الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كنا نتحدث أن المسجد حصن حصين من الشيطان (1)؟
والجواب: أن معناه: أن العبد المؤمن إذا دخل المسجد فإنما يدخله غالباً لصلاة، أو اعتكاف، أو ذكر، أو غير ذلك من الطاعات، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيْمَانِ". رواه الترمذي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه (2).
ومَنْ ذَكَرَ الله وأطاعه فقد تحصن من الشيطان، فلما كان دخول المسجد في حق المؤمن سبباً لدخول المؤمن في الذكر والطاعة التي هي الحصن حقيقة من الشيطان، أطلق على المسجد أنه حصن حصين من الشيطان.
ومثال من دخل المسجد واشتغل بشيء مكروه أو محرم مثال من دخل الحصن الحصين وفتح بابه للعدو المُلِحِّ في عداوته.
61 - ومن أخلاق اللعين: إنساء العبد أن يذكر ربه في شدائده وحاجاته، فيلقي في قلب العبد طلب الغوث والحاجة من العبد لما له من الجاه أو الكلمة أو القوة
.
فمن استشارك في مهمة أو ملمة فأرشده أولاً إلى رفع حاجته
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34613).
(2)
رواه الترمذي (3093) وحسنه، وابن ماجه (802)، والحاكم في "المستدرك"(770).
إلى الله تعالى، واعتماده عليه، وانتظار الخير منه، ثم أشر عليه بما ترى.
وإياك أن تشير إليه أن يلجأ إلى متوجَّه أو متجَوِّه أو فاسق، فتكون من إخوان الشيطان إلا أن تشير عليه بمداراته أو الانتفاع به من حيث إنه مسخر، وتُعرِّفه بأنه لا فعل له وإنما هو مسخر، فإن حصل منه نفع فهو بتسخير الله تعالى إياه له، كما في تسخير فرعون لموسى عليه السلام حتى ربِّي في حِجْرِهِ مكرماً، فكأن موسى عليه السلام يرى فرعون مسخراً له، فلذلك لم يحمله الحياء منه ووجود الصنيعة منه إليه على ترك مواجهته بالأمر والنهي في دعوته إلى الله تعالى وإرشاده إلى الحق، وكان فرعون يرى نفسه فاعلاً فامتن عليه بتربيته بقوله:{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء: 18 - 19].
ومن هنا كان المن من العبد قبيحاً محرماً محبطاً للثواب، وليس الشكر من حيث إنه يرى المنعم عليه غير الله هو الفاعل، كما ظنه فرعون، بل من حيث إنه محل وواسطة في إيصال النعم إليه، فلا تركن ولا تأمر أحداً أن يركن إلى غير الله تعالى إلا من حيث أمرُ الله تعالى، فتكون ذاكراً لله تعالى مذكِّراً به، غيرَ ناسٍ له ولا منسٍ عنه.
وقد ذم الله تعالى نسيانه، ونسب إنساءه على لسان أنبيائه إلى فعل الشيطان.
قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ
نَاجٍ مِنْهُمَا} [يوسف: 42]؛ يعني: لساقي الملك، وهو أحد الفتيين اللذين استفتياه فيما رأياه في منامهما:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42].
قال ابن عباس رضي الله عنهما -قال البغوي: وعليه الأكثرون -: أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه حتى ابتغى الفرَج من غيره، واستعان بمخلوق، وتلك غفلة عرضت ليوسف من الشيطان (1).
واستشكل هذا بعضهم بأن الشيطان ليس له على الأنبياء عليهم السلام سلطنة، فكيف يضاف نسيان يوسف عليه السلام إلى الشيطان؟
وأجيب بأن الأنبياء عليهم السلام إنما يعصمون عن النسيان فيما يبلغون عن الله تعالى فقط، وأمَّا في غيره فإذا وقع النسيان منهم حيث يحذر وقوعه فإنه ينسب إلى الشيطان إطلاقاً، وذلك فيما يخبر الله عنهم، ولا يجوز لنا نحن ذلك.
قال القرطبي: ونظير ذلك قول يوشع بن نون: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَه} [الكهف: 63]، فنسب نسيانه لذكر الحوت لموسى عليه السلام إلى الشيطان (2).
والتحقيق في هذه المسألة: أن تسليط الشيطان على الأنبياء فيما يؤثر في طبائعهم أو في أجسادهم من غير أن يزحزحهم عن الثبات
(1) انظر: "تفسير البغوي"(2/ 428).
(2)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 111).
تحت أعباء النبوة وعن التبليغ كما أمر، وألا يقدح في رُتَبِهم لأنهم يفيئون إلى الله تعالى في آخر أمرهم، وإنما يكون ذلك لمزيد الابتلاء؛ لأنهم أشد الناس بلاء كما تقدم.
وذلك كما أثر كلام الشيطان في نفس آدم عليه السلام حتى ذاق الشجرة، وقد كان شديد الحرص على أن لا يخالف أمر ربه.
وكما أثر في بدن أيوب عليه السلام حتى ابتلي بما لا مزيد عليه.
وكما أثر السحر في بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي فكره حتى كان يخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله، وأنه أتى النساء وما أتاهن، حتى بعث الله تعالى إليه الملك فرقاه بالمعوذتين.
وكان حال يوسف عليه السلام حتى أنساه الشيطان ذكر ربه من هذا القبيل.
وروى الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: عثر يوسف عليه السلام ثلاث عثرات:
حين هم بها فسجن.
وقوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ، فلبث في السجن بضع سنين، وأنساه الشيطان ذكر ربه.
وقوله: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70](1).
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(3323)، وكذا الطبري في "التفسير"(12/ 213).
وروى ابن أبي حاتم، وابن المنذر، وابن مردويه في "تفاسيرهم" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَحِمَ اللهُ يُوْسُفَ! لَولا الكَلِمَةُ الَّتِي قالَ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] مَا لَبِثَ فِيْ السِّجْنِ مَا لَبِثَ"(1).
وروى ابن أبي الدنيا في "العقوبات"، وابن جرير الطبري، وأبو القاسم الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ لَمْ يَقُلْ يُوْسُفُ الْكَلِمَةَ الَّتِي قالَ، ما لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُولَ ما لَبِثَ"(2)؛ حيث يبتغي الفرج من عند غير الله تعالى.
وروى الإمام أحمد في "الزهد"، والمفسرون عن الحسن رحمه الله تعالى قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "رَحِمَ اللهُ يُوْسُفَ! لَوْلا كَلِمَةٌ مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُوْلَ مَا لَبِثَ؛ قَوْلُهُ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ".
ثم يبكي الحسن ويقول: نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس (3).
ويروي عن الحسن -أيضاً- رحمه الله تعالى قال: دخل جبريل على يوسف عليه السلام في السجن، فلما رآه يوسف عرفه فقال له:
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(7/ 2148)، وكذا ابن حبان في "صحيحه"(6206).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(12/ 223)، والطبراني في "المعجم الكبير"(11640).
(3)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 80)، والطبري في "التفسير"(12/ 223)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(7/ 2148).
يا أخا المنذرين! ما لي أراك بين الخاطئين؟
فقال له جبريل: يا طاهر ابن الطاهرين! يقرأ عليك السلام رب العالمين، ويقول لك: أما استحييت مني إذ استشفعت بالآدميين؟ فَوَعِزَّتي لألبثنك في السجن بضع سنين.
قال يوسف: وهو في ذلك راض عني؟
قال: نعم.
قال: إذاً لا أبالي (1).
وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن الحسن أيضاً قال: لما قال يوسف للساقي: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] قيل له -أي: قال الله له -: يا يوسف! اتخذت من دوني وكيلاً؟ لأطيلن حبسك، فبكى يوسف عليه السلام، وقال: يا رب! تشاغل قلبي من كثرة البلوى فقلتُ كلمة (2).
وبكاء يوسف عليه السلام لم يكن من الحبس، ولكن خوفاً منه أن يكون حبسه سخطًا، ولذلك سكن قلبه حين قال لجبريل: وهو في ذلك راضٍ عني؟ قال: نعم.
وإنما عوقب بالحبس على كلمة قالها مع شدة البلوى؛ لأن مثله لا يسامح في مثل ذلك لعلو رتبته، وارتفاع مقامه، فقد يكون من
(1) انظر: "شرح السنة" للبغوي (14/ 299).
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(7/ 2149) عن الحسن البصري، ورواه الطبري في "التفسير"(12/ 223) عن مالك بن دينار.
حسنات الأبرار ما هو من سيئات المقربين.
وروى ابن أبي شيبة، وعبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"، وهؤلاء عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: أوحى الله تعالى إلى يوسف عليه السلام: من استنقذك من القتل حين هم إخوتك أن يقتلوك؟
قال: أنت يا رب.
قال: من استنقذك من الجُبِّ إذ ألقوك فيه؟
قال: أنت يا رب.
قال: من استنقذك من المرأة إذ هممت بها؟
قال: أنت يا رب.
قال: فما لك نسيتني وذكرت آدمياً؟
قال: جزعاً، وكلمة تكلم بها لساني.
قال: فَوَعِزَّي لأخلِّدنك في السجن بضع سنين، فلبث فيه سبع سنين (1).
بيَّنَ في هذا الحديث وجه مؤاخذة يوسف عليه السلام، وهو عدم مطالعته هذه النعم ومراجعته هذه الفوائد، فلو نظر إليها دعاه النظر إليها إلى الاعتماد على من أعادها عليه وأسداها إليه دون المخلوقين، ولم يكن ذلك نقصاً في رتبته ولا تنزيلاً عن مقامه، بل ليظهر فيه مظهر مزيد الابتلاء الذي هو وصف الأنبياء عليهم السلام.
(1) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"(ص: 80)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(7/ 2149)
وقد كان ليوسف عليه السلام سلف صالح في الاعتماد على الله تعالى من حيث إن جده إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وعرض له جبريل، وقال له: هل لك حاجة؟
قال: أمَّا إليك فلا.
وقال عند ذلك: حسبنا الله ونعم الوكيل (1).
ومن حيث إن أباه أو عمه ابتلي بالذبح فسلَّم وصبر.
وكان مقتضى حبسه ومقامه أن لا ينظر إلى غير الله تعالى، فلما تعلق بتذكرة المخلوق للمخلوق ابتُلِي.
وقال الإمام فخر الدين الرازي في "تفسيره" عند الكلام على هذه الآية: والذي جربته من طول عمري أن الإنسان كلما عول في أمر من الأمور على غير الله تعالى صار ذلك سبباً للبلاء والمحنة، والشدة والرزيَّة، وإذا عول على الله ولم يرجع إلى أحد من الخلق حصل ذلك المطلوب على أحسن الوجوه.
قال: فهذه التجربة قد استمرت بي من أول عمري إلى هذا الوقت الذي بلغت فيه إلى السابع والخمسين، فعند هذا استقر قلبي على أنه لا مصلحة للإنسان في التعويل على شيء سوى فضل الله تعالى وإحسانه (2).
(1) انظر: "تفسير الطبري"(17/ 45).
(2)
انظر: "التفسير الكبير" للرازي (18/ 116).
قال ابن السبكي في "طبقاته" -وذكر هذا الكلام عن الإمام المذكور-: وما ذكره حق، ومن حاسب نفسه وجد الأمر كذلك، وإن فرض أحد عول في أمره على غير الله حصل له فاعلم أنه لا يخلو عن أحد رجلين:
إما رجل ممكور به والعياذ بالله.
وأما رجل يطلب شراً وهو يحسب أنه خير لنفسه، ويظهر ذلك بعاقبة ذلك الأمر، انتهى (1).
قلت: وهذا أمر جربته في أول العمر قبل أن أقف على كلام الإمام برهة من الزمان ثم استقر قلبي عليه، من ئم إلى الآن وأنا في الحادية والثلاثين من عمري.
ولقد قضيت العجب من الإمام كيف لم يستقر قلبه على ذلك حتى مر به هذه المدة الطويلة؟
وقال والدي في "تفسيره" حاكياً لكلام الإمام رحمه الله تعالى: [من الرجز]
قالَ الإِمامُ وَالَّذِي جَرَّبْتُهُ
…
فِيْ عُمُرِىِ كَلَاّ وَقَدْ حَقَّقْتُهُ
أَنَّكَ إِنْ عَوَّلْتَ فِيْ أَمْرٍ عَلى
…
غَيْرِ الإِلَهِ كانَ أَصْلاً فِي الْبَلا
وإنْ عَلى الإِلَهِ عَوَّلْتَ وَلَمْ
…
تَرْجِعْ إِلى غَيْرِهِ فِيما قَدْ آلم
(1) انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (8/ 93).