الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ فِيهِ مَا يَنْفِي الْبُلُوغَ، فَمِنْ أَيْنَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي التَّقْيِيدَ بِسَبْعٍ كَمَا قُلْتُمْ؟
[رَدُّ الْمُثْبِتِينَ لِلتَّخْيِيرِ عَلَى مُبْطِلِيهِ]
قَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمَنْ قَالَ بِالتَّخْيِيرِ: لَا يَتَأَتَّى لَكُمُ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ( «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي» ) بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَإِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يَقُولُ: إِذَا اسْتَغْنَى بِنَفْسِهِ، وَأَكَلَ بِنَفْسِهِ، وَشَرِبَ بِنَفْسِهِ، فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهِ بِغَيْرِ تَخْيِيرٍ، وَمِنْكُمْ مَنْ يَقُولُ: إِذَا اثَّغَرَ فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهِ.
فَنَقُولُ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَكَمَ لَهَا بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحْ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ تَنْكِحَ قَبْلَ بُلُوغِ الصَّبِيِّ السِّنَّ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَحِينَئِذٍ فَالْجَوَابُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، وَنَحْنُ فِيهِ عَلَى سَوَاءٍ، فَمَا أَجَبْتُمْ بِهِ أَجَابَ بِهِ مُنَازِعُوكُمْ سَوَاءٌ، فَإِنْ أَضْمَرْتُمْ أَضْمَرُوا، وَإِنْ قَيَّدْتُمْ قَيَّدُوا، وَإِنْ خَصَّصْتُمْ خَصَّصُوا. وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَنَقُولُ: الْحَدِيثُ اقْتَضَى أَمْرَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا حَقَّ لَهَا فِي الْوَلَدِ بَعْدَ النِّكَاحِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحْ، وَكَوْنُهَا أَحَقَّ بِهِ لَهُ حَالَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ صَغِيرًا لَمْ يُمَيِّزْ، فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ. الثَّانِي: أَنْ يَبْلُغَ سِنَّ التَّمْيِيزِ، فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ أَيْضًا، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةَ مَشْرُوطَةٌ بِشَرْطٍ، وَالْحُكْمُ إِذَا عُلِّقَ بِشَرْطٍ صَدَقَ إِطْلَاقُهُ اعْتِمَادًا عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْطِ، وَحِينَئِذٍ فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ بِشَرْطِ اخْتِيَارِهِ لَهَا، وَغَايَةُ هَذَا أَنَّهُ تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَخْيِيرِهِ. وَلَوْ حُمِلَ عَلَى إِطْلَاقِهِ - وَلَيْسَ بِمُمْكِنٍ الْبَتَّةَ - لَاسْتَلْزَمَ ذَلِكَ إِبْطَالَ أَحَادِيثِ التَّخْيِيرِ، وَأَيْضًا فَإِذَا كُنْتُمْ قَيَّدْتُمُوهُ بِأَنَّهَا أَحَقُّ بِهِ إِذَا كَانَتْ مُقِيمَةً وَكَانَتْ حُرَّةً وَرَشِيدَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْقُيُودِ الَّتِي لَا ذِكْرَ لِشَيْءٍ مِنْهَا فِي الْأَحَادِيثِ الْبَتَّةَ - فَتَقْيِيدُهُ بِالِاخْتِيَارِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ أَوْلَى.
[الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ التَّخْيِيرَ يَحْصُلُ بَعْدَ الْبُلُوغِ]
وَأَمَّا حَمْلُكُمْ أَحَادِيثَ التَّخْيِيرِ عَلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَا يَصِحُّ؛ لِخَمْسَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ خَيَّرَ غُلَامًا بَيْنَ أَبَوَيْهِ، وَحَقِيقَةُ الْغُلَامِ مَنْ لَمْ
يَبْلُغْ، فَحَمْلُهُ عَلَى الْبَالِغِ إِخْرَاجٌ لَهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ وَلَا قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ.
الثَّانِي: أَنَّ الْبَالِغَ لَا حَضَانَةَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُخَيَّرَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً بَيْنَ أَبَوَيْنِ؟ هَذَا مِنَ الْمُمْتَنِعِ شَرْعًا وَعَادَةً، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنَ السَّامِعِينَ أَنَّهُمْ تَنَازَعُوا فِي رَجُلٍ كَبِيرٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ، وَأَنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ، وَلَا يَسْبِقُ إِلَى هَذَا فَهْمُ أَحَدٍ الْبَتَّةَ، وَلَوْ فُرِضَ تَخْيِيرُهُ لَكَانَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الْأَبَوَيْنِ، وَالِانْفِرَادِ بِنَفْسِهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ فِي الْعَادَةِ وَلَا الْعُرْفِ وَلَا الشَّرْعِ أَنْ تَنَازَعَ الْأَبَوَانِ فِي رَجُلٍ كَبِيرٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ، كَمَا لَا يُعْقَلُ فِي الشَّرْعِ تَخْيِيرُ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ بَيْنَ أَبَوَيْهِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْوَلَدَ كَانَ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ، ذَكَرَهُ النَّسَائِيُّ، وَهُوَ حَدِيثُ رافع بن سنان، وَفِيهِ: فَجَاءَ ابْنٌ لَهَا صَغِيرٌ لَمْ يَبْلُغْ، فَأَجْلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَبَ هَاهُنَا وَالْأُمَّ هَاهُنَا، ثُمَّ خَيَّرَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ بِئْرَ أَبِي عِنَبَةَ عَلَى أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَجَوَابُهُ: مُطَالَبَتُكُمْ أَوَّلًا بِصِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَنْ ذَكَرَهُ، وَثَانِيًا: بِأَنَّ مَسْكَنَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ كَانَ بَعِيدًا مِنْ هَذِهِ الْبِئْرِ، وَثَالِثًا بِأَنَّ مَنْ لَهُ نَحْوَ الْعَشْرِ سِنِينَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَقِيَ مِنَ الْبِئْرِ الْمَذْكُورِ عَادَةً، وَكُلُّ هَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ وَأَهْلَ الْبَوَادِي يَسْتَقِي أَوْلَادُهُمُ الصِّغَارُ مِنْ آبَارٍ هِيَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا تَقْيِيدُنَا لَهُ بِالسَّبْعِ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَلَا هُوَ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِلْمُخَيِّرِينَ قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُخَيَّرُ لِخَمْسٍ، حَكَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، ذَكَرَهُ عَنْهُ حرب فِي " مَسَائِلِهِ "، وَيُحْتَجُّ لِهَؤُلَاءِ بِأَنَّ الْخَمْسَ هِيَ السِّنُّ الَّتِي يَصِحُّ فِيهَا سَمَاعُ الصَّبِيِّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَعْقِلَ فِيهَا، وَقَدْ قَالَ مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ: