الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأنصاري قال: كنت أقود بدابة أم الدرداء فيما بين بيت المقدس ودمشق، فكانت إذا مرَّت بالجبال قالت: يا أبا سليمان! أَسْمعِ الجبال ما وعدها الله عز وجل، فأرفع صوتي بهذه الآيات:{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف: 47](1).
98 - ومنها: بناء المساجد
.
قال الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26].
وقال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127].
والمساجد الثلاثة أعظم المساجد كل واحد منها بناه نبي؛ المسجد الحرام بناه إبراهيم وإسماعيل، والمسجد الأقصى بناه سليمان، ومسجد المدينة بناه محمد رضي الله عنه.
ولقد سبق إبراهيم آدم إلى بناء البيت، ثم بوأ الله مكانه لإبراهيم عليه السلام فبناه، قال تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96].
روى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والشيخان عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! أي مسجد وُضِعَ أول؟ قال: "الْمَسْجِدُ الْحَرامُ"، قلت: ثم أي؟ قال: "الْمَسْجِدُ الأَقْصَى"، قلت: كم بينهما؟
(1) ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(22/ 342).
قال: "أَرْبَعُوْنَ سَنةً"(1).
قلت: أراد - والله أعلم - أنَّ المسجد الحرام أول مسجد وُضع؛ أي: خُلق ووُضع مكانه كما قال السدي: إنه كان يوم كانت الأرض ماء ربوة على الأرض، فلما خلق الله الأرض خلق البيت معها، فهو أول بيت وُضع في الأرض. رواه ابن جرير (2).
وإلا فإنَّ بين بناء المسجد الحرام والمسجد الأقصى أكثر من أربعين سنة، سواءًا عتبرنا بناء آدم أو بناء إبراهيم.
وروى عبد الرزاق، والطبري، والطبراني، وغيرهم عن عطاء رحمه الله قال: قال آدم عليه السلام: أي رب! ما لي لا أسمع أصوات الملائكة عليهم السلام؟ قال: بخطيئتك، ولكن اهبط إلى الأرض فابْنِ لي بيتاً، ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بيتي الذي في السماء.
فزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل (3).
وروى البيهقي في "دلائله" نحوه عن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَعَثَ اللهُ جِبْرِيْلَ إِلى آدَمَ وَحَوَّاءَ عليهم السلام فَقالَ لَهُما: ابْنِيا لِي بَيْتاً، فَخَطَّ لَهُما جِبْرِيْلُ، فَجَعَلَ آدَمُ يَحْفِرُ وَحَوَّاءُ تَنْقُلُ حَتَّىْ أَجَابَهُ
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(35932)، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 157)، والبخاري (3243)، ومسلم (520).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(4/ 8).
(3)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(9092)، والطبري في "التفسير"(1/ 546).
المَاءُ، فَنُوْديَ مِنْ تَحْتِهِ: حَسْبُكَ يَا آدَمُ، فَلَمَّا بَنَيَاهُ أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ أَنْ يَطُوْفَ بِهِ، وَقِيْلَ لَهُ: أَنْتَ أَوَّلُ النَّاسِ، وَهَذَا أَوَّلُ بَيْتٍ، ثُمَّ تَناسَخَتِ القُرُوْنُ حَتَّى حَجَّهُ نُوْحٌ، ثُمَّ تَنَاسَخَتِ القُرُوْنُ حَتَّىْ رَفَعَ إبْرَاهِيْمُ القَوَاعِدَ مِنْهُ" (1).
وروى الأزرقي، وأبو الشيخ في "العظمة"، وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لمَّا أهبط الله آدم إلى الأرض من الجنة كان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض وهو مثل الفلك من رعدته، فطاطأ الله منه إلى ستين ذراعاً، فقال: يا رب! ما لي لا أسمع أصوات الملائكة ولا حِسَّهم؟ قال: خطيئتك يا آدم، ولكن اذهب فابن لي بيتاً فطُفْ به، واذكُرني حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي.
فأقبل آدم يتخطى، فطُويت له الأرض، وقيض الله له المفازة، فصارت كل مفازة يمرُّ بها خطوة، وقبض الله ما كان فيها من مخاض أو بكر فجعله له خطوة، ولم تقع قدمه على شيء من الأرض إلا صار عمراناً وبركة، حتى انتهى إلى مكة فبنى البيت الحرام.
وإنَّ جبريل عليه السلام ضرب بجناحه الأرض، فأبرز عن أُسٍّ ثابت على الأرض السابعة، فقذفت فيه الملائكة الصخر ما يطيق الصخرة منها ثلاثون رجلًا، وإنه بناه من خمسة أجبل؛ من لسان، وطور زثنا، وطور سيناء، والجودي، وحراء حتى استوى على وجه
(1) رواه البيهقي في "دلائل النبوة"(2/ 45).
الأرض، فكان أول من أسس البيت.
وصلَّى فيه وطاف به آدم عليه السلام حتى بعث الله الطوفان وكان غضباً ورجساً، فحيث ما انتهى الطوفان ذهب ريح آدم، ولم يقرب الطوفان أرض السند والهند، فدرس موضع البيت في الطوفان حتى بعث الله إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فرفعا قواعده وأعلامه، ثم بَنَتْهُ قريش بعد ذلك، وهو بحذاء البيت المعمورة لو سقطَ ما سقط إلَّا عليه (1).
وروى الإمام أحمد، والبخاري، والمفسرون عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ إبراهيم قال: يا إسماعيل! إنَّ الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك، قال: وتُعينني؟ قال: وأُعينك، قال: فإنَّ الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً - وأشار أكَمَةٍ مرتفعة على ما حولها -، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له وقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127](2).
وروى أبو بكر الواسطي في "فضائل بيت المقدس" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كانت الأرض ماءً، فبعث الله تعالى ريحاً فمسحت الماء مسحاً، فظهرت على الأرض زبدة، فقسمها أربع قطع؛ خلق من قطعة
(1) رواه الأزرقي في "تاريخ مكة"(1/ 36)، وأبو الشيخ في "العظمة"(5/ 1548).
(2)
رواه البخاري (3185).
مكة، ومن الثانية المدينة، والثالثة بيت المقدس، والرابعة الكوفة (1).
وروى ابن أبي شيبة، والطبراني، وغيرهما عن رافع بن عمير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قالَ اللهُ تَعالى لِداوُدَ عليه السلام: ابْنِ لِي بَيْتًا فِي الأَرْضِ، فَبَنَى داوُدُ بَيْتًا لِنَفْسِهِ قَبْلَ البَيْتِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: يا داوُدُ! نَصَبْتَ بَيْتَكَ قَبْلَ بَيْتِي؟ قالَ: يا رَبِّ! هكذا قُلْتَ: مَنْ مَلَكَ اسْتَأْثَرَ، ثُمَّ أَخَذَ فِي بِناءِ المَسجِدِ، فَلَمَّا تَمَّ السُّورُ سَقَطَ ثَلاثًا، فَشَكَى ذَلِكَ إِلَى اللهِ، فَأَوْحَىْ اللهُ إِلَيْهِ: إِنَّكَ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَبْنِيَ لِي بَيْتًا، قالَ: وَلِمَ يَا رَبِّ؟ قالَ: لِمَا جَرَى عَلَى يَدَيْكَ مِنَ الدِّماء، قالَ: يَا رَبِّ! أَوَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَيْ هَوَاكَ وَمَحَبَّتِكَ؟ قالَ: بَلَى، وَلَكِنَّهُمْ عِبَادي وَأَنَا أَرْحَمُهُم، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: لَا تَحْزَنْ؛ فَإِنِّي سَأَقْضِي بِنَاءَهُ عَلَى يَدَي ابْنكَ سُلَيْمَانَ، فَلَمَّا ماتَ داوُدُ أَخَذَ سُلَيْمانُ فِي بِنَائِهِ، فَلَمَّا تَمَّ قَرَّبَّ القَرابِينَ وَذَبَحَ الذَبَائِحَ وَجَمَعَ بَنِي إسْرَائِيْلَ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: قَدْ أَرَىْ سُرُوْرَكَ بِبُنْيَانِ بَيتِي، فَاسْألنِي أُعْطِكَ، قالَ: أَسْألكَ ثَلَاثَ خِصَالٍ: حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَكَ، وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِيْ لأَحَدٍ مِنْ بِعْدِي، وَمَنْ أتَى هذا البَيْتَ لَا يُرِيْدُ إِلَا الصَّلاةَ فِيهِ خَرَجَ مِنْ ذُنُوْبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا اثْنتَيْنِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَكُوْنَ
(1) كذا عزاه السيوطي في "الدر المنثور"(5/ 229) إلى أبي بكر الواسطي في "فضائل بيت المقدس"، ورواه ابن الجوزي في "فضائل القدس" (ص: 2).
قَدْ أُعطِيَ الثَّالِثَةَ" (1).
وقد سبق ذكر هذه الجملة الأخيرة في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه (2).
وروى الطبراني، والضياء المقدسي فى "المختارة" عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن المسجد الذي أُسس على التقوى فقال: "هُوَ مَسْجِدِي هَذا"(3).
وثبت بمعناه في "صحيح مسلم" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (4). قال الحسن رحمه الله تعالى: لما أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الذي أسسه على التقوى كان كلما رفع لَبِنَةً قال: "اللَّهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الآخِرَةِ"، ثم يُناولها أخاه، فيقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تنتهي اللَّبِنَةُ منتهاها، ثم يرفع أخرى فيقول:"اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلأَنْصارِ وَالْمُهاجِرَةِ"، ثم يُناولها أخاه، فيقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تنتهي اللَّبِنَةُ منتهاها. رواه أَبو الشيخ (5).
ولا شك أنَّ بناء المساجد من الأعمال الصالحة المرغوب فيها.
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(4477). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 7): فيه محمد بن أيوب بن سويد الرملي، وهو متهم بالوضع.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(4854).
(4)
رواه مسلم (1398).
(5)
كذا عزاه السيوطي في "الدر المنثور"(4/ 292) إلى أبي الشيخ.
وقد روى ابن ماجه عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِداً بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ"(1).
ورواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ولفظه: "مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِداً وَلَوْ مِفْحَصَ قَطاةٍ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتا فِي الْجَنَّةِ"(2).
إلا أن البناء شرطه أن يكون في أرض مُباحة أو مملوكة من مال حلال، وإلا فلا يكون مقبولاً.
وقد روى ابن سعد في "طبقاته" عن سالم أبي النضر رحمه الله قال: لمَّا كثر المسلمون في عهد عمر رضي الله عنه وضاق بهم المسجد، فاشترى عمر ما حول المسجد من الدُّور إلا دار العباس بن عبد المطلب وحُجَرَ أمهات المؤمنين، فقال عمر للعباس رضي الله عنهما: يا أبا الفضل! إنَّ مسجد المسلمين قد ضاق بهم، وقد ابتعت ما حوله من المنازل يوسع به على المسلمين في مسجدهم إلا دارَك وحُجَرَ أمهات المؤمنين، فأما حُجَرُ أمهات المسلمين فلا سبيل إليها، وأما دارُك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين، وإما أخطُّك حيث شئت من المدينة وأبنيها لك من بيت مال المسلمين، وإما أن تتصدق بها على المسلمين فتوسع بها في مسجدهم.
فقال: لا، ولا واحد منها.
فقال عمر: اجعل بيني وبينك من شئت.
(1) رواه ابن ماجه (737). وهو في "الصحيحين" من حديث عثمان.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 241).
قال: أُبَيُّ بن كعب.
فانطلقا إلى أُبَيٍّ فقصَّا عليه القصة، فقال أُبَيُّ: إن شئتما حدثتكما بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا: حدثنا.
فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ اللهَ تَعالى أَوْحى إِلى داوُدَ أَنِ ابْنِ لِي بَيْتاً أُذْكَرْ فِيْهِ، فَخَطَّ لَهُ هَذِهِ الخُطَّةَ خُطَّةَ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَإِذا تَرْبِيْعُها يَزْوِيْهِ بَيْتُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إِسْرائِيْلَ، فَسَأَلَهُ داوُدُ أَنْ يَبِيْعَهُ إِيَّاهُ فَأَبَى، فَحَدَّثَ داوُدُ نَفْسَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ أَنْ يا داوُدُ! أَمَرْتُكَ أَنْ تَبْنِيَ لِي بَيْتاً أُذْكَرُ فِيْهِ، فَأَرَدْتَ أَنْ تُدْخِلَ فِي بَيْتِيَ الْغَصْبَ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِيَ الْغَصْبُ، وَإِنَّ عُقُوْبَتَكَ أَنْ لا تَبْنِيَهُ، قالَ: يا رَبِّ! فَمِنْ وَلَدِي؟ قالَ: مِنْ وَلَدكَ".
قال: فأخذ عمر بمجامع ثوب أُبَي بن كعب فقال: جئتك بشيء فجئت بما هو أشد منه، لتخرجن مما قلت، فجاء يقوده حتى أدخله المسجد، فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أَبو ذر رضي الله عنه فقال: إني نشدتُ الله رجلاً سَمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر حديث بيت المقدس حيث أمر الله داود أن يبنيه إلَاّ ذكره.
فقال أَبو ذر: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلْ أُبيًّا.
فأقبل أُبَي على عمر فقال: يا عمر! أتتهمني على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال عمر: لا والله يا أبا المنذر لمَّا أتهمك، ولكني كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً.