الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَمَّا الشيخ أبو البركات، فَجَعَلَ الْخِلَافَ فِي الَّذِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا، كَالْخِلَافِ فِي الْآيِسَةِ، وَجَعَلَ فِيهَا الرِّوَايَاتِ الْأَرْبَعَ بَعْدَ غَالِبِ مُدَّةِ الْحَمْلِ تَسْوِيَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآيِسَةِ، فَقَالَ فِي (مُحَرَّرِهِ) : وَالْآيِسَةُ، وَالصَّغِيرَةُ بِمُضِيِّ شَهْرٍ. وَعَنْهُ: بِمُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. وَعَنْهُ: شَهْرَيْنِ، وَعَنْهُ: شَهْرٍ وَنِصْفٍ. وَإِنِ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ، فَبِذَلِكَ بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ.
وَطَرِيقَةُ الخرقي، والشيخ أبي محمد أَصَحُّ، وَهَذَا الَّذِي اخْتَرْنَاهُ مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِشَهْرٍ، هُوَ الَّذِي مَالَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ فِي (الْمُغْنِي) فَإِنَّهُ قَالَ: وَوَجْهُ اسْتِبْرَائِهَا بِشَهْرٍ، أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الشَّهْرَ مَكَانَ الْحَيْضَةِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتِ الشُّهُورُ بِاخْتِلَافِ الْحَيْضَاتِ، فَكَانَتْ عِدَّةُ الْحُرَّةِ الْآيِسَةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مَكَانَ الثَّلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَعِدَّةُ الْأَمَةِ شَهْرَيْنِ مَكَانَ الْقُرْءَيْنِ، وَلِلْأَمَةِ الْمُسْتَبْرَأَةِ الَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَشْهُرٍ، تِسْعَةٌ لِلْحَمْلِ، وَشَهْرٌ مَكَانَ الْحَيْضَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَكَانَ الْحَيْضَةِ هُنَا شَهْرٌ، كَمَا فِي حَقِّ مَنِ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا.
قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَجَدْتُمْ مَا دَلَّ عَلَى الْبَرَاءَةِ وَهُوَ تَرَبُّصُ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ.
قُلْنَا: وَهَاهُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْبَرَاءَةِ وَهُوَ الْإِيَاسُ، فَاسْتَوَيَا.
[ذِكْرُ أَحْكَامِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبُيُوعِ]
[ذِكْرُ حُكْمِهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَحْرُمُ بَيْعُهُ]
ثَبَتَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) : مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: (لَا هُوَ حَرَامٌ) . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: (قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا
جَمَّلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» ) .
وَفِيهِمَا أَيْضًا: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «قَالَ بَلَغَ عمر رضي الله عنه أَنَّ سمرة بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ سمرة، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا» ) .
فَهَذَا مِنْ (مُسْنَدِ عمر) رضي الله عنه وَقَدْ رَوَاهُ البيهقي، وَالْحَاكِمُ فِي (مُسْتَدْرَكِهِ) فَجَعَلَاهُ مِنْ (مُسْنَدِ ابْنِ عَبَّاسٍ) ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ، وَلَفْظُهُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، يَعْنِي الْحَرَامَ، فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَتَبَسَّمَ، فَقَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ عز وجل حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ، فَبَاعُوهَا، وَأَكَلُوا أَثَمَانَهَا، إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ» ) وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، فَإِنَّ البيهقي رَوَاهُ عَنِ ابن عبدان، عَنِ الصفار، عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مسدد، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ بركة أبي الوليد، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَفِي (الصَّحِيحَيْنِ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه نَحْوُهُ، دُونَ قَوْلِهِ:( «إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ ثَمَنَهُ» ) .
فَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْجَوَامِعُ عَلَى تَحْرِيمِ ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ: مَشَارِبَ تُفْسِدُ الْعُقُولَ، وَمَطَاعِمَ تُفْسِدُ الطِّبَاعَ وَتُغَذِّي غِذَاءً خَبِيثًا؛ وَأَعْيَانٍ تُفْسِدُ الْأَدْيَانَ، وَتَدْعُو إِلَى الْفِتْنَةِ وَالشِّرْكِ.
فَصَانَ بِتَحْرِيمِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ الْعُقُولَ عَمَّا يُزِيلُهَا وَيُفْسِدُهَا، وَبِالثَّانِي: الْقُلُوبَ عَمَّا يُفْسِدُهَا مِنْ وُصُولِ أَثَرِ الْغِذَاءِ الْخَبِيثِ إِلَيْهَا، وَالْغَاذِي شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذِي، وَبِالثَّالِثِ: الْأَدْيَانَ عَمَّا وُضِعَ لِإِفْسَادِهَا.
فَتَضَمَّنَ هَذَا التَّحْرِيمُ صِيَانَةَ الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ وَالْأَدْيَانِ.
وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِي مَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلَامِهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - وَمَا يَدْخُلُ فِيهِ، وَمَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ، لِتَسْتَبِينَ عُمُومُ كَلِمَاتِهِ وَجَمْعُهَا، وَتَنَاوُلُهَا لِجَمِيعِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي شَمِلَهَا عُمُومُ كَلِمَاتِهِ، وَتَأْوِيلُهَا بِجَمِيعِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي شَمِلَهَا عُمُومُ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، وَهَذِهِ خَاصِّيَّةُ الْفَهْمِ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الَّتِي تَفَاوَتَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، وَيُؤْتِيهِ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ.
فَأَمَّا تَحْرِيمُ بَيْعِ الْخَمْرِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ تَحْرِيمُ بَيْعِ كُلِّ مُسْكِرٍ، مَائِعًا كَانَ، أَوْ جَامِدًا، عَصِيرًا، أَوْ مَطْبُوخًا، فَيَدْخُلُ فِيهِ عَصِيرُ الْعِنَبِ، وَخَمْرُ الزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ، وَالذُّرَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَاللُّقْمَةِ الْمَلْعُونَةِ، لُقْمَةِ الْفِسْقِ وَالْقَلْبِ الَّتِي تُحَرِّكُ الْقَلْبَ السَّاكِنَ إِلَى أَخْبَثِ الْأَمَاكِنِ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ خَمْرٌ بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ الَّذِي لَا مَطْعَنَ فِي سَنَدِهِ، وَلَا إِجْمَالَ فِي مَتْنِهِ، إِذْ صَحَّ عَنْهُ قَوْلُهُ:( «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» ) .
وَصَحَّ عَنْ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِخِطَابِهِ وَمُرَادِهِ: أَنَّ الْخَمْرَ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ فَدُخُولُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ تَحْتَ اسْمِ الْخَمْرِ كَدُخُولِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، تَحْتَ قَوْلِهِ: ( «لَا تَبِيعُوا
الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرَّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرَ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحَ بِالْمِلْحِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ» ) .
فَكَمَا لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ صِنْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ عَنْ تَنَاوُلِ اسْمِهِ لَهُ، فَهَكَذَا لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْمُسْكِرِ عَنِ اسْمِ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَحْذُورَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخْرَجَ مِنْ كَلَامِهِ مَا قُصِدَ دُخُولُهُ فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُشْرَعَ لِذَلِكَ النَّوْعِ الَّذِي أُخْرِجَ حُكْمٌ غَيْرُ حُكْمِهِ، فَيَكُونُ تَغْيِيرًا لِأَلْفَاظِ الشَّارِعِ وَمَعَانِيهِ، فَإِنَّهُ إِذَا سَمَّى ذَلِكَ النَّوْعَ بِغَيْرِ الِاسْمِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ الشَّارِعُ، أَزَالَ عَنْهُ حُكْمَ ذَلِكَ الْمُسَمَّى وَأَعْطَاهُ حُكْمًا آخَرَ.
وَلَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أُمَّتِهِ مَنْ يُبْتَلَى بِهَذَا، كَمَا قَالَ:( «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا» ) قَضَى قَضِيَّةً كُلِّيَّةً عَامَّةً لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا إِجْمَالٌ، وَلَا احْتِمَالٌ، بَلْ هِيَ شَافِيَةٌ كَافِيَةٌ، فَقَالَ:( «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» ) ، هَذَا وَلَوْ أَنَّ أبا عبيدة، وَالْخَلِيلَ وَأَضْرَابَهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ ذَكَرُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ هَكَذَا لَقَالُوا: قَدْ نَصَّ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ عَلَى