الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالُوا: وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: «لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ» .
قَالُوا: وَأَكَّدَهُ أَيْضًا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ» ، وَرَضَاعُ الْكَبِيرِ لَا يُنْبِتُ لَحْمًا، وَلَا يُنْشِزُ عَظْمًا.
قَالُوا: وَلَوْ كَانَ رَضَاعُ الْكَبِيرِ مُحَرِّمًا لَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لعائشة - وَقَدْ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ، وَكَرِهَ دُخُولَ أَخِيهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ عَلَيْهَا لَمَّا رَآهُ كَبِيرًا: - " انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنُّ " فَلَوْ حَرَّمَ رَضَاعُ الْكَبِيرِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّغِيرِ، وَلَمَا كَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ:«انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ» ثُمَّ قَالَ: «فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ» وَتَحْتَ هَذَا مِنَ الْمَعْنَى خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ قَدِ ارْتَضَعَ فِي غَيْرِ زَمَنِ الرَّضَاعِ وَهُوَ زَمَنُ الْمَجَاعَةِ، فَلَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ، فَلَا يَكُونُ أَخًا.
قَالُوا: وَأَمَّا حَدِيثُ سهلة فِي رَضَاعِ سالم، فَهَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ؛ لِأَنَّ قِصَّتَهُ كَانَتْ عَقِيبَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5][الْأَحْزَابِ: 5] ، وَهِيَ نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ.
وَأَمَّا أَحَادِيثُ اشْتِرَاطِ الصِّغَرِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي الثَّدْيِ قَبْلَ الْفِطَامِ، فَهِيَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّمَا أَسْلَمَ عَامَ فَتْحِ خَيْبَرَ بِلَا شَكٍّ، كِلَاهُمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ قِصَّةِ سالم فِي رَضَاعِهِ مِنَ امْرَأَةِ أبي حذيفة.
[حُجَّةُ مَنْ حَرَّمَ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ]
قَالَ الْمُثْبِتُونَ لِلتَّحْرِيمِ بِرَضَاعِ الشُّيُوخِ: قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صِحَّةً لَا يَمْتَرِي فِيهَا أَحَدٌ أَنَّهُ أَمَرَ سهلة بنت سهيل أَنْ تُرْضِعَ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَكَانَ كَبِيرًا ذَا لِحْيَةٍ، وَقَالَ:«أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ» ثُمَّ سَاقُوا الْحَدِيثَ، وَطُرُقَهُ وَأَلْفَاظَهُ وَهِيَ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ بِلَا شَكٍّ.
ثُمَّ قَالُوا: فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تَرْفَعُ الْإِشْكَالَ، وَتُبَيِّنُ مُرَادَ اللَّهِ عز وجل فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَاتِ أَنَّ الرَّضَاعَةَ الَّتِي تَتِمُّ بِتَمَامِ الْحَوْلَيْنِ، أَوْ بِتَرَاضِي الْأَبَوَيْنِ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ إِذَا رَأَيَا فِي ذَلِكَ صَلَاحًا لِلرَّضِيعِ، إِنَّمَا هِيَ الْمُوجِبَةُ
لِلنَّفَقَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُرْضِعَةِ، وَالَّتِي يُجْبَرُ عَلَيْهَا الْأَبَوَانِ أَحَبَّا أَمْ كَرِهَا.
وَلَقَدْ كَانَ فِي الْآيَةِ كِفَايَةٌ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233][الْبَقَرَةِ: 233] ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْوَالِدَاتِ بِإِرْضَاعِ الْمَوْلُودِ عَامَيْنِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَحْرِيمٌ لِلرَّضَاعَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا أَنَّ التَّحْرِيمَ يَنْقَطِعُ بِتَمَامِ الْحَوْلَيْنِ، وَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23][النِّسَاءِ: 23] ، وَلَمْ يَقُلْ فِي حَوْلَيْنِ، وَلَا فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ زَائِدًا عَلَى الْآيَاتِ الْأُخَرِ، وَعُمُومُهَا لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ إِلَّا بِنَصٍّ يُبَيِّنُ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لَهُ لَا بِظَنٍّ وَلَا مُحْتَمَلٍ لَا بَيَانَ فِيهِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْآثَارُ يَعْنِي الَّتِي فِيهَا التَّحْرِيمُ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ قَدْ جَاءَتْ مَجِيءَ التَّوَاتُرِ، رَوَاهَا نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وسهلة بنت سهيل، وَهِيَ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ، وزينب بنت أم سلمة وَهِيَ رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرَوَاهَا مِنَ التَّابِعِينَ: الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وحميد بن نافع، وَرَوَاهَا عَنْ هَؤُلَاءِ: الزُّهْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وعبد الرحمن بن القاسم، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ وربيعة ثُمَّ رَوَاهَا عَنْ هَؤُلَاءِ: أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وشعبة، ومالك، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وشعيب، ويونس، وَجَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، ومعمر، وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، وَغَيْرُهُمْ، ثُمَّ رَوَاهَا عَنْ هَؤُلَاءِ الْجَمُّ الْغَفِيرُ، وَالْعَدَدُ الْكَثِيرُ، فَهِيَ نَقْلُ كَافَّةٍ لَا يَخْتَلِفُ مُؤَالِفٌ وَلَا مُخَالِفٌ فِي صِحَّتِهَا، فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الِاعْتِرَاضِ إِلَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: كَانَ ذَلِكَ خَاصَّا بسالم، كَمَا قَالَ بَعْضُ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ تَبِعَهُنَّ فِي ذَلِكَ، فَلْيَعْلَمْ مَنْ تَعَلَّقَ بِهَذَا أَنَّهُ ظَنٌّ مِمَّنْ ظَنَّ ذَلِكَ مِنْهُنَّ رضي الله عنهن.
هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُنُّ قُلْنَ: مَا نَرَى هَذَا إِلَّا خَاصًّا بسالم، وَمَا نَدْرِي لَعَلَّهَا كَانَتْ رُخْصَةً لسالم. فَإِذَا هُوَ ظَنٌّ بِلَا شَكٍّ فَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُعَارَضُ بِهِ السُّنَنُ الثَّابِتَةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36][يُونُسَ: 36] وَشَتَّانَ بَيْنَ احْتِجَاجِ أم سلمة رضي الله عنها بِظَنِّهَا، وَبَيْنَ احْتِجَاجِ عائشة رضي الله عنها بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَتْ لَهَا عائشة: أَمَا لَكِ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، سَكَتَتْ أم سلمة، وَلَمْ تَنْطِقْ بِحَرْفٍ، وَهَذَا إِمَّا
رُجُوعٌ إِلَى مَذْهَبِ عائشة، وَإِمَّا انْقِطَاعٌ فِي يَدِهَا.
قَالُوا: وَقَوْلُ سهلة لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ أُرْضِعُهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ؟ بَيَانٌ جَلِيٌّ أَنَّهُ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَاتِ.
قَالُوا: وَنَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ خَاصًّا بسالم، لَقَطَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِلْحَاقَ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ، كَمَا بَيَّنَ لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ أَنَّ جَذَعَتَهُ تُجْزِئُ عَنْهُ، وَلَا تُجْزِئُ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَهُ. .
وَأَيْنَ يَقَعُ ذَبْحُ جَذَعَةٍ أُضْحِيَّةً مِنْ هَذَا الْحُكْمِ الْعَظِيمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ حِلُّ الْفَرْجِ وَتَحْرِيمُهُ، وَثُبُوتُ الْمَحْرَمِيَّةِ وَالْخَلْوَةِ بِالْمَرْأَةِ وَالسَّفَرِ بِهَا؟ فَمَعْلُومٌ قَطْعًا، أَنَّ هَذَا أَوْلَى بِبَيَانِ التَّخْصِيصِ لَوْ كَانَ خَاصًّا.
قَالُوا: وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ» حُجَّةٌ لَنَا؛ لِأَنَّ شُرْبَ الْكَبِيرِ لِلَّبَنِ يُؤَثِّرُ فِي دَفْعِ مَجَاعَتِهِ قَطْعًا، كَمَا يُؤَثِّرُ فِي الصَّغِيرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِهِ إِذَا كَانَ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ فِيهِ سَوَاءً؟ قُلْنَا: فَائِدَتُهُ إِبْطَالُ تَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ بِالْقَطْرَةِ مِنَ اللَّبَنِ، أَوِ الْمَصَّةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي لَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ، وَلَا تُنْبِتُ لَحْمًا، وَلَا تُنْشِزُ عَظْمًا.
قَالُوا: وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَكَانَ فِي الثَّدْيِ قَبْلَ الْفِطَامِ» لَيْسَ بِأَبْلَغَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ» ، «وَإِنَّمَا الرَّبَا فِي النَّسِيئَةِ» ، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ ثُبُوتُ رِبَا الْفَضْلِ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، فَكَذَا هَذَا.
فَأَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَسُنَّنُهُ الثَّابِتَةُ كُلُّهَا حَقٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا، وَلَا يُضْرَبُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، بَلْ تُسْتَعْمُلُ كُلٌّ مِنْهَا عَلَى وَجْهِهِ. قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ عائشة أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، وَأَفْقَهَ نِسَاءِ الْأُمَّةِ هِيَ الَّتِي رَوَتْ هَذَا وَهَذَا،
فَهِيَ الَّتِي رَوَتْ: «إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ» وَرَوَتْ حَدِيثَ سهلة، وَأَخَذَتْ بِهِ فَلَوْ كَانَ عِنْدَهَا حَدِيثُ «إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ» مُخَالِفًا لِحَدِيثِ سهلة، لَمَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ وَتَرَكَتْ حَدِيثًا وَاجَهَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، وَكَرِهَ الرَّجُلَ الَّذِي رَآهُ عِنْدَهَا، وَقَالَتْ: هُوَ أَخِي.
قَالُوا: وَقَدْ صَحَّ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تُدْخِلُ عَلَيْهَا الْكَبِيرَ إِذَا أَرْضَعَتْهُ - فِي حَالِ كِبَرِهِ أُخْتٌ مِنْ أَخَوَاتِهَا الرَّضَاعَ الْمُحَرِّمَ، وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ، وَنَقْطَعُ قَطْعًا نَلْقَاهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ تَكُنْ لِتُبِيحَ سِتْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَيْثُ يَنْتَهِكُهُ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ انْتِهَاكُهُ، وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ عز وجل لِيُبِيحَ ذَلِكَ عَلَى يَدِ الصِّدِّيقَةِ بِنْتِ الصِّدِّيقِ الْمُبَرَّأَةِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، وَقَدْ عَصَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ الْجَنَابَ الْكَرِيمَ، وَالْحِمَى الْمَنِيعَ، وَالشَّرَفَ الرَّفِيعَ أَتَمَّ عِصْمَةٍ، وَصَانَهُ أَعْظَمَ صِيَانَةٍ، وَتَوَلَّى صِيَانَتَهُ وَحِمَايَتَهُ، وَالذَّبَّ عَنْهُ بِنَفْسِهِ وَوَحْيِهِ وَكَلَامِهِ، قَالُوا: فَنَحْنُ نُوقِنُ وَنَقْطَعُ، وَنَبُتُّ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ بِأَنَّ فِعْلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ يَقَعُ بِهِ مِنَ التَّحْرِيمِ وَالْمَحْرَمِيَّةِ مَا يَقَعُ بِرَضَاعِ الصَّغِيرِ، وَيَكْفِينَا أُمُّنَا أَفْقَهُ نِسَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَقَدْ كَانَتْ تُنَاظِرُ فِي ذَلِكَ نِسَاءَهُ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يُجِبْنَهَا بِغَيْرِ قَوْلِهِنِّ: مَا أَحَدٌ دَاخِلٌ عَلَيْنَا بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ، وَيَكْفِينَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَذْهَبُ ابْنِ عَمِّ نَبِيِّنَا، وَأَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى الْإِطْلَاقِ حِينَ كَانَ خَلِيفَةً، وَمَذْهَبُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ كَانَ أَفْقَهَ مِنْ مالك، إِلَّا أَنَّهُ ضَيَّعَهُ أَصْحَابُهُ، وَمَذْهَبُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ذَكَرَهُ عبد الرزاق عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ.
وَذَكَرَ مالك عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَضَاعِ الْكَبِيرِ، فَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ سهلة بنت سهيل فِي قِصَّةِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَقَالَ عبد الرزاق: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عبد الكريم، أَنَّ سالم بن أبي جعد الْمَوْلَى الْأَشْجَعِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَأَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً قَدْ سَقَتْنِي مِنْ لَبَنِهَا وَأَنَا كَبِيرٌ تَدَاوَيْتُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ علي: لَا تَنْكِحْهَا، وَنَهَاهُ عَنْهَا.
فَهَؤُلَاءِ سَلَفُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَتِلْكَ نُصُوصُنَا كَالشَّمْسِ صِحَّةً وَصَرَاحَةً. قَالُوا: وَأَصْرَحُ أَحَادِيثِكُمْ حَدِيثُ أم سلمة تَرْفَعُهُ: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ» فَمَا أَصْرَحَهُ لَوْ كَانَ سَلِيمًا مِنَ الْعِلَّةِ، لَكِنْ هَذَا حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ فاطمة بنت المنذر عَنْ أم سلمة، وَلَمْ تَسْمَعْ مِنْهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَسَنَّ مِنْ زَوْجِهَا هشام بِاثْنَيْ عَشَرَ عَامًا، فَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سِتِّينَ، وَمَوْلِدُ فاطمة فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ، وَمَاتَتْ أم سلمة سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وفاطمة صَغِيرَةٌ لَمْ تَبْلُغْهَا، فَكَيْفَ تَحْفَظُ عَنْهَا، وَلَمْ تَسْمَعْ مِنْ خَالَةِ أَبِيهَا شَيْئًا وَهِيَ فِي حِجْرِهَا، كَمَا حَصَلَ سَمَاعُهَا مِنْ جَدَّتِهَا أسماء بنت أبي بكر؟
قَالُوا: وَإِذَا نَظَرَ الْعَالِمُ الْمُنْصِفُ فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَوَازَنَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِ مَنْ يَحُدُّ مُدَّةَ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا، أَوْ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا، أَوْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَا قَوْلِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، تَبَيَّنَ لَهُ فَضْلُ مَا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَهَذَا