الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
القسم الثاني من الكتاب فِي النَّهي عَن التَّشَبُه بمَن وَرَدَ النَّهي عَن التَّشَبُه بهم، وَالنَّهي عَن طُرقهم
قال الله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس: 104 - 105].
هذه الآية أصل عظيم في الأمر بالتشبه بالمؤمنين، والنهي عن التشبه بالمشركين.
والشرك المتصفون به شامل للشرك الأكبر، والشرك الأصغر الشامل لسائر المعاصي، فهي دليل لقسمي الكتاب.
واعلم أنا نذكر في هذا القسم قبائح الأخلاق، وسفاسف الأمور، وسيئات الأعمال لتُحذر وتجتنب.
فقد قال حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه، وعلمت أن الخير لا يسبقني (1).
(1) رواه البخاري (3411)، ومسلم (1847) دون قوله:"وعلمت أن الخير لا يسبقني".
وفي رواية عنه: فعرفت أن من لا يعرف الشر لا يعرف الخير (1).
وقال بعضهم في معناه: [من الهزج]
عَرَفْنا الشَّرَّ لا لِلشَّرِّ لَكِنْ لِتَوَقِّيْهِ
…
وَمَنْ لا يَعْرِفِ الشَّرِّ مِنَ النَّاسِ يَقَعْ فِيْهِ
وروى الإمام عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزُّهد" عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى قال: ليس العالم الذي يعرف الخير من الشَّر، إنَّما العالم الَّذي يعرف الخير فيتبعه، ويعرف الشر فيجتنبه (2).
ثم اعلم أن من لم يتخلق بأخلاق الله تعالى، ولا أخلاق عباده المخلصين فهو إما شيطان، وإما قرين شيطان.
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36].
والمراد بالذكر: الطَّاعة؛ لما رواه الطبراني عن واقد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "مَنْ أَطَاعَ اللهَ فَقَدْ ذَكَرَ اللهَ، وَإِنْ قَلَّتْ صَلاتُهُ، وَصِيَامُهُ، وَتلاوَتُهُ الْقُرْآنَ، وَمَنْ عَصَى اللهَ لَمْ يَذْكُرْهُ، وإِنْ كَثُرَتْ صَلاتُهُ،
(1) ذكره الغزالي في "إحياء علوم الدين"(1/ 78).
(2)
رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"(ص: 167)، وكذا أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 274).
وَصِيَامُهُ، وتلاوتُهُ لِلْقُرْآنِ" (1).
فالمراد بالعشو عن الذكر: إغفال الطاعة، وفعل المعصية، والاسترسال في الغفلة.
وقوله تعالى: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} ؛ نسخر له شيطاناً يدعوه إلى خلق سيئ، أو فعل ذميم.
أو المعنى: نقيِّض له خلقاً شيطانياً يرتكبه، ويغلب على قلبه؛ وتسمية الخلق الشيطاني شيطاناً مجاز، ولا يخفى ما فيه من المبالغة.
وقوله تعالى: {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} ؛ أي: فالشيطان للعاشي عن الذكر قرين؛ أي: ملازم له، أو موافق له في الأخلاق والأفعال.
ويجوز أن يكون المعنى: فالعاشي عن الذكر للشيطان مقارن أو موافق؛ فالإنسان متى غفل عن الطَّاعة فقد خُلِّي بينه وبين الشَّيطان، ولذلك كان بعض السلف لا يفعل من المباحات شيئاً إلا بنية حسنة كالنوم، والأكل، والجماع، وغير ذلك لتكون مباحاته طاعات، ومتى كان في طاعة الله تعالى كان في ذكره، وذكر الله تعالى حصن حصين من الشَّيطان اللعين.
وروى ابن الدُّنيا في "مكائد الشيطان"، وأبو يعلى، والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّيطَانَ
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(22/ 154). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(2/ 258): فيه الهيثم بن حماد، وهو متروك.
واضعٌ خَطْمَهُ عَلَى قَلْبِ ابنِ آدَمَ، فَإِذَا ذَكَرَ اللهَ تَعَالَى خَنَسَ، وإِذَا نسَيَ التَقَمَ قَلْبه" (1).
فمتى فتر العبد عن الذكر، وانتهى من الطاعة - ولا بد لكل عامل من فترة - فإن تلافى أمره بالشُّروع في طاعة أخرى فقد ضيق مجاري الشيطان إلى قلبه، وسبقه إلى حفظ سره، وكان متحققاً بقوله تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7 - 8]، وإن استرسل في فترته، وتمادى في غفلته سبقه الشَّيطان إلى قلبه فالتقمه؛ لأنه حينئذ صدق عليه أنه نسي الله فنسيه الله؛ أي: تركه للشَّيطان كما قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]؛ أي: تخلى عن توفيقهم، وخلى بينهم وبين شياطينهم.
وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]؛ أي: أنساهم إنسانية أنفسهم حتَّى غلبت عليهم أخلاق قرنائهم من الشَّياطين فبعدت نفوسهم عن الخير، فالعبد إذا لم يأت بالطَّاعة التي تنحصر في أفعال الصَّالحين فهو إما خالٍ بطالٌ، وإما عاصٍ ضالٌّ؛ فإن كان الأول فإنه - وإن كان لا يستحق عقاباً، ولا يستوجب ثوابا - فهو متشبه بالشَّيطان قبل أن يكون شيطاناً رجيماً، وذلك حين خلا بنفسه ورأيه، وكان عاقبة أمره أن أبى واستكبر عن السجود لآدم وقد أمر به؛ إذ لم يكن له يومئذ شيطان وسوس إليه بذلك إلا نفسه
(1) رواه ابن الدنيا في "مكائد الشيطان"(ص: 43)، وأبو يعلى في "المسند"(4301)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(540).
الخبيثة حيث لم تكن مشغولة بالله تعالى، ولا بطاعته، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: إني لأكره الرجل يكون بطالاً؛ لا في أمر دنياه، ولا في أمر آخرته (1).
وإنما كرهت البطالة خشية أن يخلو الإنسان بخواطر نفسه فتوسوس إليه نفسه بشيء لا تحمد عاقبته، كما وسوست نفس إبليس إليه بأن السُّجود لآدم سجود لغير الله تعالى، وفاته أن الله تعالى حيث أمر بذلك فالسجود لآدم عليه السلام عين طاعة الله تعالى، ومن هنا قيل:[من البسيط]
إِيَّاكَ نَفْسَكَ لا تَأْمَنْ غَوائِلَها
…
فَالنَّفْسُ أَقْبَحُ مِنْ سَبْعِيْنَ شَيْطان
وقد تكلمنا على التحذير من النفس في كتاب "منبر التوحيد" بما ليس عليه مزيد.
وإن كان الثاني فهو في معصية وضلالة؛ إما متشبه بالشيطان في أخلاقه وأحواله، وإما متشبه باتباع المغلولين فى أغلال إضلاله، فناسب أن نتكلم في هذا القسم من كتابنا على النهي عن التشبه بالشَّيطان، وعلى التشبه بأتباعه - وهم الكفار والفساق - فانقسم هذا القسم إلى ثلاثة أنواع:
1 -
النوع الأول: في النهي عن التشبه بالشيطان.
2 -
النوع الثاني: في النهي عن التشبه بالكفار.
3 -
النوع الثالث: في النهي عن التشبه بالفساق، والله الموفق.
***
(1) رواه البيهقي في "الزهد الكبير"(ص: 294).