الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
تَنْبِيْهٌ:
الكتابة من الكمالات، غير أنَّ الله تعالى جعل محمداً صلى الله عليه وسلم كما قال صلى الله عليه وسلم:"إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَحْسُبُ وَلا نَكْتُبُ"(1).
وإنما كان الأمر كذلك كما قيل: [من الطويل]
لِئَلَاّ يَخُوْضَ الْمُبْطِلُوْنَ بِقَوْلهِمْ
…
أَساطِيْرُهُمْ تُتْلَىْ عَلَيْهِ وَتُكْتَبُ
ولذلك لم يجعله الله تعالى شاعراً يقول الشعر وينشئه، مع أن الشعر من كمالات العرب، وهو من سلائق فصحائها لئلا يُقال: شاعر.
قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69].
ومع ذلك قالوا: شاعر، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} [الفرقان: 5]، وكان ذلك منهم مُكابرة وعناداً.
*
فائِدَةٌ:
لم يثبت عن أحد من الأنبياء عليهم السلام أنه قال الشعر إلا ما رُوي عن مقاتل بن سليمان، عن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قتل قابيل هابيل، وآدم عليه السلام بمكة اشتاك الشجر، وتغيرت الأطعمة، وحمضت الفواكه، وأَمَرَّ الماء، واغبرت الأرض، فقال آدم: قد حدث في الأرض حادث، فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل، فأنشأ آدم يقول:[من الوافر]
(1) رواه البخاري (1814)، ومسلم (1080) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
تَغَيَّرَتِ الْبِلادُ وَمَنْ عَلَيْها
…
وَوَجْهُ الأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيْحُ
تَغَيَّرُ كُلُّ ذِيْ طَعْمِ وَلَوْنٍ
…
وَقَلَّ بَشاشَةُ الْوَجْهِ الْمَلِيْحُ
وَما لِي لا أَجُوْدُ بِسَكْبِ دَمْعِيْ
…
وَهابِيْلٌ تَضَمَّنَهُ الضَّرِيْحُ
أَرَى طُوْلَ الْحَياةِ عَلَيَّ غَمًّا
…
فَهَلْ أَنا مِنْ حَياتِي مُسْتَرِيْح (1)
فإن صحَّ هذا كان دليلاً على جواز الشعر في حق الأنبياء عليهم السلام إلا محمداً صلى الله عليه وسلم؛ فكان من خصائصه أن الشعر لا ينبغي له.
وذكر أَبو نصر القشيري في "تفسيره"، وغيره رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال: كذب من قال: إن آدم قال شعراً، إنَّ محمداً والأنبياء عليهم الصلاة والسلام في النهي عن الشعر سواء، ولكن لما قُتل هابيل رثاه آدم عليهما السلام بالسريانية، ثم توارثه الناس حتى وصل إلى يعرب بن قحطان (2)، فعربه وجعله شعراً (3).
(1) رواه الثعلبي في "التفسير"(4/ 51).
(2)
قال الألوسي في "تفسيره"(6/ 115): ذكر بعض علماء العربية أن في ذلك الشعر لحناً أو إقواءً، أو ارتكاب ضرورة، والأولى عدم نسبته إلى يعرب أيضاً؛ لما فيه من الركاكة الظاهرة.
(3)
ورواه الثعلبي في "التفسير"(4/ 51).
ثم رأيت المعافى بن زكريا أخرج في كتاب "الأنيس والجليس" عن أبي المودع أنه قال: أول من قال بيت شعر يعقوب عليه السلام لما جاؤوا فأخبروه عن يوسف عليه السلام بالذي أخبروه به، فقال:[من الطويل]
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ بِالَّذِي جِئْتُمُ بِهِ
…
وَحَسْبِي إِلَهِي فِي الْمُهِمَّاتِ كافِيا
قال القاضي أَبو الفرج المعافى: وقد روي لنا أنَّ أول من قال الشعر آدم عليه السلام حين قتل قابيل أخاه هابيل، وأنَّ إبليس - لعنه الله - أجاب آدم عن شعره ذلك، قال: وهي رواية معروفة، انتهى (1).
واعلم أنَّ الذي استقرَّ عليه الأمر في الشعر أنه لا يليق ذمه مطلقاً لأنه قد أُنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم منه كثير، وكان ربما تمثل بالشعر، ولا يليق مدحه مطلقاً لأنه قد يَشْتمل على ما هو مذموم وقد يستجر صاحبه إلى الكذب والهَيَمان في واد.
وإنما القول السديد فيه ما قاله الشافعي رحمه الله، بل رواه الطبراني في "الأوسط" عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأبو يعلى عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشِّعْرِ بمْنزلَةِ الكَلَامِ؛ فَحَسَنُهُ كَحَسَنِ الكَلام، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِ الكَلامِ"(2).
(1) رواه المعافى بن زكريا في "الجليس الصالح والأنيس الناصح"(ص: 304).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(7696)، وكذا البخاري في "الأدب المفرد"(865) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
ورواه أبو يعلى في "المسند"(4760) عن عائشة رضي الله عنها بلفظ قريب.
والمعنى أن الشعر لا يُكره لذاته، وإنما يُكره لمضمناته كما يحسن لمضمناته أيضاً.
ومن ثم قال المحققون من العلماء: قد يكون الشعر مستحباً:
وهو ما تضمن ذكر الله والثناء عليه، أو ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ومدحه أو مدح أصحابه، أو الانتصار للدين، أو التقرير لأحكامه والتقييد لشوارده.
فالأول: كقول لبيد: [من الطويل]
أَلا كُلُّ شَيْءٍ ما خَلا اللهَ باطِلُ
ففي "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهَا أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قالَها شَاعِرٌ"(1).
والثاني: كقول العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فيما أخرجه الحاكم وغيره عن خريم بن أويس رضي الله عنه قال: سمعت العباس يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. يا رسول الله! إني أريد أن أمتدحك. قال "قُلْ لَا يَفْضُضِ اللهُ فاكَ" فقال العباس رضي الله عنه: [من المنسرح]
مِنْ قَبْلِها طِبْتَ فِيْ الظِّلالِ وَفِي
…
مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ
ثُمَّ هَبَطْتَ الْبِلادَ لا بَشَرٌ
…
أَنْتَ وَلا مُضْغَةٌ وَلا عَلَقُ
(1) رواه البخاري (3/ 1395)، ومسلم (2256) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
بَلْ نُطْفَة تَرْكَبُ السَّفِيْن وَقَدْ
…
أَلْجمَ نَسْراً وَأَهْلَهُ الْغَرَقُ
وَرَدْتَ نارَ الْخَلِيْلِ مُكْتتماً
…
تَجُولُ فِيها وَلَسْتَ تَحْتَرِقُ
تُنْقَلُ مِن صالِبٍ إِلى رَحِمٍ
…
إِذا مَضى عالَمٌ بَدا طَبَقُ
حَتَّى احتوى بيتَكَ المهيمنُ من
…
خَنْدَقِ عُلْيا زانها النَّطَق
وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الـ
…
أَرْضُ وَضاءَتْ بِنُوْرِكَ الأُفُقُ
فَنَحْنُ فِيْ ذَلِكَ الضِّياءِ وَفِي
…
النُّوْرِ وَسُبْلِ الرَّشَادِ نحترقُ (1)
والثالث: كما كان يتمثل به ابن عباس من قول حسان رضي الله عنه، وقد تقدم:[من البسيط]
(1) رواه الحاكم في "المستدرك "(5417) وقال: رواته أعراب ومثلهم لا يضعفون.
قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء"(2/ 103): ولكنهم لا يعرفون.
إِذا تَذَكَّرْتَ شَجْواً مِنْ أَخِي ثِقَةٍ
…
فَاذْكُرْ أَخاكَ أَبا بَكْرٍ بِما فَعلا
الثَّانِيَ التَّالِيَ الْمَحْمُوْدَ سِيْرَتُهُ
…
وَأَوَّلَ النَّاس مَرْءاً صَدَّقَ الرُّسُلا
أَزْكَى الْبَرِيَّةِ أَوْلاها وَأَفْضَلَها
…
إِلَّا النَّبِيَّ وَأَوْفاها بِما حَمَلا (1)
والرابع: كقول كعب بن مالك رضي الله عنه: [من الكامل]
جاءَتْ مُزَيْنَةُ (2) كَيْ تُغالِبَ رَبَّها
…
وَلَيُغْلَبَنَ مُغالِبُ الْغَلَاّبِ
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكعب حين قال ذلك: "لَقَدْ مَدَحَكَ اللهُ يَا كَعْبُ فِيْ قَوْلكَ هَذَا".
وفي رواية: "ذلك"(3).
(1) تقدم تخريجه.
(2)
في "المستدرك": "سخينة"، قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (4/ 134): ومراده بسخينة: قريش، وإنما كانت العرب تسميهم بذلك؛ لكثرة أكلهم الطعام السخن الذي لا يتهيأ لغيرهم غالباً من أهل البوادي.
(3)
رواه الحاكم في "المستدرك"(6065)،
قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: "إِنَّ المُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَبِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ"(1).
وفي "الصحيح" أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان: "اهْجُهُمْ - يعني: الكفار - وَجِبْرِيْلُ مَعَكَ"(2).
وعندي أنَّ قول الشعر في هجاء الكفار حينئذٍ كان واجباً على حسان، وذلك صورة واضحة لأن الشعر قد يكون واجباً أيضاً.
وقد يكون الشعر مُباحاً: وهو ما خلا عمَّا تقدم ذكره، وعما يأتي في المكروه والمحرَّم كقول كعب بن زهير رضي الله عنه:[من البسيط]
بانَتْ سُعادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ
…
مُتَيَّمٌ إِثْرها لَم يُفْدَ مَكْبُوْلُ
وَما سُعادُ غَداةَ الْبَيْنِ إِذْ رَحَلُوا
…
إِلَاّ أَغنُّ غضيضُ الطَّرْفِ مَكْحُوْلُ (3)
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 456)، وابن حبان في "صحيحه"(4707) عن كعب بن مالك رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (3041)، ومسلم (2486) عن البراء رضي الله عنه.
(3)
انظر: "جمهرة أشعار العرب" لأبي زيد (1/ 236).
أما ما يروى أن كعباً رضي الله عنه أنشد هذه القصيدة أمام النبي صلى الله عليه وسلم فقد رواه الحاكم في "المستدرك"(6478) وغيره. قال الحافظ زين الدين العراقي: وهذه القصيدة قد رويناها من طرق لا يصح منها شيء، وذكرها ابن إسحاق بسند منقطع.
وقد يكون محرماً: وهو ما اشتمل على غيبة مسلم غير معلن بفسق ولا متشكٍ من ظلمه، ولا مطلوب منه بيان حاله، أو على هجر مسلم، أو سخف، أو مجون يخل بالمروءة، أو قذف أو شتم لمعين، أو تحسين قبيح في الشرع كشرب الخمر والزنا واللواط، أو على كذب لغير مصلحة، أو على تشبيب بامرأة أجنبية أو زوجة معينة أو أمرد جميل، وما فيه استدعاء الشهوة إلى ما لا يحل له، أو على مدح ظالم أو الدعاء له؛ فإنَّ ذلك كله حرام.
ومن الورع أن لا نورد لهذا النوع مثالاً ولا نتلفظ به، ولعل معظم الأشعار التي يتعاطاها أهل هذه الأعصار لا تخلو من ذلك أو من شيء منه.
وكذلك لا يرغب المنسوب منهم إلى الفضل إلا في العلوم المتلاشية الداعية إلى المباهاة والمباراة والأغراض الفانية، فعلوم الدين قلَّ أو ذهب راغبوها، وعلوم الدنيا واللهو واللعب كثير بل غلب طالبوها.
ومما شاهدنا أن كتب الفقه والورع تدور بها السماسرة فلا يجدون لها طالباً، وكتب الشعر والهزل والغزل والتعمق في الإلحاد والزيغ لا تُعرض على أحد من غالب الناس إلا كان فيها راغباً، وقد قلت في المعنى:[من الخفيف]
كُتُبُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيْثِ وَما لَمْ
…
تَكُ وَفْقَ الْهَوى مِنَ الإِنْسانِ