الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(7) بَابُ ذِكْرِ أَخْلاقِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
-
(7)
بَابُ ذِكْرِ أَخْلاقِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
روى الإمام مالك، والستة غير أبي داود عن سعيد بن يسار قال: كنت مع ابن عمر رضي الله عنه بطريق مكة، فلما خشيتُ الصبح نزلت فأوترت، فقال ابن عمر: أليس لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة؟ قلت: بلى، قال: فإنه كان يُوتر على البعير (1).
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ عمر رضي الله عنه أكبَّ على الركن فقال: إني لأعلم أنك حجر، ولو لم أرَ أن حِبِّيَ صلى الله عليه وسلم قبَّلك واستلمك، ما استلمتك ولا قبلتك:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} [الأحزاب: 21](2).
(1) رواه الإمام مالك في "الموطأ"(1/ 124)، والبخاري (954)، ومسلم (700)، والترمذي (472)، والنسائي (1688).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 21). ورواه البخاري (1528) بلفظ قريب.
وروى عبد الرزاق عن قتادة رحمه الله قال: همَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ينهى عن الحِبَرَة (1) من صباغ البول، فقال له رجل: أليس قد رأيتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها؟ قال عمر: بلى، قال الرجل: ألم يَقُلْ الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} [الأحزاب: 21]؟ فتركها عمر (2).
وروى أَبو بكر بن مردويه، والخطيب في "رواة مالك"، وابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما في قوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} [الأحزاب: 21]؛ قال: في جوع رسول الله (3).
والحق أن الأسوة الحسنة فيه عامة في كل أحواله قولاً أو عملاً، أو نية، فعلاً أو تركاً.
قال محمد بن علي الترمذي رحمه الله: الأسوة الحسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم الاقتداء به، والاتباع لسنته، وترك مخالفته في قول أو فعل (4).
وروى الخطابي في "الغريب" عن عبيد بن خالد رضي الله عنه قال: كنت رجلاً شاباً بالمدينة، فخرجت في بردين وأنا مُسبلهما، فطعنني رجل من خلفي إما بإصبعه وإما بقضيب كان معه، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقلت: إنما هي ملحاء، قال:"وَإِنْ كَانَتْ مَلْحَاءَ، أَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ؟ "(5).
(1) الحبرة: هي الثياب المنقوشة الموشية.
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(1493).
(3)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(4/ 128).
(4)
انظر: "الشفا" للقاضي عياض (2/ 9).
(5)
رواه الخطابي في "غريب الحديث"(2/ 298).
والمعنى أن عبيد بن خالد رضي الله عنه فهم أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد به الإنكار عليه إذ أَسبل البردين، فقال: إنما هي ملحاء - يعني: الحلة -، والعرب تسمي الثوبين حلة، والملحاء: بردة صفيقة فيها خطوط من بياض وسواد، ويعني: إن حلتي صفيقة لا خيلاء فيها، فقال:"وَإِنْ كَانَتْ مَلْحَاءَ"؛ أي: إن الخيلاء في الإسبال وإن كان الثوب صفيقاً.
وقوله: "أَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ؟ " أي: إني لا أسبل فاقتدِ بي فعلاً وتركاً.
وفي "صحيح البخاري"، وغيره عن أبي وائل قال: جلست مع شيبة على الكرسي في الكعبة، فقال: لقد جلس هذا المجلس عمر رضي الله عنه فقال: لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمته، قلت: إنَّ صاحبيك لم يفعلا، قال: هما المرآن أقتدي بهما (1).
يعني بصاحبيه: النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر رضي الله عنه.
وفيه عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان إذا دخل الكعبة مشى قِبَلَ الوجه حين يدخل، يجعل الباب قِبَلَ الظَّهْر، يمشي حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قِبَلَ وجهه قريب من ثلاثة أذرع، فيصلي يتوخى المكان الذي أخبره بلال رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وليس على أحدٍ بأس أن يصلي في أي نواحي البيت شاء (2).
وفي "صحيح مسلم" عن أنس رضي الله عنه قال: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم قال
(1) رواه البخاري (1517).
(2)
رواه البخاري (484).
أَبو بكر لعمر رضي الله عنهما: انطلق بنا نزور أم أيمن كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزورها، قال: فانطلقا إليها، الحديث (1).
وروى البزار، والطبراني - بإسناد حسن - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كتب أَبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور في أمر الحرب فعليك به (2).
وذكر السلمي في "الحقائق" عن أبي عثمان الحيري رحمه الله قال: من أمَّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى على نفسه نطق بالبدعة لأن الله تعالى يقول:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54](3).
وروى عبد بن حميد عن الحسن رحمه الله مرسلاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"، ثم تلا هذه الآية:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] الآية (4).
وروى أَبو نعيم عن الأوزاعي رحمه الله قال: رأيتُ رب العزة جلَّ وعلا في المنام فقال في: يا عبد الرحمن! أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قلت: بفضلك يا رب.
(1) رواه مسلم (2454).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(46). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/ 319): ورجاله قد وثقوا.
(3)
انظر: "حقائق التفسير" للسلمي (2/ 55).
(4)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (2/ 178).
قال: فقلت: يا رب! أمتني على الإسلام، فقال: وعلى السنة (1).
والسنة هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وأخلاقه، وشمائله المأخوذة عنه التي حملها الصحابة رضي الله عنه، ثم حملها عنهم التابعون لهم بإحسان، ثم من بعدهم من ثقات العلماء طبقة بعد طبقة، وجيلاً بعد جيل حتى وصلت إلينا، فعلينا الاقتداء به صلى الله عليه وسلم فيها.
قال الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112].
وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
ولا يزكو العبد ويرتفع قدره ويكمل ويتم نبله إلا باتباعه آثار النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان إذا رآه أحد ظنَّ أنَّ به شيئاً من تتبعه آثار النبي صلى الله عليه وسلم (2).
وعن نافع: أن ابن عمر كان في طريق مكة يقود برأس راحلته يثنيها ويقول: لعلَّ خُفًّا يقع على خُف؛ يعني: خف راحلة النبي صلى الله عليه وسلم (3).
وقد كان السلف لا يُنكرون شيئاً أشد مما يُنكرون ترك اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به.
(1) رواه أَبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 142).
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34633).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34648).
وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه على المنبر: والله ما رأيتُ قوماً قط أرغب فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزهد فيه منكم، والله ما مرَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث إلا والذي عليه أكثر من الذي له. صححه الحاكم، وأخرجه الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه" بنحوه (1).
واعلم أنه لا يتأتى لنا في هذا الكتاب الاتساع في تفاصيل طرائق الاقتداء والاتباع؛ فكان ذلك موضوعه كتب الشرع الشريف من تفسير، أو حديث، أو فقه.
وإنما غرضنا الآن التنبيه على نبذة من أخلاقه صلى الله عليه وسلم حملاً لمن يُريد الاقتداء به عليها، وندباً لمن يُحب التشبه به إليها.
قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
روى مسلم عن سعيد بن هشام قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خُلقه القرآن (2).
وقال الحسن: كان خُلقه آداب القرآن (3).
وقال الجنيد رحمه الله: إنما سمي خلقه عظيماً لأنه لم يكن له
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(7881)، والإمام أحمد في "المسند"(4/ 203)، وابن حبان في "صحيحه" (6379). ولفظ الإمام أحمد:"ما أبعد هديكم من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كان من أزهد الناس في الدنيا، وأنتم أرغب الناس فيها".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
انظر: "تفسير الثعالبي"(10/ 9).
همة سوى الله تعالى (1).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الاهتمام بمكارم الأخلاق لأنه صلى الله عليه وسلم بُعثَ ليتممها وتتم به كما تقدم عنه صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم مع ما وصف به من الخلق العظيم يقول في افتتاح صلاته:"اللَّهُمَّ اهْدِنِيْ لأَحْسَنِ الأَخْلَاقِ لَا يَهْدِيْ لأَحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّيْ سَيِّءَ الأَخْلَاقِ لَا يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إِلا أَنْتَ". رواه مسلم من حديث علي رضي الله عنه (2).
وروى الإمام أحمد بسند جيد، عن عائشة رضي الله عنها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِيَ فَحَسِّنْ خُلُقِي"(3).
وروى هو وابن حبان في "صحيحه" عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللَّهُمَّ حَسَّنْتَ خَلْقِيَ فَحَسِّنْ خُلُقِي"(4).
وروى الخرائطي في "مكارم الأخلاق" عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكَ امْرُؤٌ قَدْ حَسَّنَ اللهُ خَلْقَكَ، فَأَحْسِنْ خُلُقَكَ"(5).
وفي هذا الحديث إشارة إلى أن تحسين الخُلق يدخل تحت
(1) انظر: "تفسير الثعالبي"(10/ 9)، و"تفسير القرطبي"(18/ 227).
(2)
رواه مسلم (771).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 68).
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 403)، وابن حبان في "صحيحه"(959).
(5)
رواه الخرائطي في "مكارم الأخلاق"(ص: 27).
اختيار العبد، وذلك بالتخلق وحمل النفس على الأخلاق الحسنة والخصال الحميدة مع سؤال الله تعالى التوفيق لذلك والمعونة عليه، وكلما حسَّن العبد أخلاقه قرب سمته وهديه من النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَقْرَبُكُمْ مِنِّيْ مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحْسَنكُمْ خُلُقًا". رواه ابن النجار في "تاريخه" من حديث علي رضي الله عنه (1).
فقرب العبد من نبيه صلى الله عليه وسلم يكون على حسب قربه منه في الخلق، واتباعه له فيه وفي غيره من الأعمال.
قال أنس رضي الله عنه: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم ثماني حجج، فقال لي:"يَا أَنَسُ وَقِّرِ الكَبِيْرَ، وَارْحَمِ الصَّغِيْرَ تُرَافِقْنِي يَوْمَ القِيَامَةِ". رواه الخرائطي (2).
وفي "صحيح البخاري"، وغيره عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيْمِ فَيْ الجَنَّةِ هَكَذَا"؛ وأشار بالسبابة والوسطى (3).
وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه:"كَافِلُ اليَتِيْمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِيْ الجَنَّةِ"؛ وأشار بالسبابة والوسطى (4).
(1) ورواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 217) لكن عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
(2)
رواه الخرائطي في "مكارم الأخلاق"(ص: 78)، وكذا البيهقي في "شعب الإيمان"(10981).
(3)
رواه البخاري (4998).
(4)
رواه مسلم (2983).