الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَمْ يَمْلِكْ إِبَانَتَهَا بِثَلَاثٍ مَجْمُوعَةٍ، إِذْ هُوَ خِلَافُ شَرْعِهِ.
وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْأُمَّةِ طَلَاقًا بَائِنًا قَطُّ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: طَلَاقُ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا.
وَالثَّانِي: الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ، وَمَا عَدَاهُ مِنَ الطَّلَاقِ، فَقَدْ جَعَلَ لِلزَّوْجِ فِيهِ الرَّجْعَةَ، هَذَا مُقْتَضَى الْكِتَابِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، مِنْهُمُ: الْإِمَامُ أحمد، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، قَالُوا: لَا يَمْلِكُ إِبَانَتَهَا بِدُونِ الثَّلَاثِ إِلَّا فِي الْخُلْعِ.
وَلِأَصْحَابِ مالك ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِيمَا إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً لَا رَجْعَةَ فِيهَا: أَحَدُهَا: أَنَّهَا ثَلَاثٌ، قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ حَقَّهُ مِنَ الرَّجْعَةِ، وَهِيَ لَا تَنْقَطِعُ إِلَّا بِثَلَاثٍ، فَجَاءَتِ الثَّلَاثُ ضَرُورَةً.
الثَّانِي: أَنَّهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، كَمَا قَالَ، هَذَا قَوْلُ ابن القاسم؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إِبَانَتَهَا بِطَلْقَةٍ بِعِوَضٍ، فَمَلَكَهَا بِدُونِهِ، وَالْخُلْعُ عِنْدَهُ طَلَاقٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَهَذَا قَوْلُ ابن وهب، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْقِيَاسُ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ.
[فَصْلٌ هَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا فِيمَنْ قَالَهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ]
فَصْلٌ وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ وُقُوعُ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَقَعُ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ، وَكَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَقَعُ بَلْ تُرَدُّ لِأَنَّهَا بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَالْبِدْعَةُ مَرْدُودَةٌ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:( «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» ) ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ حَكَاهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ، وَحُكِيَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ: هُوَ قَوْلُ الرَّافِضَةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَهَذَا ثَابِتٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ذَكَرَهُ أبو داود عَنْهُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ إِسْحَاقَ، يَقُولُ: خَالَفَ السُّنَّةَ فَيُرَدُّ إِلَى السُّنَّةِ، انْتَهَى، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُوسٍ، وعكرمة، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا، فَتَقَعُ الثَّلَاثُ بِالْمَدْخُولِ بِهَا، وَيَقَعُ بِغَيْرِهَا وَاحِدَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ " اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ ".
فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُوقِعْهَا جُمْلَةً، فَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ طَلَاقُ بِدْعَةٍ مُحَرَّمٌ، وَالْبِدْعَةُ مَرْدُودَةٌ، وَقَدِ اعْتَرَفَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بِدْعَةً مُحَرَّمَةً، لَوَجَبَ أَنْ تُرَدَّ وَتُبْطَلَ، وَلَكِنَّهُ اخْتَارَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيَّ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ جَائِزٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَسَتَأْتِي حُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ.
وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهَا وَاحِدَةً، فَاحْتَجَّ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ، فَأَمَّا النَّصُّ، فَمَا رَوَاهُ معمر وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابن طاووس، عَنْ أَبِيهِ، ( «أَنَّ أبا الصهباء قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عمر؟ قَالَ: نَعَمْ» ) . رَوَاهُ مسلم فِي " صَحِيحِهِ ".
وَفِي لَفْظٍ: ( «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عمر تُرَدُّ إِلَى وَاحِدَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ» ) .
وَقَالَ أبو داود: حَدَّثَنَا أحمد بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عبد الرزاق، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عكرمة، (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «طَلَّقَ عبد يزيد - أبو ركانة وَإِخْوَتِهِ - أم ركانة، وَنَكَحَ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ، فَجَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: مَا يُغْنِي عَنِّي إِلَّا كَمَا تُغْنِي هَذِهِ الشَّعْرَةُ، لِشَعْرَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ رَأْسِهَا، فَفَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَأَخَذَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَمِيَّةٌ، فَدَعَا بركانة وَإِخْوَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لِجُلَسَائِهِ:" أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ فُلَانًا يُشْبِهُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا مِنْ عبد يزيد، وَفُلَانًا مِنْهُ كَذَا وَكَذَا "؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد:" طَلِّقْهَا "، فَفَعَلَ ثُمَّ قَالَ:" رَاجِعِ امْرَأَتَكَ أم ركانة وَإِخْوَتِهِ "، فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " قَدْ عَلِمْتُ
رَاجِعْهَا " وَتَلَا: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] » ) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سعد بن إبراهيم، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ محمد بن إسحاق، قَالَ: حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، ( «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: طَلَّقَ ركانة بن عبد يزيد أَخُو بَنِي الْمُطَّلِبِ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا، قَالَ: فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كَيْفَ طَلَّقْتَهَا "، فَقَالَ: طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ: " فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَإِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ فَارْجِعْهَا إِنْ شِئْتَ "؟ قَالَ: فَرَاجَعَهَا» ) . فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى أَنَّمَا الطَّلَاقُ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ.
قَالُوا: وَأَمَّا الْقِيَاسُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ مُحَرَّمٌ وَبِدْعَةٌ، وَالْبِدْعَةُ مَرْدُودَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: وَسَائِرُ مَا تَقَدَّمَ فِي بَيَانِ التَّحْرِيمِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهَا جُمْلَةً. قَالُوا: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا إِلَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6][النُّورِ: 6]، وَقَوْلُهُ:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8][النُّورِ: 8]، قَالُوا: وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُعْتَبَرُ لَهُ التَّكْرَارُ مِنْ حَلِفٍ أَوْ إِقْرَارٍ أَوْ شَهَادَةٍ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:( «تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» ) .
فَلَوْ قَالُوا: نَحْلِفُ بِاللَّهِ خَمْسِينَ يَمِينًا: إِنَّ فُلَانًا قَتَلَهُ، كَانَتْ يَمِينًا وَاحِدَةً. قَالُوا: وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالزِّنَى، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالَ لِمَاعِزٍ: إِنْ أَقْرَرْتَ أَرْبَعًا، رَجَمَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهَذَا لَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَرْبَعُ فِيهِ مَجْمُوعَةً بِفَمٍ وَاحِدٍ.
وَأَمَّا الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا، فَلَهُمْ حُجَّتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: مَا رَوَاهُ أبو داود بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، ( «عَنِ طَاوُوسٍ، أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: أبو الصهباء كَانَ كَثِيرَ السُّؤَالِ لِابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ لَهُ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عمر؟ فَلَمَّا رَأَى عمر النَّاسَ قَدْ تَتَايَعُوا فِيهَا، قَالَ: أَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ» ) .
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا تَبِينُ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، فَيُصَادِفُهَا ذِكْرُ الثَّلَاثِ، وَهِيَ بَائِنٌ، فَتَلْغُو، وَرَأَى هَؤُلَاءِ أَنَّ إِلْزَامَ عمر بِالثَّلَاثِ هُوَ فِي حَقِّ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَحَدِيثُ أبي الصهباء فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا. قَالُوا: فَفِي هَذَا التَّفْرِيقِ مُوَافَقَةُ الْمَنْقُولِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَمُوَافَقَةُ الْقِيَاسِ، وَقَالَ بِكُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى، كَمَا حَكَاهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ، وَلَكِنْ عَدَمُ الْوُقُوعِ جُمْلَةً هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِيَّةِ، وَحَكَوْهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ.
قَالَ الْمُوقِعُونَ لِلثَّلَاثِ: الْكَلَامُ مَعَكُمْ فِي مَقَامَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَحْرِيمُ جَمْعِ الثَّلَاثِ. وَالثَّانِي: وُقُوعُهَا جُمْلَةً وَلَوْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً، وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ مَعَكُمْ فِي الْمَقَامَيْنِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ:
فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: إِنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ سُنَّةٌ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230][الْبَقَرَةِ: 236] ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الثَّلَاثُ مَجْمُوعَةً، أَوْ مُفَرَّقَةً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ، كَمَا لَا نَجْمَعُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ. وَقَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237][الْبَقَرَةِ: 227]، وَلَمْ يُفَرِّقْ وَقَالَ:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236] الْآيَةَ، وَلَمْ يُفَرِّقْ وَقَالَ:
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241][الْبَقَرَةِ: 241]، وَقَالَ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49][الْأَحْزَابِ: 49]، وَلَمْ يُفَرِّقْ. قَالُوا: وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ "، ( «أَنَّ عويمرا العجلاني طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِطَلَاقِهَا» ) . قَالُوا: فَلَوْ كَانَ جَمْعُ الثَّلَاثِ مَعْصِيَةً لَمَا أَقَرَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَخْلُو طَلَاقُهَا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَعَ وَهِيَ امْرَأَتُهُ، أَوْ حِينَ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِاللِّعَانِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَالْحُجَّةُ مِنْهُ ظَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا، وَهُوَ يَظُنُّهَا امْرَأَتَهُ، فَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَبَيَّنَهَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَتْ قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عائشة أم المؤمنين، ( «أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَتْ، فَطُلِّقَتْ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَحِلُّ لِلْأَوَّلِ؟ قَالَ: " لَا حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الْأَوَّلُ» ) ، فَلَمْ يُنْكِرْ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ جَمْعِ الثَّلَاثِ، وَعَلَى وُقُوعِهَا، إِذْ لَوْ لَمْ تَقَعْ، لَمْ يُوَقِّفْ رُجُوعَهَا إِلَى الْأَوَّلِ عَلَى ذَوْقِ الثَّانِي عُسَيْلَتَهَا.
قَالُوا: وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ( «أَنَّ فاطمة بنت قيس أَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا أبا حفص بن المغيرة المخزومي طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى الْيَمَنِ، فَانْطَلَقَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي نَفَرٍ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ ميمونة أم المؤمنين، فَقَالُوا: إِنَّ أبا حفص طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَهَلْ لَهَا مِنْ نَفَقَةٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ» ) .
وَفِي " صَحِيحِ مسلم " فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: ( «قَالَتْ فاطمة، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " كَمْ طَلَّقَكِ "؟ ، قُلْتُ: ثَلَاثًا، فَقَالَ: " صَدَقَ، لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ» ) .
وَفِي لَفْظٍ لَهُ: ( «قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلَاثًا، وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيَّ» ) .
وَفِي لَفْظٍ لَهُ: عَنْهَا ( «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا: " لَيْسَ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةٌ» ) .
قَالُوا: وَقَدْ رَوَى عبد الرزاق فِي " مُصَنَّفِهِ " عَنْ يحيى بن العلاء، عَنْ عبيد الله بن الوليد الوصافي، عَنْ إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت، ( «عَنْ داود بن عبادة بن الصامت، قَالَ: طَلَّقَ جَدِّي امْرَأَةً لَهُ أَلْفَ تَطْلِيقَةٍ، فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " مَا اتَّقَى اللَّهَ جَدُّكَ، أَمَّا ثَلَاثٌ فَلَهُ، وَأَمَّا تِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ فَعُدْوَانٌ وَظُلْمٌ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ» ) .
وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ صدقة بن أبي عمران، (عَنْ إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «طَلَّقَ بَعْضُ آبَائِي امْرَأَتَهُ، فَانْطَلَقَ بَنُوهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَبَانَا طَلَّقَ أُمَّنَا أَلْفًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ مَخْرَجٍ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَبَاكُمْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ، فَيَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا، بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثٍ
عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ، وَتِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِثْمٌ فِي عُنُقِهِ» ) .
قَالُوا: وَرَوَى محمد بن شاذان، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ شعيب بن زريق، أَنَّ عَطَاءَ الْخُرَاسَانِيَّ حَدَّثَهُمْ عَنِ الحسن، قَالَ:( «حَدَّثَنَا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُتْبِعَهَا بِطَلْقَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ عِنْدَ الْقُرْأَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " يَا ابْنَ عُمَرَ! مَا هَكَذَا أَمَرَكَ اللَّهُ، أَخْطَأْتَ السُّنَّةَ» ".. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ، «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ كُنْتُ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا، أَكَانَ لِي أَنْ أَجْمَعَهَا، قَالَ: " لَا، كَانَتْ تَبِينُ وَتَكُونُ مَعْصِيَةً» ) .
قَالُوا: وَقَدْ رَوَى أبو داود فِي " سُنَنِهِ ": (عَنْ نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة، «أَنَّ ركانة بن عبد يزيد طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سهيمة الْبَتَّةَ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً؟ " فَقَالَ ركانة: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَطَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ فِي زَمَنِ عمر، وَالثَّالِثَةَ فِي زَمَنِ عثمان» ) .
وَفِي " جَامِعِ الترمذي ": (عَنْ عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " أَرَدْتَ بِهَا؟ قَالَ: وَاحِدَةً، قَالَ: " آللَّهِ "، قَالَ: آللَّهِ، قَالَ: " هُوَ عَلَى مَا أَرَدْتَ» )، قَالَ الترمذي: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ - عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ؟ فَقَالَ فِيهِ اضْطِرَابٌ.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَحْلَفَهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَتَّةِ وَاحِدَةً، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِهَا أَكْثَرَ، لَوَقَعَ مَا أَرَادَهُ، وَلَوْ لَمْ يَفْتَرِقِ الْحَالُ لَمْ يُحَلِّفْهُ.
قَالُوا: وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ بَعْضِ بَنِي أبي رافع، عَنْ عكرمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا. قَالَ أبو داود: لِأَنَّهُمْ وَلَدُ الرَّجُلِ، وَأَهْلُهُ أَعْلَمُ بِهِ أَنَّ ركانة إِنَّمَا طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ.
قَالُوا: وَابْنُ جُرَيْجٍ إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ بَعْضِ بَنِي أبي رافع. فَإِنْ كَانَ عبيد الله فَهُوَ ثِقَةٌ مَعْرُوفٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ مِنْ إِخْوَتِهِ، فَمَجْهُولُ الْعَدَالَةِ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ.
قَالُوا: وَأَمَّا طَرِيقُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَفِيهَا ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ حَكَى الخطابي أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ كَانَ يُضَعِّفُ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ كُلَّهَا.
قَالُوا: وَأَصَحُّ مَا مَعَكُمْ حَدِيثُ أبي الصهباء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ قَالَ البيهقي: هَذَا الْحَدِيثُ أَحَدُ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ ومسلم، فَأَخْرَجَهُ مسلم وَتَرَكَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَظُنُّهُ تَرَكَهُ لِمُخَالَفَتِهِ سَائِرَ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ سَاقَ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ، ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، ومجاهد، وعكرمة، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، ومالك بن الحارث، ومحمد بن إياس بن البكير - قَالَ: وَرُوِّينَاهُ عَنْ معاوية بن أبي عياش الأنصاري - كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ أَجَازَ الثَّلَاثَ وَأَمْضَاهُنَّ.
وَقَالَ ابن المنذر: فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُظَنَّ بِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَحْفَظُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا ثُمَّ يُفْتِي بِخِلَافِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ تُحْسَبُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاحِدَةً، يَعْنِي أَنَّهُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَالَّذِي يُشْبِهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ شَيْئًا فَنُسِخَ. قَالَ البيهقي: وَرِوَايَةُ عكرمة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهَا تَأْكِيدٌ لِصِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ - يُرِيدُ البيهقي - مَا رَوَاهُ أبو داود وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ عكرمة فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] الْآيَةَ. .. وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَنُسِخَ ذَلِكَ، فَقَالَ:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] )
قَالُوا: فَيَحْتَمِلُ أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً مِنْ هَذَا الْوَقْتِ، بِمَعْنَى أَنَّ الزَّوْجَ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَهَا، كَمَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابن سريج: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِنَّمَا جَاءَ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، وَهُوَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ، كَأَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، وَكَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَهْدِ أبي بكر رضي الله عنه النَّاسُ عَلَى صِدْقِهِمْ وَسَلَامَتِهِمْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الْخِبُّ وَالْخِدَاعُ، فَكَانُوا يُصَدَّقُونَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ التَّأْكِيدَ، وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ الثَّلَاثَ، فَلَمَّا رَأَى عمر رضي الله عنه فِي زَمَانِهِ أُمُورًا ظَهَرَتْ، وَأَحْوَالًا تَغَيَّرَتْ، مَنَعَ مِنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى التَّكْرَارِ، وَأَلْزَمَهُمُ الثَّلَاثَ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ النَّاسَ كَانَتْ عَادَتُهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِيقَاعَ الْوَاحِدَةِ، ثُمَّ يَدَعُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، ثُمَّ اعْتَادُوا الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ جُمْلَةً، وَتَتَابَعُوا فِيهِ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا: كَانَ الطَّلَاقُ الَّذِي يُوقِعُهُ الْمُطَلِّقُ الْآنَ ثَلَاثًا يُوقِعُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وَاحِدَةً، فَهُوَ إِخْبَارٌ عَنِ الْوَاقِعِ، لَا عَنِ الْمَشْرُوعِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْعَلُ الثَّلَاثَ وَاحِدَةً، وَلَا أَنَّهُ أُعْلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَّ عَلَيْهِ، وَلَا حُجَّةَ إِلَّا فِيمَا قَالَهُ أَوْ فَعَلَهُ، أَوْ عَلِمَ بِهِ فَأَقَرَّ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْلَمُ صِحَّةُ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي حَدِيثِ أبي الصهباء.
قَالُوا: وَإِذَا اخْتَلَفَتْ عَلَيْنَا الْأَحَادِيثُ، نَظَرْنَا إِلَى مَا عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ بِسُنَّتِهِ، فَنَظَرْنَا فَإِذَا الثَّابِتُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَنْهُ غَيْرُهُ مَا رَوَاهُ عبد الرزاق، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، (حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، أَنَّهُ رَفَعَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْفًا، فَقَالَ لَهُ عمر: أَطَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا كُنْتُ أَلْعَبُ، فَعَلَاهُ عمر بِالدِّرَّةِ، وَقَالَ: إِنَّمَا يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثٌ) .
وَرَوَى وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ:(جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي أَلْفًا، فَقَالَ لَهُ علي: بَانَتْ مِنْكَ بِثَلَاثٍ، وَاقْسِمْ سَائِرَهُنَّ بَيْنَ نِسَائِكَ) .
وَرَوَى وَكِيعٌ أَيْضًا، عَنْ جعفر بن برقان، عَنْ معاوية بن أبي يحيى، قَالَ:(جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَالَ: طَلَّقْتُ امْرَأَتِي أَلْفًا، فَقَالَ: بَانَتْ مِنْكَ بِثَلَاثٍ) .
وَرَوَى عبد الرزاق، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ:(قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: طَلَّقْتُ امْرَأَتِي أَلْفًا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثَلَاثٌ تُحَرِّمُهَا عَلَيْكَ، وَبَقِيَّتُهَا عَلَيْكَ وِزْرٌ، اتَّخَذْتَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا) .
وَرَوَى عبد الرزاق أَيْضًا، عَنْ معمر عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إبراهيم، عَنْ علقمة قَالَ:(جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي تِسْعًا وَتِسْعِينَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: ثَلَاثٌ تُبِينُهَا مِنْكَ، وَسَائِرُهُنَّ عُدْوَانٌ) .
وَذَكَرَ أبو داود فِي " سُنَنِهِ "، (عَنْ محمد بن إياس، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، سُئِلُوا عَنِ الْبِكْرِ يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا، فَكُلُّهُمْ قَالَ: لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) .
قَالُوا: فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَسْمَعُونَ قَدْ أَوْقَعُوا الثَّلَاثَ جُمْلَةً، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ إِلَّا عمر الْمُحَدَّثُ الْمُلْهَمُ وَحْدَهُ، لَكَفَى، فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِهِ تَغْيِيرُ مَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، فَيَجْعَلُهُ مُحَرَّمًا، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ فَرْجِ الْمَرْأَةِ عَلَى مَنْ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ، وَإِبَاحَتَهُ لِمَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عمر، لَمَا أَقَرَّهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوَافِقُوهُ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ حُجَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الثَّلَاثَ وَاحِدَةٌ لَمْ يُخَالِفْهَا. وَيُفْتِي بِغَيْرِهَا مُوَافَقَةً لعمر، وَقَدْ عُلِمَ مُخَالَفَتُهُ لَهُ فِي الْعَوْلِ، وَحَجْبِ الْأُمِّ بِالِاثْنَيْنِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَالُوا: وَنَحْنُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَبَعٌ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُمْ أَعْلَمُ بِسُنَّتِهِ وَشَرْعِهِ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَقِرًّا مِنْ شَرِيعَتِهِ أَنَّ الثَّلَاثَ وَاحِدَةٌ وَتُوُفِّيَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ، وَيَعْلَمُهُ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يُحَرِّمُوا الصَّوَابَ فِيهِ، وَيُوَفَّقُ لَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَيَرْوِي حَبْرُ الْأُمَّةِ وَفَقِيهُهَا خَبَرَ كَوْنِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً وَيُخَالِفُهُ.
قَالَ الْمَانِعُونَ مِنْ وُقُوعِ الثَّلَاثِ: التَّحَاكُمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا إِلَى مَنْ أَقْسَمَ اللَّهُ سبحانه وتعالى أَصْدَقَ قَسَمٍ وَأَبَرَّهُ، أَنَّا لَا نُؤْمِنُ حَتَّى نُحَكِّمَهُ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَنَا، ثُمَّ نَرْضَى بِحُكْمِهِ، وَلَا يَلْحَقَنَا فِيهِ حَرَجٌ، وَنُسَلِّمَ لَهُ تَسْلِيمًا لَا إِلَى غَيْرِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تُجْمِعَ أُمَّتُهُ إِجْمَاعًا مُتَيَقَّنًا لَا نَشُكُّ فِيهِ عَلَى حُكْمٍ، فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ، وَيَأْبَى اللَّهُ أَنْ تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى خِلَافِ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ عَنْهُ أَبَدًا، وَنَحْنُ قَدْ أَوَجَدْنَاكُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا تَثْبُتُ الْمَسْأَلَةُ بِهِ، بَلْ وَبِدُونِهِ، وَنَحْنُ نُنَاظِرُكُمْ فِيمَا طَعَنْتُمْ بِهِ فِي تِلْكَ الْأَدِلَّةِ، وَفِيمَا عَارَضْتُمُونَا بِهِ عَلَى أَنَّا لَا نَحْكُمُ عَلَى أَنْفُسِنَا إِلَّا نَصًّا عَنِ اللَّهِ، أَوْ نَصًّا ثَابِتًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ إِجْمَاعًا مُتَيَقَّنًا لَا شَكَّ فِيهِ، وَمَا عَدَا هَذَا فَعُرْضَةٌ لِنِزَاعٍ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ سَائِغَ الِاتِّبَاعِ لَا لَازِمَهُ، فَلْتَكُنْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ سَلَفًا لَنَا عِنْدَكُمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59][النِّسَاءِ: 59] ، فَقَدْ تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى رَدِّهَا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْبَتَّةَ، وَسَيَأْتِي أَنَّنَا أَحَقُّ بِالصَّحَابَةِ، وَأَسْعَدُ بِهِمْ فِيهَا، فَنَقُولُ:
أَمَّا مَنْعُكُمْ لِتَحْرِيمِ جَمْعِ الثَّلَاثِ، فَلَا رَيْبَ أَنَّهَا مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ، وَلَكِنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى التَّحْرِيمِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ.
أَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ، فَدَعْوَى غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، بَلْ بَاطِلَةٌ، وَغَايَةُ مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِ إِطْلَاقُ الْقُرْآنِ لِلَفْظِ الطَّلَاقِ، وَذَلِكَ لَا يَعُمُّ جَائِزَهُ وَمُحَرَّمَهُ، كَمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ طَلَاقُ الْحَائِضِ، وَطَلَاقُ الْمَوْطُوءَةِ فِي طُهْرِهَا، وَمَا مَثَلُكُمْ فِي ذَلِكَ إِلَّا كَمَثَلِ مَنْ عَارَضَ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ فِي تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ بِهَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ سَوَاءٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى جَوَازِ كُلِّ طَلَاقٍ حَتَّى تُحَمِّلُوهُ مَا لَا يُطِيقُهُ، وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَى أَحْكَامِ الطَّلَاقِ، وَالْمُبَيِّنُ عَنِ اللَّهِ عز وجل بَيَّنَ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّا أَسْعَدُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ كَمَا بَيَّنَّا فِي صَدْرِ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَشْرَعْ قَطُّ طَلَاقًا بَائِنًا بِغَيْرِ عِوَضٍ لِمَدْخُولٍ بِهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ آخِرَ الْعِدَدِ، وَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، وَغَايَةُ مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِ أَلْفَاظٌ مُطْلَقَةٌ قَيَّدَتْهَا السُّنَّةُ، وَبَيَّنَتْ شُرُوطَهَا وَأَحْكَامَهَا.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِأَنَّ الْمُلَاعِنَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا أَصَحَّهُ مِنْ حَدِيثٍ، وَمَا أَبْعَدَهُ مِنِ اسْتِدْلَالِكُمْ عَلَى جَوَازِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي نِكَاحٍ يُقْصَدُ بَقَاؤُهُ وَدَوَامُهُ، ثُمَّ الْمُسْتَدِلُّ بِهَذَا إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ: إِنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ عَقِيبَ لِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ، أَوْ عَقِيبَ لِعَانِهِمَا وَإِنْ لَمْ يُفَرِّقِ الْحَاكِمُ، كَمَا يَقُولُهُ أحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ حِينَئِذٍ لَغْوٌ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُوَقِّفُ الْفُرْقَةَ عَلَى تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ، لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَيْضًا لِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ لَمْ يَبْقَ سَبِيلٌ إِلَى بَقَائِهِ وَدَوَامِهِ، بَلْ هُوَ وَاجِبُ الْإِزَالَةِ، وَمُؤَبَّدُ التَّحْرِيمِ، فَالطَّلَاقُ الثَّلَاثُ مُؤَكِّدٌ لِمَقْصُودِ اللِّعَانِ، وَمُقَرِّرٌ لَهُ، فَإِنَّ غَايَتَهُ أَنْ يُحَرِّمَهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَفُرْقَةُ اللِّعَانِ تُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ عَلَى الْأَبَدِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نُفُوذِ الطَّلَاقِ فِي نِكَاحٍ قَدْ صَارَ مُسْتَحِقَّ التَّحْرِيمِ عَلَى التَّأْبِيدِ نُفُوذُهُ فِي نِكَاحٍ قَائِمٍ مَطْلُوبِ الْبَقَاءِ وَالدَّوَامِ، وَلِهَذَا لَوْ طَلَّقَهَا فِي هَذَا الْحَالِ وَهِيَ حَائِضٌ، أَوْ نُفَسَاءُ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا، لِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ مَطْلُوبُ الْإِزَالَةِ مُؤَبَّدُ التَّحْرِيمِ، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّكُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِتَقْرِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذَا الطَّلَاقِ الْمَذْكُورِ، وَلَا تَتَمَسَّكُونَ بِإِنْكَارِهِ وَغَضَبِهِ لِلطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مِنْ غَيْرِ الْمُلَاعِنِ، وَتَسْمِيَتُهُ لَعِبًا بِكِتَابِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَمْ بَيْنَ هَذَا الْإِقْرَارِ وَهَذَا الْإِنْكَارِ؟ وَنَحْنُ بِحَمْدِ اللَّهِ قَائِلُونَ بِالْأَمْرَيْنِ، مُقِرُّونَ لِمَا أَقَرَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنْكِرُونَ لِمَا أَنْكَرَهُ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ عائشة رضي الله عنها ( «أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ؟ قَالَ: " لَا حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ» ) ، فَهَذَا لَا نُنَازِعُكُمْ فِيهِ، نَعَمْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنِ اكْتَفَى بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الثَّانِي، وَلَكِنْ أَيْنَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ طَلَّقَ الثَّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ، بَلِ الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، وَقَالَ ثَلَاثًا إِلَّا مَنْ فَعَلَ، وَقَالَ: مَرَّةً بَعْدَ
مَرَّةٍ، هَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ فِي لُغَاتِ الْأُمَمِ عَرَبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، كَمَا يُقَالُ: قَذَفَهُ ثَلَاثًا، وَشَتَمَهُ ثَلَاثًا، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا.
قَالُوا: وَأَمَّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ فاطمة بنت قيس، فَمِنَ الْعَجَبِ الْعُجَابِ، فَإِنَّكُمْ خَالَفْتُمُوهُ فِيمَا هُوَ صَرِيحٌ فِيهِ لَا يَقْبَلُ تَأْوِيلًا صَحِيحًا، وَهُوَ سُقُوطُ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ لِلْبَائِنِ مَعَ صِحَّتِهِ وَصَرَاحَتِهِ، وَعَدَمِ مَا يُعَارِضُهُ مُقَاوِمًا لَهُ وَتَمَسَّكْتُمْ بِهِ فِيمَا هُوَ مُجْمَلٌ، بَلْ بَيَانُهُ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ مِمَّا يُبْطِلُ تَعَلُّقَكُمْ بِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي جَمْعِهَا، بَلْ كَمَا تَقَدَّمَ، كَيْفَ وَفِي " الصَّحِيحِ " فِي خَبَرِهَا نَفْسِهِ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ زَوْجَهَا أَرْسَلَ إِلَيْهَا بِتَطْلِيقَةٍ كَانَتْ بَقِيَتْ لَهَا مِنْ طَلَاقِهَا.
وَفِي لَفْظٍ فِي " الصَّحِيحِ ": أَنَّهُ طَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، وَهُوَ سَنَدٌ صَحِيحٌ مُتَّصِلٌ مِثْلُ الشَّمْسِ، فَكَيْفَ سَاغَ لَكُمْ تَرْكُهُ إِلَى التَّمَسُّكِ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ، وَهُوَ أَيْضًا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ كَمَا تَقَدَّمَ؟
قَالُوا: وَأَمَّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الَّذِي رَوَاهُ عبد الرزاق، فَخَبَرٌ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ؛ لِأَنَّ فِي طَرِيقِهِ يحيى بن العلاء، عَنْ عبيد الله بن الوليد الوصافي، عَنْ إبراهيم بن عبيد الله ضَعِيفٌ، عَنْ هَالِكٍ، عَنْ مَجْهُولٍ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ وَبُطْلَانِهِ، أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْآثَارِ صَحِيحِهَا وَلَا سَقِيمِهَا، وَلَا مُتَّصِلِهَا وَلَا مُنْقَطِعِهَا، أَنَّ وَالِدَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ، فَكَيْفَ بِجَدِّهِ، فَهَذَا مُحَالٌ بِلَا شَكٍّ، وَأَمَّا حَدِيثُ عبد الله بن عمر، فَأَصْلُهُ صَحِيحٌ بِلَا شَكٍّ، لَكِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَالْوَصْلَةَ الَّتِي فِيهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا أَكَانَتْ تَحِلُّ لِي؟ إِنَّمَا جَاءَتْ مِنْ رِوَايَةِ شعيب بن زريق، وهو الشامي، وَبَعْضُهُمْ يَقْلِبُهُ، فَيَقُولُ: زريق بن شعيب،
وَكَيْفَمَا كَانَ، فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَوْ صَحَّ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَوْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لَوْ سَلَّمْتُ ثَلَاثًا، أَوْ أَقْرَرْتُ ثَلَاثًا، أَوْ نَحْوَهُ مِمَّا لَا يُعْقَلُ جَمْعُهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ نافع بن عجير الَّذِي رَوَاهُ أبو داود، أَنَّ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ، فَأَحْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَرَادَ إِلَّا وَاحِدَةً، فَمِنَ الْعَجَبِ تَقْدِيمُ نافع بن عجير الْمَجْهُولِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ حَالُهُ الْبَتَّةَ، وَلَا يُدْرَى مَنْ هُوَ، وَلَا مَا هُوَ عَلَى ابْنِ جُرَيْجٍ، ومعمر، وعبد الله بن طاووس فِي قِصَّةِ أبي الصهباء، وَقَدْ شَهِدَ إِمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ بِأَنَّ فِيهِ اضْطِرَابًا، هَكَذَا قَالَ الترمذي فِي " الْجَامِعِ "، وَذَكَرَ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ. فَتَارَةً يَقُولُ: طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَتَارَةً يَقُولُ: وَاحِدَةً، وَتَارَةً يَقُولُ: الْبَتَّةَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَطُرُقُهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، وَضَعَّفَهُ أَيْضًا الْبُخَارِيُّ، حَكَاهُ المنذري عَنْهُ.
ثُمَّ كَيْفَ يُقَدَّمُ هَذَا الْحَدِيثُ الْمُضْطَرِبُ الْمَجْهُولُ رِوَايَةً عَلَى حَدِيثِ عبد الرزاق عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ لِجَهَالَةِ بَعْضِ بَنِي أبي رافع، هَذَا وَأَوْلَادُهُ تَابِعِيُّونَ، وَإِنْ كَانَ عبيد الله أَشْهَرَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِمْ مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَمَنْ يَقْبَلُ رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ، أَوْ يَقُولُ: رِوَايَةُ الْعَدْلِ عَنْهُ تَعْدِيلٌ لَهُ، فَهَذَا حُجَّةٌ عِنْدَهُ، فَأَمَّا أَنْ يُضَعِّفَهُ وَيُقَدِّمَ عَلَيْهِ رِوَايَةَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْجَهَالَةِ، أَوْ أَشَدُّ، فَكَلَّا، فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ تَتَسَاقَطَ رِوَايَتَا هَذَيْنِ الْمَجْهُولَيْنِ، وَيُعْدَلُ إِلَى غَيْرِهِمَا، وَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ، نَظَرْنَا فِي حَدِيثِ سعد بن إبراهيم، فَوَجَدْنَاهُ صَحِيحَ الْإِسْنَادِ، وَقَدْ زَالَتْ عِلَّةُ تَدْلِيسِ محمد بن إسحاق، بِقَوْلِهِ: حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ، وَقَدِ احْتَجَّ أحمد بِإِسْنَادِهِ فِي مَوَاضِعَ، وَقَدْ صَحَّحَ هُوَ وَغَيْرُهُ بِهَذَا