الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي هَذَا الِاخْتِصَاصِ الَّذِي لَمْ يُشَارِكْهَا فِيهِ الْأَبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ الَّذِي طَلَبَتْهُ بِالِاسْتِفْتَاءِ وَالْمُخَاصَمَةِ.
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ، وَتَأْثِيرِهَا فِي الْأَحْكَامِ، وَإِنَاطَتِهَا بِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ حَتَّى فِطَرِ النِّسَاءِ، وَهَذَا الْوَصْفُ الَّذِي أَدْلَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ وَجَعَلَتْهُ سَبَبًا لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ قَدْ قَرَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرَهُ، وَلَوْ كَانَ بَاطِلًا أَلْغَاهُ، بَلْ تَرْتِيبُهُ الْحُكْمَ عَقِيبَهُ دَلِيلٌ عَلَى تَأْثِيرِهِ فِيهِ وَأَنَّهُ سَبَبُهُ.
وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ، فَإِنَّ الْأَبَ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ حُضُورٌ وَلَا مُخَاصَمَةٌ، وَلَا دِلَالَةٌ فِيهِ لِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ حَاضِرًا، فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَالْمَرْأَةُ إِنَّمَا جَاءَتْ مُسْتَفْتِيَةً، أَفْتَاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمُقْتَضَى مَسْأَلَتِهَا، وَإِلَّا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا عَلَى الزَّوْجِ إِنَّهُ طَلَّقَهَا حَتَّى يُحْكَمَ لَهَا بِالْوَلَدِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا.
[فصل الْأُمُّ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ مِنَ الْأَبِ]
وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا افْتَرَقَ الْأَبَوَانِ وَبَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْأَبِ، مَا لَمْ يَقُمْ بِالْأُمِّ مَا يَمْنَعُ تَقْدِيمَهَا، أَوْ بِالْوَلَدِ وَصْفٌ يَقْتَضِي تَخْيِيرَهُ، وَهَذَا مَا لَا يُعْرَفُ فِيهِ نِزَاعٌ، وَقَدْ قَضَى بِهِ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أبو بكر عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ.
فَلَمَّا وَلِيَ عمر قَضَى بِمِثْلِهِ، فَرَوَى مالك فِي " الْمُوَطَّأِ "، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: (كَانَتْ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَوَلَدَتْ لَهُ عاصم بن عمر، ثُمَّ إِنَّ عمر فَارَقَهَا، فَجَاءَ عمر قُبَاءَ، فَوَجَدَ ابْنَهُ عاصما يَلْعَبُ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَأَخَذَ بِعَضُدِهِ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الدَّابَّةِ، فَأَدْرَكَتْهُ جَدَّةُ الْغُلَامِ، فَنَازَعَتْهُ إِيَّاهُ حَتَّى أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه، فَقَالَ عمر: ابْنِي، وَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: ابْنِي. فَقَالَ أبو بكر رضي الله عنه: خَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ، فَمَا رَاجَعَهُ عمر الْكَلَامَ) .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا خَبَرٌ مَشْهُورٌ مِنْ وُجُوهٍ مُنْقَطِعَةٍ وَمُتَّصِلَةٍ، تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ، وَزَوْجَةُ عمر أُمُّ ابْنِهِ عاصم: هِيَ جميلة ابنة عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري.
قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عمر كَانَ مَذْهَبُهُ فِي ذَلِكَ خِلَافَ أبي بكر، وَلَكِنَّهُ سَلَّمَ لِلْقَضَاءِ مِمَّنْ لَهُ الْحُكْمُ وَالْإِمْضَاءُ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِي خِلَافَتِهِ يَقْضِي بِهِ وَيُفْتِي، وَلَمْ يُخَالِفْ أبا بكر فِي شَيْءٍ مِنْهُ مَا دَامَ الصَّبِيُّ صَغِيرًا لَا يُمَيِّزُ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَذَكَرَ عبد الرزاق، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:(طَلَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ امْرَأَتَهُ الْأَنْصَارِيَّةَ أُمَّ ابْنِهِ عاصم، فَلَقِيَهَا تَحْمِلُهُ بِمُحَسِّرِ، وَقَدْ فُطِمَ وَمَشَى، فَأَخَذَ بِيَدِهِ لِيَنْتَزِعَهُ مِنْهَا، وَنَازَعَهَا إِيَّاهُ حَتَّى أَوْجَعَ الْغُلَامَ وَبَكَى، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِابْنِي مِنْكِ، فَاخْتَصَمَا إِلَى أبي بكر، فَقَضَى لَهَا بِهِ وَقَالَ: رِيحُهَا وَفِرَاشُهَا وَحِجْرُهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْكَ حَتَّى يَشِبَّ وَيَخْتَارَ لِنَفْسِهِ) . وَمُحَسِّرٌ: سُوقٌ بَيْنَ قُبَاءَ وَالْمَدِينَةِ.
وَذُكِرَ عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عاصم، عَنْ عكرمة قَالَ:(خَاصَمَتِ امْرَأَةُ عمر عمر إِلَى أبي بكر رضي الله عنه، وَكَانَ طَلَّقَهَا، فَقَالَ أبو بكر رضي الله عنه: الْأُمُّ أَعْطَفُ، وَأَلْطَفُ، وَأَرْحَمُ، وَأَحْنَى، وَأَرْأَفُ، هِيَ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ.)
وَذُكِرَ عَنْ معمر قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: إِنَّ أبا بكر قَضَى عَلَى عمر فِي ابْنِهِ مَعَ أُمِّهِ، وَقَالَ:(أَمُّهُ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ)
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ: هَلْ كَانَتِ الْمُنَازَعَةُ وَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُمِّ