الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَكَيْفَ يَعْدِلُ لِلسَّائِلِ عَنْ صَرِيحِ السُّنَّةِ إِلَى لَفْظَةِ " أَرَأَيْتَ " الدَّالَّةِ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الرَّأْيِ سَبَبُهُ عَجْزُ الْمُطَلِّقِ وَحُمْقُهُ عَنْ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِيهِ، وَالْأَظْهَرُ فِيمَا هَذِهِ صِفَتُهُ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَأَنَّهُ سَاقِطٌ مِنْ فِعْلِ فَاعِلِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى حُكْمٌ نَافِذٌ سَبَبُهُ الْعَجْزُ وَالْحُمْقُ عَنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلًا لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ بِخِلَافِ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي مَنْ عَقَدَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ، فَقَدْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ، وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ: هَذَا أَدَلُّ عَلَى الرَّدِّ مِنْهُ عَلَى الصِّحَّةِ وَاللُّزُومِ، فَإِنَّهُ عَقْدُ عَاجِزٍ أَحْمَقَ عَلَى خِلَافِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَيَكُونُ مَرْدُودًا بَاطِلًا، فَهَذَا الرَّأْيُ وَالْقِيَاسُ أَدَلُّ عَلَى بُطْلَانِ طَلَاقِ مَنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ مِنْهُ عَلَى صِحَّتِهِ وَاعْتِبَارِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهَا. فَفِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَإِذَا سُمِّيَ فَاعِلُهُ، ظَهَرَ، وَتَبَيَّنَ هَلْ فِي حُسْبَانِهِ حُجَّةٌ أَوْ لَا؟ وَلَيْسَ فِي حُسْبَانِ الْفَاعِلِ الْمَجْهُولِ دَلِيلٌ الْبَتَّةَ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَائِلُ " فَحُسِبَتْ " ابْنَ عُمَرَ أَوْ نافعا أَوْ مَنْ دُونَهُ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي حَسَبَهَا حَتَّى تَلْزَمَ الْحُجَّةُ بِهِ، وَتَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ سَائِرَ الْأَحَادِيثِ لَا تُخَالِفُ حَدِيثَ أبي الزبير، وَأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرَهَا شَيْئًا، وَسَائِرُ الْأَحَادِيثِ مُجْمَلَةٌ لَا بَيَانَ فِيهَا.
[رَدُّ الْمُوقِعِينَ لِلطَّلَاقِ عَلَى الْمَانِعِينَ]
قَالَ الْمُوقِعُونَ: لَقَدِ ارْتَقَيْتُمْ أَيُّهَا الْمَانِعُونَ مُرْتَقًى صَعْبًا، وَأَبْطَلْتُمْ أَكْثَرَ طَلَاقِ الْمُطَلِّقِينَ، فَإِنَّ غَالِبَهُ طَلَاقٌ بِدْعِيٌّ، وَجَاهَرْتُمْ بِخِلَافِ الْأَئِمَّةِ، وَلَمْ تَتَحَاشَوْا خِلَافَ الْجُمْهُورِ، وَشَذَذْتُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي أَفْتَى جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِخِلَافِهِ، وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَنُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ. قَالَ تَعَالَى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ طَلَاقٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228][الْبَقَرَةِ: 228] ، وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، وَقَوْلُهُ:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241]
[الْبَقَرَةِ: 241] ، وَهَذِهِ مُطَلَّقَةٌ وَهِيَ عُمُومَاتٌ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا إِلَّا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ.
قَالُوا: وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: الْأَمْرُ بِالْمُرَاجَعَةِ، وَهِيَ لَمُّ شَعَثِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا شَعَثُهُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ.
الثَّانِي: قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فَرَاجَعْتُهَا، وَحَسَبْتُ لَهَا التَّطْلِيقَةَ الَّتِي طَلَّقَهَا، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يُخَالِفُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَحْسِبُهَا مِنْ طَلَاقِهَا، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرَهَا شَيْئًا.
الثَّالِثُ: ( «قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لَمَّا قِيلَ لَهُ: أَيُحْتَسَبُ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ» ) أَيْ: عَجْزُهُ وَحُمْقُهُ لَا يَكُونُ عُذْرًا لَهُ فِي عَدَمِ احْتِسَابِهِ بِهَا.
الرَّابِعُ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: وَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَعْتَدَّ بِهَا، وَهَذَا إِنْكَارٌ مِنْهُ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهَا، وَهَذَا يُبْطِلُ تِلْكَ اللَّفْظَةَ الَّتِي رَوَاهَا عَنْهُ أبو الزبير، إِذْ كَيْفَ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ: وَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَعْتَدَّ بِهَا؟ وَهُوَ يَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ رَدَّهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا.
الْخَامِسُ: أَنَّ مَذْهَبَ ابْنِ عُمَرَ الِاعْتِدَادُ بِالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ، وَأَعْلَمُ النَّاسِ بِهَا، وَأَشَدُّهُمُ اتِّبَاعًا لِلسُّنَنِ، وَتَحَرُّجًا مِنْ مُخَالَفَتِهَا. قَالُوا: وَقَدْ رَوَى ابن وهب فِي " جَامِعِهِ "، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّ نافعا أَخْبَرَهُمْ، ( «عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَسَأَلَ عمر رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: " مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ وَهِيَ وَاحِدَةٌ» ) ، هَذَا لَفْظُ حَدِيثِهِ.
قَالُوا: وَرَوَى عبد الرزاق، ( «عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَرْسَلْنَا إِلَى نافع وَهُوَ يَتَرَجَّلُ فِي دَارِ النَّدْوَةِ ذَاهِبًا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَنَحْنُ مَعَ عَطَاءٍ: هَلْ حُسِبَتْ تَطْلِيقَةُ عبد الله بن عمر امْرَأَتَهُ حَائِضًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ» ) .
قَالُوا: وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أنس رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «مَنْ طَلَّقَ فِي بِدْعَةٍ أَلْزَمْنَاهُ بِدْعَتَهُ» ) رَوَاهُ عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ، عَنْ زَكَرِيَّا السَّاجِي حَدَّثَنَا إسماعيل بن أمية الذَّارِعُ حَدَّثَنَا حماد فَذَكَرَهُ.
قَالُوا: وَقَدْ تَقَدَّمَ مَذْهَبُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي فَتْوَاهُمَا بِالْوُقُوعِ.
قَالُوا: وَتَحْرِيمُهُ لَا يَمْنَعُ تَرَتُّبَ أَثَرِهِ وَحُكْمِهِ عَلَيْهِ كَالظِّهَارِ، فَإِنَّهُ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُوْرٌ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِلَا شَكٍّ، وَتَرَتَّبَ أَثَرُهُ عَلَيْهِ وَهُوَ تَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ إِلَى أَنْ يُكَفِّرَ، فَهَكَذَا الطَّلَاقُ الْبِدْعِيُّ مُحَرَّمٌ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ إِلَى أَنْ يُرَاجِعَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
قَالُوا: وَهَذَا (ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا: حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ، وَعَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ) ، فَأَوْقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ الَّذِي عَصَى بِهِ الْمُطَلِّقُ رَبَّهُ عز وجل.
قَالُوا: وَكَذَلِكَ الْقَذْفُ مُحَرَّمٌ، وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ مِنَ الْحَدِّ، وَرَدِّ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهِمَا.
قَالُوا: وَالْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ الْمُحَرَّمِ، وَالطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ حِلَّ الزَّوْجَةِ وَمِلْكَ بُضْعِهَا، فَلَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ شَرْعًا، فَإِنَّ الْأَبْضَاعَ فِي الْأَصْلِ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَلَا يُبَاحُ مِنْهَا إِلَّا مَا أَبَاحَهُ الشَّارِعُ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِحَقِّهِ وَإِزَالَةٌ لِمِلْكِهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ السَّبَبِ الْمُزِيلِ مَأْذُونًا فِيهِ شَرْعًا، كَمَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنِ الْعَيْنِ بِالْإِتْلَافِ الْمُحَرَّمِ، وَبِالْإِقْرَارِ الْكَاذِبِ، وَبِالتَّبَرُّعِ الْمُحَرَّمِ كَهِبَتِهَا لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ.
قَالُوا: وَالْإِيمَانُ أَصْلُ الْعُقُودِ وَأَجَلُّهَا وَأَشْرَفُهَا، يَزُولُ بِالْكَلَامِ الْمُحَرَّمِ إِذَا كَانَ كُفْرًا، فَكَيْفَ لَا يَزُولُ عَقْدُ النِّكَاحِ بِالطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي وُضِعَ لِإِزَالَتِهِ.
قَالُوا: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ إِلَّا طَلَاقُ الْهَازِلِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ مَعَ تَحْرِيمِهِ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الْهَزْلُ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:( «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَّخِذُونَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا: طَلَّقْتُكِ رَاجَعْتُكِ، طَلَّقْتُكِ رَاجَعْتُكِ» ) ، فَإِذَا وَقَعَ طَلَاقُ الْهَازِلِ مَعَ تَحْرِيمِهِ، فَطَلَاقُ الْجَادِّ أَوْلَى أَنْ يَقَعَ مَعَ تَحْرِيمِهِ.
قَالُوا: وَفَرْقٌ آخَرُ بَيْنَ النِّكَاحِ الْمُحَرَّمِ، وَالطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ، أَنَّ النِّكَاحَ نِعْمَةٌ فَلَا تُسْتَبَاحُ بِالْمُحَرَّمَاتِ، وَإِزَالَتُهُ وَخُرُوجُ الْبُضْعِ عَنْ مِلْكِهِ نِقْمَةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا مُحَرَّمًا.
قَالُوا: وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفُرُوجَ يُحْتَاطُ لَهَا، وَالِاحْتِيَاطُ يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ، وَتَجْدِيدَ الرَّجْعَةِ وَالْعَقْدِ.
قَالُوا: وَقَدْ عَهِدْنَا النِّكَاحَ لَا يُدْخَلُ فِيهِ إِلَّا بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّأْكِيدِ مِنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ، وَرِضَى الزَّوْجَةِ الْمُعْتَبَرِ رِضَاهَا