الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِالثَّلَاثِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا بَانَتْ بِالْوَاحِدَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي تَخْيِيرَهَا بَيْنَ نَفْسِهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، بَلْ تَمْلِيكَهَا أَمْرَهَا، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ تَمْلِيكِهَا الْإِبَانَةَ بِثَلَاثٍ أَوْ بِوَاحِدَةٍ تَنْقَضِي بِهَا عِدُّتُهَا، فَإِنْ أَرَادَ بِهَا أَحَدَ مُحْتَمَلَيْهِ، قُبِلَ قَوْلُهُ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ يَرِدُ عَلَيْهِمْ فِي " اخْتَارِي "، فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَخْتَارَ الْبَيْنُونَةَ بِثَلَاثٍ أَوْ بِوَاحِدَةٍ تَنْقَضِي بِهَا عِدَّتُهَا؛ بَلْ " أَمْرُكِ بِيَدِكِ " أَصْرَحُ فِي تَمْلِيكِ الثَّلَاثِ مِنِ " اخْتَارِي " لِأَنَّهُ مُضَافٌ وَمُضَافٌ إِلَيْهِ، فَيَعُمُّ جَمِيعَ أَمْرِهَا. بِخِلَافِ " اخْتَارِي "، فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ لَا عُمُومَ لَهُ، فَمِنْ أَيْنَ يُسْتَفَادُ مِنْهُ الثَّلَاثُ؟ وَهَذَا مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي اخْتَارِي: إِنَّهُ لَا تَمْلِكُ بِهِ الْمَرْأَةُ أَكْثَرَ مِنْ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، إِلَّا بِنِيَّةِ الزَّوْجِ، وَنَصَّ فِي " أَمْرُكِ بِيَدِكِ، وَطَلَاقُكِ بِيَدِكِ، وَوَكَّلْتُكِ فِي الطَّلَاقِ ": عَلَى أَنَّهَا تَمْلِكُ بِهِ الثَّلَاثَ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهَا لَا تَمْلِكُهَا إِلَّا بِنِيَّتِهِ.
[حُجَّةُ مَنْ جَعَلَهُ تَطْلِيقًا مُنَجَّزًا وحجة مَنْ جَعَلَهُ لَغْوًا]
وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ تَطْلِيقًا مُنَجَّزًا، فَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ قَوْلِهِ وَضَعْفُهُ.
وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ لَغْوًا، فَلَهُمْ مَأْخَذَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ بِيَدِ النِّسَاءِ، إِنَّمَا جَعَلَهُ بِيَدِ الرِّجَالِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ شَرْعُ اللَّهِ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ نَقْلَ الطَّلَاقِ إِلَى مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ إِلَيْهِ الطَّلَاقَ الْبَتَّةَ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ (أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِامْرَأَةٍ لَهُ إِنْ أَدْخَلْتِ هَذَا الْعِدْلَ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ فَأَمْرُ صَاحِبَتِكِ بِيَدِكِ، فَأَدْخَلَتْهُ، ثُمَّ قَالَتْ هِيَ طَالِقٌ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَأَبَانَهَا مِنْهُ، فَمَرُّوا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَأَخْبَرُوهُ، فَذَهَبَ بِهِمْ إِلَى عمر، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى جَعَلَ الرِّجَالَ قَوَّامِينَ عَلَى النِّسَاءِ، وَلَمْ يَجْعَلِ النِّسَاءَ قَوَّامَاتٍ عَلَى الرِّجَالِ، فَقَالَ لَهُ عمر فَمَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَاهَا امْرَأَتَهُ. قَالَ: وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ، فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً)
قُلْتُ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ جَعَلَهَا وَاحِدَةً بِقَوْلِ الزَّوْجِ، فَأَمْرُ صَاحِبَتِكِ بِيَدِكِ، وَيَكُونُ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَعَلَهَا وَاحِدَةً بِقَوْلِ ضَرَّتِهَا: هِيَ طَالِقٌ وَلَمْ يَجْعَلْ
لِلضَّرَّةِ إِبَانَتَهَا لِئَلَّا تَكُونَ هِيَ الْقَوَّامَةَ عَلَى الزَّوْجِ، فَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ لِمَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْفِرْقَةُ بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهَا.
وَقَالَ أبو عبيد: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ دَاوُدَ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ (أَنَّ رميثة الفارسية كَانَتْ تَحْتَ محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، فَمَلَّكَهَا أَمْرَهَا، فَقَالَتْ: أَنْتَ طَالِقٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: أَخْطَأَتْ، لَا طَلَاقَ لَهَا، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُطَلِّقُ)
وَهَذَا أَيْضًا لَا يَدُلُّ لِهَذِهِ الْفِرْقَةِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يُوقِعِ الطَّلَاقَ، لِأَنَّهَا أَضَافَتْهُ إِلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ وَهُوَ الزَّوْجُ، وَهُوَ لَمْ يَقُلْ أَنَا مِنْكِ طَالِقٌ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا رَوَاهُ عبد الرزاق، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أبو الزبير أَنَّ مجاهدا أَخْبَرَهُ أَنَّ (رَجُلًا جَاءَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَقَالَ: مَلَّكْتُ امْرَأَتِي أَمْرَهَا فَطَلَّقَتْنِي ثَلَاثًا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَطَّأَ اللَّهُ نَوْأَهَا، إِنَّمَا الطَّلَاقُ لَكَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ لَهَا عَلَيْكَ)
قَالَ الأثرم: (سَأَلْتُ أبا عبد الله عَنِ الرَّجُلِ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ؟ فَقَالَ: قَالَ عثمان وعلي رضي الله عنهما: الْقَضَاءُ مَا قَضَتْ، قُلْتُ: فَإِنْ قَالَتْ قَدْ طَلَّقْتُ نَفْسِي ثَلَاثًا، قَالَ الْقَضَاءُ مَا قَضَتْ. قُلْتُ: فَإِنْ قَالَتْ طَلَّقْتُكَ ثَلَاثًا، قَالَ: الْمَرْأَةُ لَا تُطَلِّقْ) وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ (ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: خَطَّأَ اللَّهُ نَوْأَهَا)
(وَرَوَاهُ عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ شعبة، عَنِ الحكم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي رَجُلٍ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ فِي يَدِهَا، فَقَالَتْ: قَدْ طَلَّقْتُكَ ثَلَاثًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَطَّأَ اللَّهُ نَوْأَهَا، أَفَلَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا) قَالَ أحمد: صَحَّفَ أبو مطر فَقَالَ: " خَطَّأَ اللَّهُ فُوهَا " وَلَكِنْ رَوَى عبد الرزاق، عَنِ (ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلْتُ عبد الله بن طاووس، كَيْفَ كَانَ أَبُوكَ يَقُولُ فِي رَجُلٍ مَلَّكَ امْرَأَتَهُ أَمْرَهَا، أَتَمْلِكُ أَنْ تُطَلِّقَ
نَفْسَهَا أَمْ لَا؟ قَالَ كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ إِلَى النِّسَاءِ طَلَاقٌ، فَقُلْتُ لَهُ فَكَيْفَ كَانَ أَبُوكَ يَقُولُ فِي رَجُلٍ مَلَّكَ رَجُلًا أَمْرَ امْرَأَتِهِ أَيَمْلِكُ الرَّجُلُ أَنْ يُطَلِّقَهَا؟ قَالَ: لَا)
فَهَذَا صَرِيحٌ مِنْ مَذْهَبِ طَاوُوسٍ، أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُ إِلَّا الزَّوْجُ، وَأَنَّ تَمْلِيكَ الزَّوْجَةِ أَمْرَهَا لَغْوٌ، وَكَذَلِكَ تَوْكِيلُهُ غَيْرَهُ فِي الطَّلَاقِ. قَالَ أبو محمد ابن حزم: وَهَذَا قَوْلُ أبي سليمان وَجَمِيعِ أَصْحَابِنَا.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ لِهَؤُلَاءِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا جَعَلَ أَمْرَ الطَّلَاقِ إِلَى الزَّوْجِ دُونَ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِنَّ السَّفَهُ، وَتَذْهَبُ بِهِنَّ الشَّهْوَةُ وَالْمَيْلُ إِلَى الرِّجَالِ كُلَّ مَذْهَبٍ، فَلَوْ جُعِلَ أَمْرُ الطَّلَاقِ إِلَيْهِنَّ لَمْ يَسْتَقِمْ لِلرِّجَالِ مَعَهُنَّ أَمْرٌ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ بِأَزْوَاجِهِنَّ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ بِأَيْدِيهِنَّ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْفِرَاقِ، وَجَعَلَهُ إِلَى الْأَزْوَاجِ.
فَلَوْ جَازَ لِلْأَزْوَاجِ نَقْلُ ذَلِكَ إِلَيْهِنَّ، لَنَاقَضَ حِكْمَةَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ وَنَظَرَهُ لِلْأَزْوَاجِ. قَالُوا: وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى التَّخْيِيرِ فَقَطْ، فَإِنِ اخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، كَمَا وَقَعَ، كُنَّ أَزْوَاجَهُ بِحَالِهِنَّ، وَإِنِ اخْتَرْنَ أَنْفُسَهُنَّ، مَتَّعَهُنَّ وَطَلَّقَهُنَّ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ السَّرَاحُ الْجَمِيلُ، لَا أَنَّ اخْتِيَارَهُنَّ لِأَنْفُسِهِنَّ يَكُونُ هُوَ نَفْسَ الطَّلَاقِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ كَمَا تَرَى.
قَالَ هَؤُلَاءِ: وَالْآثَارُ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ اخْتِلَافًا شَدِيدًا، فَصَحَّ عَنْ عمر وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فِي رَجُلٍ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا، أَنَّهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَصَحَّ عَنْ (عثمان رضي الله عنه، أَنَّ الْقَضَاءَ مَا قَضَتْ) وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَغَيْرُهُ عَنِ ابن الزبير. وَصَحَّ عَنْ (علي، وزيد، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، أَنَّهَا إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ)
وَصَحَّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهَا إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا، فَثَلَاثٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَرُوِيَ عَنِ (ابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَنْ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِ آخَرَ فَطَلَّقَهَا، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ)
قَالَ أبو محمد ابن حزم: وَقَدْ تَقَصَّيْنَا مَنْ رَوَيْنَا عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، فَلَمْ يَكُونُوا بَيْنَ مَنْ صَحَّ عَنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ إِلَّا سَبْعَةً، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، وَلَيْسَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ بَعْضٍ، وَلَا أَثَرَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ النَّسَائِيِّ، أَخْبَرَنَا نصر بن علي الجهضمي، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ: هَلْ عَلِمْتَ أَحَدًا قَالَ فِي " أَمْرُكِ بِيَدِكِ ": إِنَّهَا ثَلَاثٌ غَيْرَ الحسن؟ قَالَ: لَا، اللَّهُمَّ غُفْرًا، إِلَّا مَا حَدَّثَنِي بِهِ قتادة، عَنْ كثير مولى ابن سمرة، عَنْ أبي سلمة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ثَلَاثٌ. قَالَ أيوب: فَلَقِيتُ كثيرا مولى ابن سمرة، فَسَأَلْتُهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ فَرَجَعْتُ إِلَى قتادة فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ نَسِيَ. قَالَ أبو محمد: كثير مولى ابن سمرة مَجْهُولٌ، وَلَوْ كَانَ مَشْهُورًا بِالثِّقَةِ وَالْحِفْظِ لَمَا خَالَفْنَا هَذَا الْخَبَرَ وَقَدْ أَوْقَفَهُ بَعْضُ رُوَاتِهِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. انْتَهَى.
(وَقَالَ المروذي: سَأَلْتُ أبا عبد الله مَا تَقُولُ فِي امْرَأَةٍ خُيِّرَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا؟ قَالَ: قَالَ فِيهَا خَمْسَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّهَا وَاحِدَةٌ، وَلَهَا الرَّجْعَةُ، عمر وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وعائشة) ، وَذَكَرَ آخَرُ، قَالَ غَيْرُ المروذي هُوَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ.
قَالَ أبو محمد وَمَنْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَوِ اخْتَارَتِ الطَّلَاقَ، أَوِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا، أَوْ لَمْ تَخْتَرْ شَيْئًا، فَكُلُّ ذَلِكَ لَا شَيْءَ، وَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَا تَطْلُقُ بِذَلِكَ، وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَلَا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حُكْمٌ، وَلَوْ كَرَّرَ التَّخْيِيرَ وَكَرَّرَتْ هِيَ اخْتِيَارَ نَفْسِهَا، أَوِ اخْتِيَارَ الطَّلَاقِ أَلْفَ مَرَّةٍ، وَكَذَلِكَ إِنْ مَلَّكَهَا نَفْسَهَا، أَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا. وَلَا فَرْقَ.
وَلَا حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِذْ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَمْرُكِ بِيَدِكِ، أَوْ قَدْ مَلَّكْتُكِ أَمْرَكِ، أَوِ اخْتَارِي، يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا، أَوْ أَنَّ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا، أَوْ تَخْتَارَ طَلَاقًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْرُمَ عَلَى الرَّجُلِ فَرْجٌ أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم بِأَقْوَالٍ لَمْ يُوجِبْهَا اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
قَالُوا: وَاضْطِرَابُ أَقْوَالِ الْمُوقِعِينَ وَتَنَاقُضُهَا وَمُعَارَضَةُ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ أَصْلِهَا، وَلَوْ كَانَ الْأَصْلُ صَحِيحًا لَاطَّرَدَتْ فُرُوعُهُ، وَلَمْ تَتَنَاقَضْ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى طَرَفٍ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ.
فَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُجَرَّدِ التَّخْيِيرِ أَوْ لَا يَقَعُ حَتَّى تَخْتَارَ نَفْسَهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: تَقَدَّمَ حِكَايَتُهُمَا ثُمَّ اخْتَلَفَ الَّذِينَ لَا يُوقِعُونَهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ أَمْرُكِ بِيَدِكِ: هَلْ يَخْتَصُّ اخْتِيَارُهَا بِالْمَجْلِسِ، أَوْ يَكُونُ فِي يَدِهَا مَا لَمْ يَفْسَخْ أَوْ يَطَأْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ، وَهَذَا قَوْلُ أبي حنيفة، وَالشَّافِعِيِّ، ومالك، فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ فِي يَدِهَا أَبَدًا حَتَّى يَفْسَخَ أَوْ يَطَأَ، وَهَذَا قَوْلُ أحمد، وابن المنذر، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ مالك. ثُمَّ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: وَذَلِكَ مَا لَمْ تَطُلْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهَا تَرَكَتْهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَعَدَّى شَهْرَيْنِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، هَلْ عَلَيْهَا يَمِينٌ، أَنَّهَا تَرَكَتْ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا إِذَا رَجَعَ الزَّوْجُ فِيمَا جَعَلَ إِلَيْهَا، فَقَالَ أحمد، وإسحاق، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، ومجاهد، وعطاء: لَهُ ذَلِكَ، وَيَبْطُلُ خِيَارُهَا. وَقَالَ مالك، وأبو حنيفة، وَالثَّوْرِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ تَوْكِيلٌ، فَيَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ الرُّجُوعَ أَوْ تَمْلِيكٌ، فَلَا يَمْلِكُهُ، قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ التَّمْلِيكِ: وَلَا يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ. وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ تَمْلِيكٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَبُولُ، فَجَازَ الرُّجُوعُ فِيهِ كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ.
وَاخْتَلَفُوا: فِيمَا يَلْزَمُ مِنِ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا. فَقَالَ أحمد وَالشَّافِعِيُّ: وَاحِدَةٌ
رَجْعِيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهُ أبو عبيد، وإسحاق. وَعَنْ علي: وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: ثَلَاثٌ، وَهُوَ قَوْلُ الليث، وَقَالَ مالك: إِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا فَثَلَاثٌ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا قُبِلَ مِنْهُ دَعْوَى الْوَاحِدَةِ.
وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَفْتَقِرُ قَوْلُهُ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ إِلَى نِيَّةٍ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أحمد، وَالشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة: يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، وَقَالَ مالك: لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَفْتَقِرُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ إِلَى نِيَّةِ الْمَرْأَةِ إِذَا قَالَتْ: اخْتَرْتُ نَفْسِي، أَوْ فَسَخْتُ نِكَاحَكَ؟ فَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَفْتَقِرُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ إِلَى نِيَّتِهَا، إِذَا نَوَى الزَّوْجُ. وَقَالَ أحمد، وَالشَّافِعِيُّ: لَا بُدَّ مِنْ نِيَّتِهَا إِذَا اخْتَارَتْ بِالْكِنَايَةِ، ثُمَّ قَالَ أَصْحَابُ مالك: إِنْ قَالَتِ اخْتَرْتُ نَفْسِي، أَوْ قَبِلْتُ نَفْسِي، لَزِمَ الطَّلَاقُ، وَلَوْ قَالَتْ لَمْ أُرِدْهُ، وَإِنْ قَالَتْ: قَبِلْتُ أَمْرِي سُئِلَتْ عَمَّا أَرَادَتْ؟ فَإِنْ أَرَادَتِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا، وَإِنْ لَمْ تُرِدْهُ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا. ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا قَالَ لَهَا: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، وَقَالَ: قَصَدْتُ طَلْقَةً وَاحِدَةً، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَهُ أَنْ يُوقِعَ مَا شَاءَ. وَإِذَا قَالَ: اخْتَارِي، وَقَالَ: أَرَدْتُ وَاحِدَةً، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ.
ثُمَّ هَاهُنَا فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ مُضْطَرِبَةٌ غَايَةَ الِاضْطِرَابِ، لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ، وَالزَّوْجَةُ زَوْجَتُهُ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى زَوَالِ عِصْمَتِهِ عَنْهَا.
قَالُوا: وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ إِلَى النِّسَاءِ شَيْئًا مِنَ النِّكَاحِ، وَلَا مِنَ الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ إِلَى الرِّجَالِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الرِّجَالَ قَوَّامِينَ عَلَى النِّسَاءِ، إِنْ شَاءُوا أَمْسَكُوا، وَإِنْ شَاءُوا طَلَّقُوا، فَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَرْأَةَ قَوَّامَةً عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَتْ أَمْسَكَتْ، وَإِنْ شَاءَتْ طَلَّقَتْ. قَالُوا: وَلَوْ أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ لَمْ نَتَعَدَّ إِجْمَاعَهُمْ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا، فَطَلَبْنَا الْحُجَّةَ لِأَقْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِهَا، فَلَمْ نَجِدِ الْحُجَّةَ تَقُومُ إِلَّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَإِنْ
كَانَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ أَيْضًا، وَقَدْ أَبْطَلَ مَنِ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ، فَالنِّزَاعُ ثَابِتٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، كَمَا حَكَيْنَاهُ، وَالْحُجَّةُ لَا تَقُومُ بِالْخِلَافِ، فَهَذَا (ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، قَدْ قَالَا: إِنَّ تَمْلِيكَ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَمْرَهَا لَيْسَ بِشَيْءٍ)(وَابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِيمَنْ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِ آخَرَ فَطَلَّقَهَا: لَيْسَ بِشَيْءٍ)(وطاووس يَقُولُ فِيمَنْ مَلَّكَ امْرَأَتَهُ أَمْرَهَا: لَيْسَ إِلَى النِّسَاءِ طَلَاقٌ، وَيَقُولُ فِيمَنْ مَلَّكَ رَجُلًا أَمْرَ امْرَأَتِهِ: أَيَمْلِكُ الرَّجُلُ أَنْ يُطَلِّقَهَا؟ قَالَ: لَا)
قُلْتُ: أَمَّا الْمَنْقُولُ عَنْ طَاوُوسٍ فَصَحِيحٌ صَرِيحٌ، لَا مَطْعَنَ فِيهِ، سَنَدًا وَصَرَاحَةً. وَأَمَّا الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمُخْتَلِفٌ، فَنُقِلَ عَنْهُ مُوَافَقَةُ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ فِي الْوُقُوعِ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ أَمْرُكِ بِيَدِكِ، وَاخْتَارِي سَوَاءٌ، فِي قَوْلِ علي وَابْنِ مَسْعُودٍ وزيد، وَنُقِلَ عَنْهُ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَمْرُ فُلَانَةَ بِيَدِكِ، إِنْ أَدْخَلْتِ هَذَا الْعِدْلَ الْبَيْتَ فَفَعَلَتْ، أَنَّهَا امْرَأَتُهُ، وَلَمْ يُطَلِّقْهَا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وعثمان، فَإِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا أَضَافَتِ الْمَرْأَةُ الطَّلَاقَ إِلَى الزَّوْجِ، وَقَالَتْ: أَنْتِ طَالِقٌ.
وأحمد ومالك يَقُولَانِ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِمَا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، إِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا، أَوْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا، فَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلْغَاءُ التَّخْيِيرِ وَالتَّمْلِيكِ الْبَتَّةَ، إِلَّا هَذِهِ الرِّوَايَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهَا، وَالثَّابِتُ عَنِ الصَّحَابَةِ اعْتِبَارُ ذَلِكَ، وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بِهِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَا تَمْلِكُ بِهِ الْمَرْأَةُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا وَهِمَ أبو محمد فِي الْمَنْقُولِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وعثمان، وَلَكِنْ هَذَا مَذْهَبُ طَاوُوسٍ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عطاء مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَرَوَى عبد الرزاق عَنِ (ابْنِ جُرَيْجٍ، قُلْتُ لعطاء: رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ. قُلْتُ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا رَجُلًا أَنَّ أَمْرَهَا بِيَدِهَا يَوْمًا أَوْ سَاعَةً، قَالَ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا؟ مَا أَظُنُّ هَذَا
شَيْئًا. قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَمَلَّكَتْ عائشة حفصة حِينَ مَلَّكَهَا الْمُنْذِرُ أَمْرَهَا، قَالَ عطاء: لَا، إِنَّمَا عَرَضَتْ عَلَيْهَا أَتُطَلِّقُهَا أَمْ لَا، وَلَمْ تُمَلِّكْهَا أَمْرَهَا)
وَلَوْلَا هَيْبَةُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَا عَدَلْنَا عَنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَكِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُمُ الْقُدْوَةُ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ التَّخْيِيرِ، فَفِي ضِمْنِ اخْتِلَافِهِمُ اتَّفَاقُهُمْ عَلَى اعْتِبَارِ التَّخْيِيرِ، وَعَدَمِ إِلْغَائِهِ، وَلَا مَفْسَدَةَ فِي ذَلِكَ، وَالْمَفْسَدَةُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فِي كَوْنِ الطَّلَاقِ بِيَدِ الْمَرْأَةِ، إِنَّمَا تَكُونُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ بِيَدِهَا اسْتِقْلَالًا، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِهَا، فَقَدْ تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ لَهُ فِي تَفْوِيضِهَا إِلَى الْمَرْأَةِ، لِيَصِيرَ حَالُهُ مَعَهَا عَلَى بَيِّنَةٍ، إِنْ أَحَبَّتْهُ أَقَامَتْ مَعَهُ، وَإِنْ كَرِهَتْهُ فَارَقَتْهُ، فَهَذَا مَصْلَحَةٌ لَهُ وَلَهَا، وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَقْتَضِي تَغْيِيرَ شَرْعِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَوْكِيلِ الْمَرْأَةِ فِي طَلَاقِ نَفْسِهَا، وَتَوْكِيلِ الْأَجْنَبِيِّ، وَلَا مَعْنَى لِمَنْعِ تَوْكِيلِ الْأَجْنَبِيِّ فِي الطَّلَاقِ، كَمَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْحَكَمَيْنِ النَّظَرَ فِي حَالِ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ الشِّقَاقِ، إِنْ رَأَيَا التَّفْرِيقَ فَرَّقَا، وَإِنْ رَأَيَا الْجَمْعَ جَمَعَا، وَهُوَ طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ، إِمَّا بِرِضَاهُ إِنْ قِيلَ هُمَا وَكِيلَانِ، أَوْ بِغَيْرِ رِضَاهُ إِنْ قِيلَ هُمَا حَكَمَانِ، وَقَدْ جُعِلَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَى الزَّوْجِ فِي مَوَاضِعَ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْهُ، فَإِذَا وَكَّلَ الزَّوْجُ مَنْ يُطَلِّقُ عَنْهُ، أَوْ يُخَالِعُ، لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ اللَّهِ، وَلَا مُخَالَفَةٌ لِدِينِهِ، فَإِنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي يُطَلِّقُ، إِمَّا بِنَفْسِهِ، أَوْ بِوَكِيلِهِ، وَقَدْ يَكُونُ أَتَمَّ نَظَرًا لِلرَّجُلِ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَعْلَمَ بِمَصْلَحَتِهِ، فَيُفَوِّضُ إِلَيْهِ مَا هُوَ أَعْلَمُ بِوَجْهِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ مِنْهُ، وَإِذَا جَازَ التَّوْكِيلُ فِي الْعِتْقِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالْإِبْرَاءِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِهَا، وَإِثْبَاتِهَا وَاسْتِيفَائِهَا، وَالْمُخَاصَمَةِ فِيهَا، فَمَا الَّذِي حَرَّمَ التَّوْكِيلَ فِي الطَّلَاقِ؟ نَعَمِ الْوَكِيلُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِيمَا يَمْلِكُهُ مِنَ الطَّلَاقِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ، وَمَا يَحِلُّ لَهُ مِنْهُ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ، فَفِي