الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل تَحْرِيمُ الشَّيْءِ تَحْرِيمٌ لِثَمَنِهِ]
فَصْلٌ
وَفِي قَوْلِهِ: ( «إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا أَوْ حَرَّمَ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ ثَمَنَهُ» ) ، يُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ حَرَامُ الْعَيْنِ وَالِانْتِفَاعِ جُمْلَةً، كَالْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَآلَاتِ الشِّرْكِ، فَهَذِهِ ثَمَنُهَا حَرَامٌ كَيْفَمَا اتَّفَقَتْ.
وَالثَّانِي: مَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي غَيْرِ الْأَكْلِ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ، وَكَالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَالْبِغَالِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَحْرُمُ أَكْلُهُ دُونَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، فَهَذَا قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ، وَيَكُونُ تَحْرِيمُ ثَمَنِهِ إِذَا بِيعَ لِأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي حَرُمَتْ مِنْهُ، فَإِذَا بِيعَ الْبَغْلُ وَالْحِمَارُ لِأَكْلِهِمَا، حَرُمَ ثَمَنُهُمَا بِخِلَافِ مَا إِذَا بِيعَا لِلرُّكُوبِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا بِيعَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ، حَلَّ ثَمَنُهُ. وَإِذَا بِيعَ لِأَكْلِهِ، حَرُمَ ثَمَنُهُ، وَطَرْدُ هَذَا مَا قَالَهُ جُمْهُورٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، كأحمد، ومالك وَأَتْبَاعِهِمَا: إِنَّهُ إِذَا بِيعَ الْعِنَبُ لِمَنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا، حَرُمَ أَكْلُ ثَمَنِهِ. بِخِلَافِ مَا إِذَا بِيعَ لِمَنْ يَأْكُلُهُ، وَكَذَلِكَ السِّلَاحُ إِذَا بِيعَ لِمَنْ يُقَاتِلُ بِهِ مُسْلِمًا، حَرُمَ أَكْلُ ثَمَنِهِ، وَإِذَا بِيعَ لِمَنْ يَغْزُو بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَثَمَنُهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَكَذَلِكَ ثِيَابُ الْحَرِيرِ إِذَا بِيعَتْ لِمَنْ يَلْبَسُهَا مِمَّنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ، حَرُمَ أَكْلُ ثَمَنِهَا بِخِلَافِ بَيْعِهَا مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ لُبْسُهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ تُجَوِّزُونَ لِلْمُسْلِمِ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِنَ الذِّمِّيِّ لِاعْتِقَادِ الذِّمِّيِّ حِلَّهُمَا، كَمَا جَوَّزْتُمْ بَيْعَهُ الدُّهْنَ الْمُتَنَجِّسَ إِذَا بَيَّنَ حَالَهُ لِاعْتِقَادِهِ طَهَارَتَهُ وَحِلَّهُ؟ قِيلَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَثَمَنُهُ حَرَامٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الدُّهْنَ الْمُتَنَجِّسَ عَيْنٌ طَاهِرَةٌ خَالَطَهَا نَجَاسَةٌ وَيُسَوَّغُ فِيهَا النِّزَاعُ. وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ إِلَّا بِالتَّغَيُّرِ. وَإِنْ تَغَيَّرَ، فَذَهَبَ طَائِفَةٌ إِلَى إِمْكَانِ تَطْهِيرِهِ بِالْغَسْلِ، بِخِلَافِ الْعَيْنِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَعَلَى لِسَانِ كُلِّ رَسُولٍ، كَالْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ وَالْخِنْزِيرِ، فَإِنَّ اسْتِبَاحَتَهُ مُخَالِفَةٌ لِمَا أَجْمَعَتِ الرُّسُلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَإِنِ اعْتَقَدَ الْكَافِرُ حِلَّهُ، فَهُوَ كَبَيْعِ الْأَصْنَامِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ بِعَيْنِهِ، وَإِلَّا فَالْمُسْلِمُ لَا يَشْتَرِي صَنَمًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْخَمْرُ حَلَالٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَجَوَّزُوا بَيْعَهَا مِنْهُمْ.
قِيلَ: هَذَا هُوَ الَّذِي تَوَهَّمَهُ مَنْ تَوَهَّمَهُ مِنْ عُمَّالِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حَتَّى كَتَبَ إِلَيْهِمْ عمر رضي الله عنه يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، وَأَمَرَ عُمَّالَهُ أَنْ يُوَلُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ بَيْعَهَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَأَنْ يَأْخُذُوا مَا عَلَيْهِمْ مِنْ أَثْمَانِهَا، فَقَالَ أبو عبيد: حَدَّثَنَا عبد الرحمن، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ إبراهيم بن عبد الأعلى الجعفي، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، قَالَ بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْخَنَازِيرِ فَقَامَ بلال، فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ، فَقَالَ عمر رضي الله عنه:(لَا تَفْعَلُوا وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا) .
قَالَ أبو عبيد: وَحَدَّثَنَا الأنصاري، عَنْ إسرائيل، عَنْ إبراهيم بن عبد الأعلى، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، أَنَّ بلالا قَالَ لعمر رضي الله عنه إِنَّ عُمَّالَكَ يَأْخُذُونَ الْخَمْرَ وَالْخَنَازِيرَ فِي الْخَرَاجِ، فَقَالَ:(لَا تَأْخُذُوا مِنْهُمْ، وَلَكِنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا أَنْتُمْ مِنَ الثَّمَنِ) .
قَالَ أبو عبيد: يُرِيدُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْخَمْرَ وَالْخَنَازِيرَ مِنْ جِزْيَةِ رُؤُوسِهِمْ، وَخَرَاجُ أَرْضِهِمْ بِقِيمَتِهَا، ثُمَّ يَتَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ بَيْعَهَا، فَهَذَا الَّذِي أَنْكَرَهُ بلال، وَنَهَى عَنْهُ عمر، ثُمَّ رَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ أَثْمَانِهَا إِذَا كَانَ أَهْلُ الذِّمَّةِ هُمُ الْمُتَوَلِّينَ لِبَيْعِهَا؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخَنَازِيرَ مَالٌ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلَا تَكُونُ مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ حَدِيثٌ آخَرُ لعمر رضي الله عنه حَدَّثَنَا علي بن معبد، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَتَبَ إِلَى الْعُمَّالِ يَأْمُرُهُمْ بِقَتْلِ الْخَنَازِيرِ وَقَبْضِ أَثْمَانِهَا لِأَهْلِ الْجِزْيَةِ مِنْ
جِزْيَتِهِمْ.
قَالَ أبو عبيد: فَهُوَ لَمْ يَجْعَلْهَا قِصَاصًا مِنَ الْجِزْيَةِ إِلَّا وَهُوَ يَرَاهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ. فَأَمَّا إِذَا مَرَّ الذِّمِّيُّ بِالْخَمْرِ وَالْخَنَازِيرِ عَلَى الْعَاشِرِ، فَإِنَّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ أَنْ يُعَشِّرَهَا، وَلَا يَأْخُذَ ثَمَنَ الْعُشْرِ مِنْهَا. وَإِنْ كَانَ الذِّمِّيُّ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِبَيْعِهَا أَيْضًا، وَهَذَا لَيْسَ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ، وَلَا يُشْبِهُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وَجَبَ عَلَى رِقَابِهِمْ وَأَرْضِيهِمْ، وَأَنَّ الْعُشْرَ هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُوضَعُ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخَنَازِيرِ أَنْفُسِهَا، وَكَذَلِكَ ثَمَنُهَا لَا يَطِيبُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:( «إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ» ) . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ أَفْتَى فِي مِثْلِ هَذَا بِغَيْرِ مَا أَفْتَى بِهِ فِي ذَاكَ، وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
حَدَّثَنَا أبو الأسود المصري، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عبد الله بن هبيرة السبائي أَنَّ عتبة بن فرقد بَعَثَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ صَدَقَةِ الْخَمْرِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عمر رضي الله عنه:(بَعَثْتَ إِلَيَّ بِصَدَقَةِ الْخَمْرِ، وَأَنْتَ أَحَقُّ بِهَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّاسَ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا اسْتَعْمَلْتُكَ عَلَى شَيْءٍ بَعْدَهَا، قَالَ: فَتَرَكَهُ) .
حَدَّثَنَا عبد الرحمن، عَنِ المثنى بن سعيد الضبعي، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ، أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِتَفْصِيلِ الْأَمْوَالِ الَّتِي قِبَلَكَ، مِنْ أَيْنَ دَخَلَتْ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ وَصَنَّفَهُ لَهُ، وَكَانَ فِيمَا كَتَبَ إِلَيْهِ مِنْ عُشْرِ الْخَمْرِ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ. قَالَ: فَلَبِثْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَاءَ جَوَابُ كِتَابِهِ: إِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَذْكُرُ مِنْ عُشُورِ الْخَمْرِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَإِنَّ الْخَمْرَ لَا يُعَشِّرُهَا مُسْلِمٌ، وَلَا يَشْتَرِيهَا، وَلَا يَبِيعُهَا، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا، فَاطْلُبِ الرَّجُلَ فَارْدُدْهَا عَلَيْهِ، فَهُوَ أَوْلَى بِمَا كَانَ فِيهَا. فَطَلَبَ الرَّجُلَ، فَرُدَّتْ عَلَيْهِ.
قَالَ أبو عبيد: فَهَذَا عِنْدِي الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَإِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ قَدْ