الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَيْ أَجَلُهُنَّ وَضْعُ حَمْلِهِنَّ، وَالْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ إِذَا كَانَا مَعْرِفَتَيْنِ، اقْتَضَى ذَلِكَ حَصْرَ الثَّانِي فِي الْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15][فَاطِرٍ: 15] .
وَبِهَذَا احْتَجَّ جُمْهُورُ الصِّحَابَةِ عَلَى أَنَّ الْحَامِلَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا عِدَّتُهَا وَضْعُ حَمْلِهَا، وَلَوْ وَضَعَتْهُ وَالزَّوْجُ عَلَى الْمُغْتَسَلِ كَمَا أَفْتَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِسُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ، وَكَانَ هَذَا الْحَكَمُ وَالْفَتْوَى مِنْهُ مُشْتَقًّا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، مُطَابِقًا لَهُ.
[عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ الَّتِي تَحِيضُ]
فَصْلٌ النَّوْعُ الثَّانِي: عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ الَّتِي تَحِيضُ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . [الْبَقَرَةِ: 228] .
[عِدَّةُ الَّتِي لَا حَيْضَ لَهَا]
النَّوْعُ الثَّالِثُ: عِدَّةُ الَّتِي لَا حَيْضَ لَهَا، وَهِيَ نَوْعَانِ: صَغِيرَةٌ لَا تَحِيضُ، وَكَبِيرَةٌ قَدْ يَئِسَتْ مِنَ الْحَيْضِ. فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِدَّةَ النَّوْعَيْنِ بِقَوْلِهِ:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4][الطَّلَاقِ: 4] أَيْ: فَعِدَّتُهُنَّ كَذَلِكَ.
[عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا]
النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَبَيَّنَ عِدَّتَهَا - سُبْحَانَهُ - بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234][الْبَقَرَةِ: 234] ، فَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْمَدْخُولَ بِهَا وَغَيْرَهَا، وَالصَّغِيرَةَ وَالْكَبِيرَةَ، وَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الْحَامِلُ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ بِقَوْلِهِ:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فَجَعَلَ وَضْعَ حَمْلِهِنَّ جَمِيعَ أَجَلِهِنَّ، وَحَصَرَهُ فِيهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ: يَتَرَبَّصْنَ فَإِنَّهُ فِعْلٌ مُطْلَقٌ لَا عُمُومَ لَهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ:
{أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4][الطَّلَاقِ: 4] مُتَأَخِّرٌ فِي النُّزُولِ عَنْ قَوْلِهِ: (يَتَرَبَّصْنَ) وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234][الْبَقَرَةِ: 234] فِي غَيْرِ الْحَامِلِ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنَّهَا لَوْ تَمَادَى حَمْلُهَا فَوْقَ ذَلِكَ تَرَبَّصَتْهُ، فَعُمُومُهَا مَخْصُوصٌ اتِّفَاقًا، وَقَوْلُهُ:{أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4][الطَّلَاقِ: 4] غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِالِاتِّفَاقِ، هَذَا لَوْ لَمْ تَأْتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ بِذَلِكَ، وَوَقَعَتِ الْحَوَالَةُ عَلَى الْقُرْآنِ، فَكَيْفَ وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ مُوَافِقَةٌ لِذَلِكَ، مُقَرِّرَةٌ لَهُ.
فَهَذِهِ أَصُولُ الْعِدَدِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مُفَصَّلَةً مُبَيَّنَةً، وَلَكِنِ اخْتُلِفَ فِي فَهْمِ الْمُرَادِ مِنَ الْقُرْآنِ وَدَلَالَتِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ مِنْهَا، وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا وَنَذْكُرُ أَوْلَى الْمَعَانِي وَأَشْبَهَهَا بِهَا، وَدَلَالَةَ السُّنَّةِ عَلَيْهَا.
فَمِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُ السَّلَفِ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا، فَقَالَ علي، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصِّحَابَةِ: أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ مِنْ وَضْعِ الْحَمْلِ، أَوْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مالك رحمه الله اخْتَارَهُ سَحْنُونٌ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أبي طالب عَنْهُ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولَانِ فِي الْمُعْتَدَّةِ الْحَامِلِ: أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى نَزَلَتْ بَعْدُ، وَحَدِيثُ سبيعة يَقْضِي بَيْنَهُمْ " إِذَا وَضَعَتْ،
فَقَدْ حَلَّتْ ".
وَابْنُ مَسْعُودٍ يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4][الطَّلَاقِ: 4] هِيَ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا، وَالْمُطَلَّقَةُ مِثْلُهَا إِذَا وَضَعَتْ، فَقَدْ حَلَّتْ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَلَا تَنْقَضِي عِدَّةُ الْحَامِلِ إِذَا أَسْقَطَتْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خَلْقُهُ، فَإِذَا بَانَ لَهُ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ، عَتَقَتْ بِهِ الْأَمَةُ، وَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَإِذَا وَلَدَتْ وَلَدًا وَفِي بَطْنِهَا آخَرُ، لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ حَتَّى تَلِدَ الْآخَرَ، وَلَا تَغِيبُ عَنْ مَنْزِلِهَا الَّذِي أُصِيبَ فِيهِ زَوْجُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا، وَالْعِدَّةُ مِنْ يَوْمِ يَمُوتُ أَوْ يُطَلِّقُ، هَذَا كَلَامُ أَحْمَدَ.
وَقَدْ تَنَاظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عِدَّتُهَا وَضْعُ الْحَمْلِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَعْتَدُّ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ، فَحَكَّمَا أم سلمة رضي الله عنها، فَحَكَمَتْ لِأَبِي هُرَيْرَةَ، وَاحْتَجَّتْ بِحَدِيثِ سبيعة.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَجَعَ.
وَقَالَ جُمْهُورُ الصِّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ: إِنَّ عِدَّتَهَا وَضْعُ الْحَمْلِ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَلَى مُغْتَسَلِهِ فَوَضَعَتْ، حَلَّتْ.
قَالَ أَصْحَابُ الْأَجَلَيْنِ: هَذِهِ قَدْ تَنَاوَلَهَا عُمُومَانِ، وَقَدْ أَمْكَنَ دُخُولُهَا فِي كِلَيْهِمَا، فَلَا تَخْرُجُ مِنْ عِدَّتِهَا بِيَقِينِ حَتَّى تَأْتِيَ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ، قَالُوا: وَلَا يُمْكِنُ تَخْصِيصُ عُمُومِ إِحْدَاهُمَا بِخُصُوصِ الْأُخْرَى، لِأَنَّ كُلَّ آيَةٍ عَامَّةٌ مِنْ وَجْهٍ، خَاصَّةٌ مِنْ وَجْهٍ، قَالُوا: فَإِذَا أَمْكَنَ دُخُولُ بَعْضِ الصُّوَرِ فِي عُمُومِ الْآيَتَيْنِ، يَعْنِي إِعْمَالًا لِلْعُمُومِ فِي مُقْتَضَاهُ.
فَإِذَا اعْتَدَّتْ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ دَخَلَ أَدْنَاهُمَا فِي أَقْصَاهُمَا.
وَالْجُمْهُورُ أَجَابُوا عَنْ هَذَا بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ صَرِيحَ السُّنَّةِ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَمْلِ فَقَطْ، كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ ":«أَنَّ سبيعة الأسلمية تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حُبْلَى، فَوَضَعَتْ، فَأَرَادَتْ أَنْ تَنْكِحَ، فَقَالَ لَهَا أبو السنابل: مَا أَنْتِ بِنَاكِحَةٍ حَتَّى تَعْتَدِّي آخِرَ الْأَجَلَيْنِ، فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: " كَذَبَ أبو السنابل، قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ» ".
الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4][الطَّلَاقِ: 4] نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234][الْبَقَرَةِ: 234] وَهَذَا جَوَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، كَمَا فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْهُ: أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ، وَلَا تَجْعَلُونَ لَهَا الرُّخْصَةَ، أَشْهَدُ لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4][الطَّلَاقِ: 4] .
وَهَذَا الْجَوَابُ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرٍ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ آيَةَ الطَّلَاقِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى آيَةِ الْبَقَرَةِ لِتَأَخُّرِهَا عَنْهَا، فَكَانَتْ نَاسِخَةً لَهَا، وَلَكِنَّ النَّسْخَ عِنْدَ الصِّحَابَةِ وَالسَّلَفِ أَعَمُّ مِنْهُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ.
أَحَدُهَا: رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِخِطَابٍ.
الثَّانِي: رَفْعُ دَلَالَةِ الظَّاهِرِ إِمَّا بِتَخْصِيصِ، وَإِمَّا بِتَقْيِيدٍ، وَهُوَ أَعَمُّ مِمَّا قَبْلَهُ.
الثَّالِثُ: بَيَانُ الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ الَّذِي بَيَانُهُ مِنْ خَارِجٍ، وَهَذَا أَعَمُّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ