الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالثَّانِي: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِالشَّعْرِ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ حَيْثُ يَقُولُ: ( «إِنَّمَا حَرَّمَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلَهَا أَوْ لَحْمَهَا» ) .
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الشَّعْرَ لَيْسَ مِنَ الْمَيْتَةِ لِيَتَعَرَّضَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّهُ الْمَوْتُ، وَتَعْلِيلُهُمْ بِالتَّبَعِيَّةِ يَبْطُلُ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ، وَعَلَيْهِ شَعْرٌ، فَإِنَّهُ يَطْهُرُ دُونَ الشَّعْرِ عِنْدَهُمْ، وَتَمَسُّكُهُمْ بِغَسْلِهِ فِي الطَّهَارَةِ يَبْطُلُ بِالْجَبِيرَةِ، وَتَمَسُّكُهُمْ بِضَمَانِهِ مِنَ الصَّيْدِ يَبْطُلُ بِالْبَيْضِ، وَبِالْحَمْلِ. وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ يَتْبَعُ الْجُمْلَةَ لِاتِّصَالِهِ، وَزَوَالِ الْجُمْلَةِ بِانْفِصَالِهِ عَنْهَا، وَهَاهُنَا لَوْ فَارَقَ الْجُمْلَةَ بَعْدَ أَنْ تَبِعَهَا فِي التَّنَجُّسِ، لَمْ يُفَارِقْهَا فِيهِ عِنْدَهُمْ، فَعُلِمَ الْفَرْقُ.
[فصل هَلْ يَحْرُمُ بَيْعُ عَظْمِ الْمَيْتَةِ وَقَرْنِهَا وَجِلْدِهَا بَعْدَ الدِّبَّاغِ]
فَصْلٌ
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَدْخُلُ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِهَا تَحْرِيمُ بَيْعِ عَظْمِهَا وَقَرْنِهَا وَجِلْدِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ لِشُمُولِ اسْمِ الْمَيْتَةِ لِذَلِكَ؟ قِيلَ: الَّذِي يَحْرُمُ بَيْعُهُ مِنْهَا هُوَ الَّذِي يَحْرُمُ أَكْلُهُ وَاسْتِعْمَالِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ بِقَوْلِهِ:( «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ» ) . وَفِي اللَّفْظِ الْآخَرِ: ( «إِذَا حَرَّمَ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ ثَمَنَهُ» ) . فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَحْرُمُ بَيْعُهُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ.
وَأَمَّا الْجِلْدُ إِذَا دُبِغَ، فَقَدْ صَارَ عَيْنًا طَاهِرَةً يُنْتَفَعُ فِي اللُّبْسِ وَالْفُرُشِ، وَسَائِرِ وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ، فَلَا يَمْتَنِعُ جَوَازُ بَيْعِهِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ الْقَدِيمِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ القفال: لَا يَتَّجِهُ هَذَا إِلَّا بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ يُوَافِقُ مالكا فِي أَنَّهُ يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ دُونَ بَاطِنِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَإِنْ طَهُرَ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ؛ فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْمَيْتَةِ، حَقِيقَةً فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَعَظْمِهَا وَلَحْمِهَا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ بَعْدَ الدَّبْغِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ طَاهِرَةٌ يُنْتَفَعُ بِهَا، فَجَازَ بَيْعُهَا كَالْمُذَكَّى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الدَّبْغَ إِزَالَةٌ أَوْ
إِحَالَةٌ، فَإِنْ قُلْنَا: إِحَالَةٌ جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَالَ مِنْ كَوْنِهِ جُزْءَ مَيْتَةٍ إِلَى عَيْنٍ أُخْرَى، وَإِنْ قُلْنَا: إِزَالَةٌ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الْمَيْتَةِ هُوَ الْمُحَرِّمُ لِبَيْعِهِ، وَذَلِكَ بَاقٍ لَمْ يُسْتَحَلَّ.
وَبَنَوْا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ جَوَازَ أَكْلِهِ، وَلَهُمْ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَكْلُهُ مُطْلَقًا، وَتَحْرِيمُهُ مُطْلَقًا، وَالتَّفْصِيلُ بَيْنَ جِلْدِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ، فَأَصْحَابُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، غَلَّبُوا حُكْمَ الْإِحَالَةِ، وَأَصْحَابُ الْوَجْهِ الثَّانِي، غَلَّبُوا حُكْمَ الْإِزَالَةِ، وَأَصْحَابُ الْوَجْهِ الثَّالِثِ أَجْرَوُا الدِّبَاغَ مَجْرَى الذَّكَاةِ، فَأَبَاحُوا بِهَا مَا يُبَاحُ أَكْلُهُ بِالذَّكَاةِ إِذَا ذُكِّيَ دُونَ غَيْرِهِ، وَالْقَوْلُ بِجَوَازِ أَكْلِهِ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ السُّنَّةِ، وَلِهَذَا لَمْ يُمْكِنْ قَائِلُهُ الْقَوْلَ بِهِ إِلَّا بَعْدَ مَنْعِهِ كَوْنَ الْجِلْدِ بَعْدَ الدَّبْغِ مَيْتَةً، وَهَذَا مَنْعٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ جِلْدُ مَيْتَةٍ حَقِيقَةً، وَحِسًّا وَحُكْمًا، وَلَمْ يَحْدُثْ لَهُ حَيَاةٌ بِالدَّبْغِ تَرْفَعُ عَنْهُ اسْمَ الْمَيْتَةِ، وَكَوْنُ الدَّبْغِ إِحَالَةً بَاطِلٌ حِسًّا؛ فَإِنَّ الْجِلْدَ لَمْ يُسْتَحَلَّ ذَاتُهُ وَأَجْزَاؤُهُ، وَحَقِيقَتُهُ بِالدِّبَاغِ، فَدَعْوَى أَنَّ الدِّبَاغَ إِحَالَةٌ عَنْ حَقِيقَةٍ إِلَى حَقِيقَةٍ أُخْرَى، كَمَا تُحِيلُ النَّارُ الْحَطَبَ إِلَى الرَّمَادِ، وَالْمَلَّاحَةُ مَا يُلْقَى فِيهَا مِنَ الْمَيْتَاتِ إِلَى الْمِلْحِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ.
وَأَمَّا أَصْحَابُ مالك رحمه الله فَفِي (الْمُدَوَّنَةِ) لابن القاسم الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِهَا وَإِنْ دُبِغَتْ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) . وَقَالَ المازري: هَذَا هُوَ مُقْتَضَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ. قَالَ: وَأَمَّا إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّهَا تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ طَهَارَةً كَامِلَةً، فَإِنَّا نُجِيزُ بَيْعَهَا لِإِبَاحَةِ جُمْلَةِ مَنَافِعِهَا.
قُلْتُ: عَنْ مالك فِي طَهَارَةِ الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ رِوَايَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، وَبِهَا قَالَ وهب، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ جَوَّزَ أَصْحَابُهُ بَيْعَهُ. وَالثَّانِيَةُ - وَهِيَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ - أَنَّهُ يَطْهُرُ طَهَارَةً مَخْصُوصَةً يَجُوزُ مَعَهَا اسْتِعْمَالُهُ فِي الْيَابِسَاتِ، وَفِي الْمَاءِ وَحْدَهُ دُونَ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ، قَالَ أَصْحَابُهُ: وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلَا الصَّلَاةُ فِيهِ، وَلَا الصَّلَاةُ عَلَيْهِ.