ
…
قَدْ كُنَّ فِيْ الأَيَّامِ مُنْكَراتِ
فقلت له: من أنت؟ قال: مالك بن مالك الجني، بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على جن نجد، فقلت: أما لو كان لي من يؤدي إبلي هذه إلى أهلي لأتيته حتى أسلم، قال: أنا أؤديها، فركبت بعيراً منها، ثم قدمت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فلما رآني قال:"ما فَعَلَ الرَّجُلُ الَّذِيْ ضَمِنَ لَكَ أَنْ يُؤَدِّيَ إِبِلَكَ؟ أَما إِنَّهُ قَدْ أَدَّاها"(1).
وذكر ابن خميس في "مناقب الأبرار"، والدميري في "حياة الحيوان" عن الجنيد رحمه الله تعالى قال: سمعت سرياً السقطي رحمه الله تعالى يقول: كنت مرة في البادية فأواني الليل إلى جبل لا أنيس فيه، فلما تهور
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(4165)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(16/ 347).
الليل ناداني مناد، فقال: لا تدور القلوب في الغيوب حتى تذوب النفوس من مخافة فوت المحبوب، فعجبت، فقلت: أَجِنِّيٌّ أنت أم إِنْسِيٌّ؟ فقال: بل جني يؤمن بالله سبحانه، ومعي إخواني، فقلت: وهل ما عندك عندهم؟ قال: وزيادة.
قال: فناداني الثاني منهم، فقال: لا تذهب من البدن الفترة إلا بدوام الفكرة، قال: فقلت: ما أنفعَ كلامَ هؤلاء، فناداني الثالث، فقال: من أَنِسَ به في الظلام نشر له غداً الأعلام، قال: فصعقت، فلما أفقت فإذا أنا بنرجسة، فشممتها، فذهب ما كان بي من الوحشة، واعتراني الأُنس، فقلت: وصية - رحمكم الله تعالى -، فقالوا: إِيْ؛ أبى الله أن يحيي بذكره، ويأنس به إلا قلوب المتقين، فمن طمع في غير ذلك فقد طمع في غير مطمع، ومن اتبع طبيباً مريضاً دامت علته، ومن اتبع الدليل الحائر رجع وهو كليل.
قال: وودعوني، ومضوا، وقد أتى عليَّ حينٌ وأنا أرى برد كلامهم في خاطري.
وفي رواية: فلا أزال أرى بركات كلامهم في خاطري (1).
وذكر ابن خميس عن أبي سعيد الخزاز رحمه الله تعالى قال: بقيت إحدى عشرة سنة أتردد من مكة إلى المدينة، ومن المدينة إلى مكة أريد أن أحج حجة لا أرى فيها مكة، وأرى رب مكة، فما صح لي منه نفس، فلمَّا كان بعد إحدى عشرة سنة أنا راجع من المدينة إلى
(1) ورواه ابن النجار في "ذيل تاريخ بغداد"(18/ 332).
مكة تراءى لي بعض الجن، فقال: يا أبا سعيد! قد - والله - رحمتك من كثرة ترددك في هذا، وقد حضرني شيء فيك، فاسمعه، فقلت: هات، فانشأ يقول:[من الطويل]
أَتِيْهُ فَلا أَدْرِيْ مِنَ التِّيْهِ مَنْ أَنا
…
سِوَىْ ما يَقُوْلُ النَّاسُ فِيَّ وَفِيْ جِنْسِيْ
أَتِيْهُ عَلَىْ جِنِّ الْبِلادِ وَإِنْسِها
…
فَإِنْ لَمْ أَجِدْ خَلْقاً أَتِيْهُ عَلَىْ نَفْسِيْ
قال أبو سعيد: فقلت له: اسمع يا من لا يحسن أن يقول إن كنت تحسن أن تسمع، وقلت:[من الطويل]
أَيا مَنْ يَرَىْ الأَسْبابَ أَعْلا وُجُوْدِهِ
…
وَيَفْرَحُ بِالتِّيْهِ الدَّنِيِّ وَبِالإِنْسِ
فَلَوْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْعُلُوِّ لَغِبْتَ عَنْ
…
مُباشَرَةِ الأَفْلاكِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِي
وَكُنْتَ بِلا حالٍ مَعَ اللهِ واقِفاً
…
تُصانُ عَنِ التِّذْكارِ لِلْجِنِّ وَالإِنْسِ
في أبيات أخرى (1).
(1) ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 140)، وعنده:"الأملاك" بدل "الأفلاك".
وذكر الأستاذ أبو القاسم القشيري هذه القصة على خلاف هذا الوجه.
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت" عن طارق بن شهاب قال: بعث سليمان بن داود عليهما السلام بعض عفاريته، وبعث نفراً ينظرون ما يقول، ويخبرونه، فأخبروه أنه على السوق، قال: فرفع رأسه إلى السماء، ثم نظر إلى الناس، وهز رأسه، فسأله سليمان: لِمَ فعل ذلك؟ قال: عجبت من الملائكة على رؤوس الناس ما يكتبون، ومن الذين أسفل منهم ما أسرع ما يملون (1).
فهذه الآثار ونظائرها تدل على أن في الجن أخياراً، وأبراراً، وعارفين، ومقربين، وحكماء، ومكاشفين، وأن لهم مناصحات لأخيار بني آدم، ومكاشفات.
والنظر الآن في أنه هل يشرع التشبه بهم، أو لا؟
احتمالان.
وقد يستدل للأول بما رواه الترمذي، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الدلائل"، وغيرهم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: "مَا لِيَ أَرَاكُمْ سُكُوتاً؟ لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى الْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ فَكَانُوا أَحْسَنَ مَرْدُودًا، مِنْكُمْ، كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلهِ تَعَالَى:
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان"(ص: 84).
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] قَالُوا: وَلا بِشَيْءٍ مِنْ آلائِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الْحَمْدُ" (1).
وروى البزار، والدارقطني في "الأفراد"، والخطيب في "التاريخ" بسند صحيح، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن على أصحابه، فسكتوا، فقال:"مَا لِيْ أَسْمَعُ الْجِنَّ أَحْسَنَ جَوَابًا مِنْكُم؟ مَا أتَيْتُ عَلَى قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] إِلَاّ قَالُوا: وَلا بِشَيءٍ مِنْ آلائِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الْحَمْدُ"(2).
والذي يترجح عندي الاحتمال الثاني؛ لأن في التشبه بالصالحين من البشر غنية عن التشبه بهم، ولأنهم مستورون عنا، ولذلك سموا جناً - كما علمت - فلا يتحقق الأخذ عنهم.
ومن ثم أفتى شيخ الإسلام الوالد رحمه الله تعالى بأن الجماعة لو تمت أربعين بِجِنِّيٍّ لا تصح الجمعة لعدم تحققنا الذكورة فيه، والحرية، والحضور، والصحة - وإن كان التكليف يعم الفريقين - كما احتج به القمولي في إجازته لنكاح الجنية، واختاره شيخ الإسلام
(1) رواه الترمذي (3291) وقال: غريب، والحاكم في "المستدرك"(3766)، والبيهقي في "دلائل النبوة"(2/ 232).
(2)
رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(4/ 301). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 117): رواه البزار عن شيخه عمرو بن مالك الراسبي، وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح.
الجد، ومنعه العماد بن يونس وغيره جاعلين اختلاف الجنسيَّة من موانع النكاح لقوله تعالى:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72]، ومشى عليه شيخ الإسلام الوالد، وهو المعتمد، ونص على ذلك جماعة من الحنابلة، وبعض الحنفية.
وحكم تزويج المرأة الإنسية الجني كذلك، وفيه محذور آخر لأنه يفتح باب البغي على النساء - خصوصاً من لا ولي لها - حتى لو حملت لقالت: إن زوجي جني.
وأما ما رواه ابن عدي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَحَدُ أَبَوَيْ بَلْقِيسَ كَانَ جِنِّيًّا"(1)، فلا حجة فيه - إن صح الحديث - لأنهم كانوا كفاراً يعبدون الشمس.
ولو كان ذلك جائزاً في شرع بعض الأنبياء عليهم السلام لقلنا: إنه منسوخ بشرعنا، أو: ليس بشرع لنا.
ولا كلام في أنه لا يجوز التشبه بكفرة الجن، ولا بفسقتهم، وقد علمت أن الله تعالى ذم إبليس بتشبهه بالجن الذين كانوا قبل خلق آدم في الأرض، فعتوا وكفروا على أحد القولين في قوله تعالى:{وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]، وفي قوله تعالى:{كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50].
ويلوح لي في هذه الآية أنها واردة على طريقة العرب في قولهم
(1) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(3/ 372). وقد تقدم لكن لم يعزه هناك لابن عدي.