الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال القاضي عياض رحمه الله: أمَّا النكاح فمتفقٌ عليه شرعاً وعادة، فإنه دليل الكمال وصحة الذكورية، ولم يزل التفاخر بكثرته عادة معروفة والتمادح به سيرة ماضية، وأما في الشرع فسنة مأثورة.
وقد روى ابن عباس رضي الله عنه: أفضل هذه الأمة أكثرها نساء (1). مشيراً إليه صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: حتى لم يره العلماء مما يقدح في الزهد.
قال سهل بن عبد الله رحمه الله: قد حُببن إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، فكيف يُزهد فيهن؟ ، قال: ونحوه لابن عيينة، انتهى (2).
*
وإنما خُصت الأنبياء عليهم السلام بكثرة النساء والنكاح لما استودعه الله تعالى في النكاح من الفوائد والأسرار التي الأنبياء بها أحرى:
الأولى: طلب الولد الصالح موافقة لمحبة الله تعالى لبقاء جنس الإنسان بالتناسل، ورغبة في دعاء الولد الصالح لأبيه بعد موته، وبقاء آثاره به، ووراثته لعلمه وخلقه إن تقدمت وفاة الوالد على الولد، أو في احتساب مُصيبة الوالد بالولد إن تأخرت وفاة الوالد عنه، وأنت خبير بما قاساه الخليل عليه السلام في الابتلاء بذبح الولد، وما قاساه نافلته يعقوب عليه السلام في مفارقة يوسف وأخيه وحزنه عليهما فأُعْطِيَ على ذلك ثواب مئة شهيد كما سبق.
(1) رواه البخاري (4782).
(2)
انظر: "الشفا" للقاضي عياض (1/ 75).
وروى أبو نعيم عن عبد الأعلى التميمي رحمه الله قال: لمَّا لقي يوسف أخاه عليهما السلام قال: أتزوجت بعدي؟ قال له: نعم، قال له: أما منعك الحزن عليَّ، قال: قال لي أبي: تزوج لعلَّ الله عز وجل يذرأ منك ذرية يثقلون الأرض بالتسبيح في آخر الزمان (1).
الفائدة الثانية: التحصن من الشيطان؛ فإنَّ الأنبياء عليهم السلام وإن كانوا معصومين فإنَّ الشيطان فيهم أطمع، وعلى تغريرهم أحرص، وهم أولى بالتحصن منه من غيرهم.
وقد قال الضحاك رحمه الله في قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24]: جرى الشيطان فيما بينهما، وضرب بيده إلى جِيْد يوسف وبيده الأُخرى إلى جِيْد المرأة حتى جمع بينهما (2).
ولا عبرة بمن أنكر هذا القول؛ فإنَّ المتقدمين حملوا الهم في القرآن على ظاهره، فقال ابن عباس رضي الله عنه: حلَّ الهِميان (3)(4).
وقال مجاهد رحمه الله: حلَّ سراويله وجعل يعالج ثيابه (5).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 89).
(2)
انظر: "تفسير الثعلبي"(5/ 210).
(3)
الهِميان: السراويل.
(4)
رواه الطبري في "التفسير"(12/ 183)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(7/ 2122).
(5)
رواه الطبري في "التفسير"(12/ 184)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(7/ 2122).
وقال سعيد بن جبير رحمه الله: أطلق تكة سراويله (1).
وهؤلاء أعلم بالله تعالى وبتأويل كتابه، وأشد تعظيماً للأنبياء عليهم السلام أن يقولوا فيهم بغير علم كما قال القاسم بن سلام، وعليه المحققون من المتأخرين (2).
على أن الهم لا مؤاخذة فيه كما في الحديث، وما ذكره الله تعالى في القرآن العظيم عن الأنبياء عليهم السلام من مثل ذلك لم يكن تعييراً لهم كما قاله الحسن البصري رحمه الله، ولكن لئلا ييئس غيرهم من التوبة، وليكمل للأنبياء مقام التوبة والافتقار إلى الله تعالى في قبولها (3).
(1) رواه الطبري في "التفسير"(12/ 184)،
(2)
انظر: "تفسير السمعاني"(3/ 21)، و"تفسير البغوي"(2/ 418).
(3)
نقل المفسرون عن السلف أقوالاً كثيرة تؤيد ما ذهب إليه المصنف من أن يوسف عليه السلام همَّ بالمعصية، لكن في بعض هذه الأقوال نكارة من جهة أنها ليست هماً إنما هي فعل، كما نقل الطبري في "تفسيره" (12/ 184) عن ابن عباس رضي الله عنه قال: استلقت له وجلس بين رجليها وحل ثيابه أو ثيابها.
قال ابن العربي في "أحكام القرآن"(3/ 37): إن الله سبحانه ما أخبر عنه أنه أتى في جانب القصة فعلاً بجارحة، وإنما الذي كان منه الهم، وهو فعل القلب، فما لهؤلاء المفسرين لا يكادون يفقهون حديثاً ويقولون فعل وفعل؟ والله إنما قال:{وَهَمَّ بِهَا} لا أقالهم ولا أقاتهم الله ولا عالهم.
وقال شيخ الإسلام في "منهاج السنة"(2/ 411): ولهذا لما لم يذكر عن يوسف توبة في قصة امرأة العزيز دل على أن يوسف لم يذنب أصلاً في تلك القصة كما يذكر من يذكر أشياء نزهه الله منها، والهم كما قال الإمام أحمد رضي الله عنه همان؛ همُّ خَطَرات، وهَمُّ إصرار، فيوسف عليه الصلاة والسلام =
وعلى كل تقدير، فإنَّ للشيطان طمعاً كلياً في الأنبياء والصالحين من حيث الشهوة، فالنكاح يحسم عنهم هذه المواد.
الفائدة الثالثة: كسر التوقان، ودفع غوائل الشهوة، وغض البصر، وحفظ الفرج منه ومن الزوجة، ألا ترى كيف أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في قوله:"إِنَّ مُوْسَىْ عليه السلام آجَرَ نَفْسَهُ ثَمانِيَ سِنِيْنَ أَوْ عَشْراً عَلَىْ عِفَّةِ فَرْجِهِ"(1).
وقال صلى الله عليه وسلم: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ! مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَليَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ". الحديث رواه الإمام أحمد، والأئمة الستة رحمهم الله تعالى عن ابن مسعود رضي الله عنه (2).
وروى الحاكم وصححه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله تعالى:{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص: 25]، قال: كانت (3) تجيء وهي خراجة ولاجة واضعة يديها على وجهها، فقام معها موسى
= لما هم ترك همه لله، فكتب الله به حسنة كاملة، ولم يكتب عليه سيئة قط، بخلاف امرأة العزيز، فإنها همت وقالت وفعلت، فراودته بفعلها، وكذبت عليه عند سيدها، واستعانت بالنسوة، وحبسته لما اعتصم وامتنع عن الموافقة على الذنب. باختصار.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 425)، والبخاري (1806)، ومسلم (1400)، وأبو داود (2046)، والترمذي (1081)، والنسائي (2239)، وابن ماجه (1845).
(3)
كذا في "أ" و"م" وفي "المستدرك" أيضا، وجاء في "تفسير الطبري":"لم تكن" بدل "كانت".
وقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق وأنا أمشي أمامك؛ فإنَّا لا ننظر في أدبار النساء، قال ثم قالت:{يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] لما رأت من قوته وقوله لها ما قال، فزاده ذلك فيه رغبة (1).
ونظير ذلك ما رواه ابن الجوزي في كتاب "ذم الهوى": أنَّ وفد عبد القيس لمَّا وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهم غلام أمرد، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم إن يجلس وراء ظهره (2).
وذلك من النبي وموسى عليهما الصلاة والسلام مبالغة في غض البصر، ولا يُساعد على غض البصر شيء كالنكاح، ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من رأى امرأة فأعجبته أن يأتيَ أهلَه، كما روى مسلم، والترمذي عن جابر رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فدخل على زينب رضي الله عنها فقضى حاجته وخرج وقال: "إِنَّ المَرْأَةَ تُقْبِلُ فِيْ صُوْرَةِ شَيْطَانٍ، فَإِذَا رَأَىْ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَأَعْجَبَتْهُ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، فَإِنَّ مَعَهَا مِثْلَ الذِيْ مَعَهَا"(3).
وروى الإمام أحمد بسند جيد، عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: مرَّت بالنبي صلى الله عليه وسلم نسوة، فوقع في قلبه شهوة النساء، فدخل فأتى بعض
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(3530).
(2)
رواه ابن الجوزي في "ذم الهوى"(ص: 106). قال ابن حجر في "التلخيص الحبير"(3/ 148): قال ابن الصلاح: ضعيف لا أصل له.
(3)
رواه مسلم (1403)، والترمذي (1158) واللفظ له. وكذا رواه أبو داود (2151).
زوجاته وقال: "فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوْا؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَمَاثِلِ أَعْمَالِكُمْ إِتْيَانُ الحَلَالِ"(1).
وقال شيخ الإسلام والدي عاقداً لحديث جابر رضي الله عنه: [من البسيط]
عَنِ النَّبِيِّ أَتانا مَنْ رَأَى امْرَأةً
…
أَحَلَّ فِيْ قَلْبِهِ لِلْحُسْنِ مَوْقِعها
فَلْيَأْتِ زَوْجَتَهُ فَلْيَقْضِ حاجَتَهُ
…
فَإِنَّما مَعَها مِثْلُ الَّذِيْ مَعَها
وقلت في معنى حديث أبي كبشة رضي الله عنه، وحاملاً له على المعنى الأعم:
مَنْ سَرَّهُ مِنَ الْحَرامِ مِثْلُ
…
ما لَهُ مِنَ الْحَلالِ وَالْمُباحِ
فَفِيْ الْحَلالِ غُنْيَةٌ عَنْهُ لَه
…
وَلَيْسَ فِيْ الْمُباحِ مِنْ جُناحِ
الفائدة الرابعة: ترويح النفس وإيناسها بالنظر والمجالسة والملاعبة؛ فإن ذلك يُنشط العبد للعبادة ويحيد به عن الملل والسآم.
ولقد قال الله تعالى: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]، ولا خفاء أنَّ الأنبياء عليهم السلام أولى بصفاء الفكر وراحة القلب لأجل تأدية
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 231).
الدعوة وتبليغ الرسالة.
وأيضاً فإن أرواح الأنبياء عليهم السلام سارحة في مطالعة العالم العلوي، طائرة إلى مشاهدة الملكوت الحقيقي، منجذبة مع تجلياتها مَأخُوذة في تملياتها وتروحاتها، ثم هم مطالبون بتبليغ ما يوحى به إليهم إلى البشر، ولا يمكنهم ذلك إلا بالتخلق بأخلاق البشر، ومن ثم لم تكن الملائكة رسلاً إلى عموم البشر؛ قال تعالى:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام: 9].
وأما الأنبياء عليهم السلام ففيهم روحانية كاملة بها صلحوا للتلقي عن الملائكة عليهم السلام وعن الله تعالى بلا واسطة تارة أخرى، وفيهم إنسانية كاملة بها خالقوا سائر البشر وبها صلح البشر للتلقي عنهم للمجانسة والازدواج الذي بينهم، ولا نشك أن من تمام تخلق الأنبياء عليهم السلام بأخلاق البشر المناكحة التي تحصل بين الزوجين.
وإذا تأملت وجدت أنه كان في كثرة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تكميلاً للدين؛ إذ حُمل عنهنَّ من الأحكام ما لا يحمل عن غيرهن مما يحتاج إليه العبد في تمام دينه من معاشرة أهله.
الفائدة الخامسة: تفريغ القلب عن تدبير المنزل، وإصلاح أمر المأكل، وتهيئة سائر أسباب المعيشة، والإعانة على قِرى الضيف ونظم المروءة.
ولقد قيل: ما أعان على نظم مروءات الرجال كالنساء الصوالح (1).
(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 298).
والأنبياء عليهم السلام أحق الناس بنظم المروءة.
الفائدة السادسة: الاجتهاد على الكسب من الحلال والكد على العيال.
وقد تقدم أنَّ من عمل الأبدال كسب الحلال والنفقة على العيال، وهم إنما سموا أبدالاً لأنهم بُدلاء عن الأنبياء عليهم السلام، كما تقدم.
الفائدة السابعة: إنذار الأهل وتعليمهم وتأديبهم.
الفائدة الثامنة: تربية الأولاد والإحسان إليهم، خصوصاً البنات، والصبر عليهن، والإحسان إليهن، والرفق بهن كما أحسن شعيب عليه السلام (1) إلى ابنتيه في التربية والتأديب حتى وصف الله عفافهما وتحجبهما عن مخالطة الرجال وحياءهما بقوله تعالى:{وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23]، قالا ذلك اعتذارا عن خروجهن للسقيا بأنْ لا رجالَ لهنَّ إلا أبا شيخًا كبيراً.
وقال تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص: 25].
وما أحسنَ قولَ منصور الفقيه رحمه الله تعالى: [من المتقارب]
(1) الراجح أن أب الفتاتين ليس بشعيب النبي عليه الصلاة والسلام، كما رجح ذلك ابن كثير في "تفسيره"(3/ 385).
أُحِبُّ الْبَناتَ وَحُبُّ الْبَنا
…
تِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ كَرِيْمةْ
لأَنَّ شُعَيْباً مِنْ اَجْلِ الْبَنا
…
تِ أَخْدَمَهُ اللهُ مُوْسى كَلِيْمَه (1)
الفائدة التاسعة: تحسين الأخلاق مع الأهل والأولاد، والتنزُّل إلى عقولهم، والترحم لهم والشفقة عليهم، ومعونتهم، وتفريحهم وإدخال السرور عليهم، ألا ترى كيف كانت سيرة موسى عليه السلام في الشفقة على صفراء بنت شعيب عليهم السلام، وقد سار بها من مدين إلى مصر وأدركها الطَّلْق في ليلة باردة شاتية مظلمة {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه: 10].
وما كان إلا في مصلحة أهله، ففجأه الله بالوحي وآتاه من فضله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري صلى الله عليه وسلم:"مَنْ حَسُنَتْ صَلَاتُهُ وَكَثُرَتْ عِيَالُهُ وَقَلَّ مَالُهُ وَلَمْ يَغْتَبِ الْمُسْلِمِيْنَ كَانَ مَعِي فِيْ الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ". رواه أبو يعلى (2).
وهذه كلها أخلاق نبوية، ولذلك كان المتخلق بها مع الأنبياء عليهم السلام، ولا يتيسر اجتماعها إلا في المتزوج.
(1) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/ 480).
(2)
رواه أبو يعلى في "المسند"(990). وضعف العراقي إسناده في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 379).
وهذه الأخلاق - وإن كانت مطلوبة منهم وممن على قدمهم مع سائر الناس - إلا أن هذه الأخلاق يتخلق بها العبد مع الأهل لسهولة ما جُبِلَتْ النفوس عليه من الميل إلى الأهل والمودة بينهم، فالرجل تدعوه محبة الأهل إلى مخالقتهم بالأخلاق الكريمة اللطيفة لأنه يحب لهم الرفق بهم، وإلى تعليمهم وتأديبهم لأنه يحب لهم الكمال، وإلى مواساتهم والإنفاق عليهم لأنه يحب لهم الرَّوح والراحة والسعة، ثم يصير ذلك عادة له فيعامل به سائر الخلق، ولذلك قال الله تعالى:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214].
وقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].
وقال: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6].
وقال صلى الله عليه وسلم: "وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُوْلُ"(1).
فإذا عامل أهله بما ذكر، ثم عامل به سائر الخلق كمل وكملت له أخلاق المرسلين، فهو يُعامل الناس بالنصيحة والإحسان والتعليم والتأديب والتكميل مع صون النفس عن أموالهم وقطع الأطماع عنهم، فهو يُعطيهم ولا يسألهم، وينفعهم ولا ينتفع منهم، وينصفهم وإن لم يُنصفوه، إذ كذلك يُعامل العاقل أهله.
ثم يتعرف أن الإيمان لا يستكمله إلا من أحب لإخوانه من البِشر ما يحب لنفسه كما قال صلى الله عليه وسلم: "أَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ". رواه البخاري في "تاريخه"، وأبو يعلى، والطبراني في "الكبير"، والحاكم
(1) رواه البخاري (1361)، ومسلم (1034) من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.
وصححه، والبيهقي من حديث يزيد بن أسد رضي الله عنه (1).
بل في "الصحيحين" من حديث أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّىْ يُحِبَّ لأَخِيْهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"(2)، فيعامل سائر الناس بما يُعامل به أهله من محاسن الأخلاق لأنه يراهم كأهله، ألا ترى أنه وإياهم من أب واحد وأم واحدة، وكأنه أنزل أهله منزله نفسه، ثم أنزل إخوانه من الناس منزلة أهله، ومن ثم لم يطلب الأنبياء عليهم السلام أجراً من أممهم وتبرؤوا من طلب الأجر واستدلوا بذلك على صدق نصيحتهم، ولا يتم النصح والإحسان إلا بذلك، وإلا كان من ينصح الناس ويعلمهم ويرفق بهم لعوض أو غرض مؤثِراً لنفسه عليهم محباً لنفسه ما لا يحب لهم عاملاً لنفسه لا لهم، ناظراً إلى نفسه لا إليهم؛ فافهم!
ومن ثم أُلحق العالم المنزه عن الطمع المخلص في التعليم بالمرسلين، والعالم المتطلع إلى طمع والمتعرض لغرض بالمجرمين في قوله صلى الله عليه وسلم: "عُلَمَاءُ هَذِهِ الأُمَّةِ رَجُلَانِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا فَبَذَلَهُ لِلنَّاسِ وَلَمْ يَأْخُذْ عَلَيْهِ طَمَعًا وَلَمْ يَشْتَرِ بِهِ ثَمَنًا، فَذَلِكَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ حِيْتَانُ اليَمِّ، وَدَوَابُّ البَرِّ، وَالطَّيْرُ فِيْ جَوِّ السَّمَاءِ، وَيَقْدُمُ عَلَى اللهِ سَيِّداً شَرِيْفًا حَتَّى يُرَافِقَ الْمُرْسَلِيْنَ.
(1) رواه البخاري في "التاريخ الكبير"(8/ 317)، وأبو يعلى في "المسند"(911)، والطبراني في "المعجم الكبير"(22/ 238)، والحاكم في "المستدرك"(7313)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(11129).
(2)
تقدم تخريجه.
وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ عِلْمَا فَبَخِلَ بِهِ عَنْ عِبَادِ اللهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِ طَمَعًا، وَاشْتَرَىْ بِهِ ثَمَنًا، فَذَلِكَ يُلْجَمُ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ، وَيُنَادِيْ مُنَادٍ: هَذَا الَّذِيْ آتَاهُ عِلْمَا فَبَخِلَ بِهِ عَنْ عِبَادِ اللهِ وَأَخَذ عَلَيْهِ طَمَعًا وَاشْتَرَىْ بِهِ ثَمَنًا، وَذَلِكَ حَتَّى يَفْرغُ مِنْ الحِسَابِ" (1).
الفائدة العاشرة: الصبر على أخلاق النساء، واحتمال الأذى منهن، وفي ذلك تمرين النفس على احتمال الأذى من عامة الناس، وذلك من أخص أخلاق الأنبياء عليهم السلام.
وقد قصَّ الله تعالى علينا خيانة امرأة نوح وامرأة لوط بهما، ولم تكن خيانتهما لهما زنا، إنما كانت من حيث الأذى لهما (2)، فصبرا حتى كفاهما إياهما الله تعالى.
وقد صبر زكريا عليه السلام على خُلق امرأته حتى أصلحها الله تعالى له، كما قال عز وجل:{وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] روى الحاكم وصححه، عن ابن عباس رضي الله عنه: أنه قال في الآية:
(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(7187). وضعف العراقي إسناده في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 39).
(2)
روى الحاكم في "المستدرك"(3833) وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما زنتا؛ أما امرأة نوح، فكانت تقول للناس: إنه مجنون، وأما امرأة لوط، فكانت تدل على الضيف، فذلك خيانتهما.
كان في لسان امرأة زكريا عليه السلام طول، فأصلحه الله تعالى (1).
وقيل: كانت حردة (2).
وروى الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله في كتاب "البر والصلة": أن جرير بن عبد الله رضي الله عنه جاء إلى عمر رضي الله عنه، فشكى إليه ما يلقى من النساء، فقال عمر: إنا لنجد ذلك، إني لأريد الحاجة فتقول لي: ما تذهب إلا إلى فتيات بني فلان تنظر إليهن، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: أما بلغك أنَّ إبراهيم عليه السلام شكى ذَرَب (3) خلق سارة إلى الله تعالى فقال له: إنما خلقت من الضلع فالبسها على ما كان فيها ما لم تر عليها خِزية في دينها؟ فقال له عمر: لقد حشا الله بين أضلاعك علماً كثيراً (4).
قال في "الإحياء": وفي أخبار الأنبياء عليهم السلام: أنَّ قوماً دخلوا على يونس عليه السلام فأضافهم، وكان يدخل ويخرج إلى
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(3446)
(2)
قال الطبري في "التفسير"(17/ 83): والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أصلح لزكريا زوجه كما أخبر تعالى ذكرُه بأن جعلها ولوداً حسنة الخلق؛ لأن كل ذلك من معاني إصلاحه إياها، ولم يخصص الله جل ثناؤه بذلك بعضاً دون بعض في كتابه، ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا وضع على خصوص ذلك دلالة، فهو على العموم، ما لم يأت ما يجب التسليم له بأن ذلك مراد به بعض دون بعض.
(3)
الذرب: الحاد من كل شيء.
(4)
ورواه الطبراني في "المعجم الكبير"(9685). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 304): فيه راويان لم يسميا، وبقية رجاله رجال الصحيح.