الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ذِكْرُ أَقْضِيَتِهِ وَأَحْكَامِهِ صلى الله عليه وسلم فِي النِّكَاحِ وَتَوَابِعِهِ] [
فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ يُزَوِّجُهُمَا أَبُوهُمَا]
فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ يُزَوِّجُهُمَا أَبُوهُمَا
ثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": ( «أَنَّ خنساء بنت خدام زَوَّجَهَا أَبُوهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ وَكَانَتْ ثَيِّبًا، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَدَّ نِكَاحَهَا» ) .
وَفِي " السُّنَنِ ": مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ( «أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» ) . وَهَذِهِ غَيْرُ خنساء،
فَهُمَا قَضِيَّتَانِ قَضَى فِي إِحْدَاهُمَا بِتَخْيِيرِ الثَّيِّبِ، وَقَضَى فِي الْأُخْرَى بِتَخْيِيرِ الْبِكْرِ.
وَثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّهُ قَالَ: ( «لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ» ) .
وَفِي " صَحِيحِ مسلم ": ( «الْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا» ) .
وَمُوجِبُ هَذَا الْحُكْمِ أَنَّهُ لَا تُجْبَرُ الْبِكْرُ الْبَالِغُ عَلَى النِّكَاحِ، وَلَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِرِضَاهَا، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ، وَمَذْهَبُ أبي حنيفة، وأحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي نَدِينُ اللَّهَ بِهِ، وَلَا نَعْتَقِدُ سِوَاهُ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَقَوَاعِدِ شَرِيعَتِهِ، وَمَصَالِحِ أُمَّتِهِ.
أَمَّا مُوَافَقَتُهُ لِحُكْمِهِ، فَإِنَّهُ حَكَمَ بِتَخْيِيرِ الْبِكْرِ الْكَارِهَةِ، وَلَيْسَ رِوَايَةُ هَذَا الْحَدِيثِ مُرْسَلَةً بِعِلَّةٍ فِيهِ، فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا، فَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الِاتِّصَالَ زِيَادَةٌ، وَمَنْ وَصَلَهُ مُقَدَّمٌ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ، فَظَاهِرٌ، وَهَذَا تَصَرَّفُهُمْ فِي غَالِبِ الْأَحَادِيثِ، فَمَا بَالُ هَذَا خَرَجَ عَنْ حُكْمِ أَمْثَالِهِ، وَإِنْ حَكَمْنَا بِالْإِرْسَالِ كَقَوْلِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، فَهَذَا مُرْسَلٌ قَوِيٌّ قَدْ عَضَّدَتْهُ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ، وَالْقِيَاسُ، وَقَوَاعِدُ الشَّرْعِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فَيَتَعَيَّنُ الْقَوْلُ بِهِ.
وَأَمَّا مُوَافَقَةُ هَذَا الْقَوْلِ لِأَمْرِهِ فَإِنْ قَالَ: " وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ "، وَهَذَا أَمْرٌ مُؤَكَّدٌ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ الدَّالِّ عَلَى تَحَقُّقِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَثُبُوتِهِ وَلُزُومِهِ، وَالْأَصْلُ فِي أَوَامِرِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَكُونَ لِلْوُجُوبِ مَا لَمْ يَقُمْ إِجْمَاعٌ عَلَى خِلَافِهِ.
وَأَمَّا مُوَافَقَتُهُ لِنَهْيِهِ فَلِقَوْلِهِ: ( «لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ» ) فَأَمَرَ وَنَهَى، وَحَكَمَ بِالتَّخْيِيرِ، وَهَذَا إِثْبَاتٌ لِلْحُكْمِ بِأَبْلَغِ الطُّرُقِ.
وَأَمَّا مُوَافَقَتُهُ لِقَوَاعِدِ شِرْعِهِ، فَإِنَّ الْبِكْرَ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ الرَّشِيدَةَ لَا يَتَصَرَّفُ أَبُوهَا فِي أَقَلِّ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا إِلَّا بِرِضَاهَا، وَلَا يُجْبِرُهَا عَلَى إِخْرَاجِ الْيَسِيرِ مِنْهُ بِدُونِ رِضَاهَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُرِقَّهَا، وَيُخْرِجَ بُضْعَهَا مِنْهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا إِلَى مَنْ يُرِيدُهُ هُوَ، وَهِيَ مِنْ أَكْرَهِ النَّاسِ فِيهِ، أَبْغَضُ شَيْءٍ إِلَيْهَا؟ وَمَعَ هَذَا فَيُنْكِحُهَا إِيَّاهُ قَهْرًا بِغَيْرِ رِضَاهَا إِلَى مَنْ يُرِيدُهُ، وَيَجْعَلُهَا أَسِيرَةً عِنْدَهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ:( «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّهُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ» ) أَيْ: أَسْرَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِخْرَاجَ مَالِهَا كُلِّهِ بِغَيْرِ رِضَاهَا أَسْهَلُ عَلَيْهَا مِنْ تَزْوِيجِهَا بِمَنْ لَا تَخْتَارُهُ بِغَيْرِ رِضَاهَا، وَلَقَدْ أَبْطَلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا إِذَا عَيَّنَتْ كُفْئًا تُحِبُّهُ، وَعَيَّنَ أَبُوهَا كُفْئًا، فَالْعِبْرَةُ بِتَعْيِينِهِ وَلَوْ كَانَ بَغِيضًا إِلَيْهَا قَبِيحَ الْخِلْقَةِ.
وَأَمَّا مُوَافَقَتُهُ لِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ، فَلَا يَخْفَى مَصْلَحَةُ الْبِنْتِ فِي تَزْوِيجِهَا بِمَنْ تَخْتَارُهُ وَتَرْضَاهُ، وَحُصُولُ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ لَهَا بِهِ، وَحُصُولُ ضِدِّ ذَلِكَ بِمَنْ تُبْغِضُهُ وَتَنْفِرُ عَنْهُ، فَلَوْ لَمْ تَأْتِ السُّنَّةُ الصَّرِيحَةُ بِهَذَا الْقَوْلِ لَكَانَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ وَقَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ لَا تَقْتَضِي غَيْرَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، وَقَالَ:( «وَلَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ» )، وَقَالَ: ( «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا
مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا» ) فَجَعَلَ الْأَيِّمَ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، فَعُلِمَ أَنَّ وَلِيَّ الْبِكْرِ أَحَقُّ بِهَا مِنْ نَفْسِهَا، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْأَيِّمِ بِذَلِكَ مَعْنًى.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي صِفَةِ الْإِذْنِ، فَجَعَلَ إِذْنَ الثَّيِّبِ النُّطْقَ، وَإِذْنَ الْبِكْرِ الصَّمْتَ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ رِضَاهَا، وَأَنَّهَا لَا حَقَّ لَهَا مَعَ أَبِيهَا.
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَزْوِيجِهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا مَعَ بُلُوغِهَا وَعَقْلِهَا وَرُشْدِهَا، وَأَنْ يُزَوَّجَهَا بِأَبْغَضِ الْخَلْقِ إِلَيْهَا إِذَا كَانَ كُفْئًا، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي احْتَجَجْتُمْ بِهَا صَرِيحَةٌ فِي إِبْطَالِ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَيْسَ مَعَكُمْ أَقْوَى مِنْ قَوْلِهِ:( «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» ) هَذَا إِنَّمَا يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ، وَمُنَازِعُوكُمْ يُنَازِعُونَكُمْ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً، وَلَوْ سَلَّمَ أَنَّهُ حُجَّةٌ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَنْطُوقِ الصَّرِيحِ، وَهَذَا أَيْضًا إِنَّمَا يَدُلُّ إِذَا قُلْتَ: إِنَّ لِلْمَفْهُومِ عُمُومًا وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا عُمُومَ لَهُ، إِذْ دَلَالَتُهُ تَرْجِعُ إِلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْمَذْكُورِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَائِدَةٍ، وَهِيَ نَفْيُ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ انْقِسَامَ مَا عَدَاهُ إِلَى ثَابِتِ الْحُكْمِ وَمُنْتَفِيهِ فَائِدَةٌ، وَأَنَّ إِثْبَاتَ حُكْمٍ آخَرَ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَائِدَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضِدَّ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ، وَأَنَّ تَفْصِيلَهُ فَائِدَةٌ، كَيْفَ وَهَذَا مَفْهُومٌ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ الصَّرِيحِ، بَلْ قِيَاسُ الْأَوْلَى كَمَا تَقَدَّمَ، وَيُخَالِفُ النُّصُوصَ الْمَذْكُورَةَ.
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: ( «وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا» ) عَقِيبَ قَوْلِهِ: ( «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» ) قَطْعًا لِتَوَهُّمِ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَنَّ الْبِكْرَ تُزَوَّجُ بِغَيْرِ رِضَاهَا وَلَا إِذْنِهَا، فَلَا حَقَّ لَهَا فِي نَفْسِهَا الْبَتَّةَ، فَوَصَلَ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى دَفْعًا لِهَذَا التَّوَهُّمِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الثَّيِّبِ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْبِكْرِ فِي نَفْسِهَا حَقٌّ الْبَتَّةَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَنَاطِ الْإِجْبَارِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ.