الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَعْذُرِ اللَّهُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَهُمَا سِيَّانِ فِي الْإِثْمِ.
قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَأَنَّ بَيْعَ ذَلِكَ حَرَامٌ وَإِنْ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ تَحْرِيمُ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي غَيْرِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهَا، كَالْوَقِيدِ وَإِطْعَامِ الصُّقُورِ وَالْبُزَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ نَصَّ مالك عَلَى جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ، وَعَلَى جَوَازِ عَمَلِ الصَّابُونِ مِنْهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ بَابَ الِانْتِفَاعِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الْبَيْعِ، فَلَيْسَ كُلُّ مَا حَرُمَ بَيْعُهُ حَرُمَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، بَلْ لَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا، فَلَا يُؤْخَذُ تَحْرِيمُ الِانْتِفَاعِ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ.
[فصل تَحْرِيمُ بَيْعِ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ الَّتِي تَحِلُّهَا الْحَيَاةُ وَتُفَارِقُهَا بِالْمَوْتِ وَحِلُّ بَيْعِ الشَّعْرِ وَالْوَبَرِ وَالصُّوفِ]
فَصْلٌ
وَيَدْخُلُ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ بَيْعُ أَجْزَائِهَا الَّتِي تَحِلُّهَا الْحَيَاةُ، وَتُفَارِقُهَا بِالْمَوْتِ، كَاللَّحْمِ وَالشَّحْمِ وَالْعَصَبِ، وَأَمَّا الشَّعْرُ وَالْوَبَرُ وَالصُّوفُ، فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَيْتَةِ، وَلَا تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ. وَكَذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ شُعُورَ الْمَيْتَةِ وَأَصْوَافَهَا وَأَوْبَارَهَا طَاهِرَةٌ إِذَا كَانَتْ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ، هَذَا مَذْهَبُ مالك وأبي حنيفة وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، والليث وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وداود، وابن المنذر، والمزني، وَمِنَ التَّابِعِينَ: الحسن، وَابْنِ سِيرِينَ، وَأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَانْفَرَدَ الشَّافِعِيُّ بِالْقَوْلِ بِنَجَاسَتِهَا، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ اسْمَ الْمَيْتَةِ يَتَنَاوَلُهَا كَمَا يَتَنَاوَلُ سَائِرَ أَجْزَائِهَا بِدَلِيلِ الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ، أَمَّا الْأَثَرُ، فَفِي (الْكَامِلِ) لِابْنِ عَدِيٍّ: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ: ( «ادْفِنُوا الْأَظْفَارَ، وَالدَّمَ وَالشَّعْرَ، فَإِنَّهَا مَيْتَةٌ» ) .
وَأَمَّا النَّظَرُ، فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ يَنْمُو بِنَمَائِهِ، فَيَنْجَسُ بِالْمَوْتِ كَسَائِرِ أَعْضَائِهِ، وَبِأَنَّهُ شَعْرٌ نَابِتٌ فِي مَحَلٍّ نَجِسٍ فَكَانَ نَجِسًا كَشَعْرِ الْخِنْزِيرِ، وَهَذَا لِأَنَّ ارْتِبَاطَهُ بِأَصْلِهِ خِلْقَةً يَقْتَضِي أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حُكْمُهُ تَبَعًا، فَإِنَّهُ مَحْسُوبٌ مِنْهُ عُرْفًا، وَالشَّارِعُ أَجْرَى الْأَحْكَامَ فِيهِ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ، فَأَوْجَبَ غَسْلَهُ فِي الطَّهَارَةِ، وَأَوْجَبَ الْجَزَاءَ يَأْخُذُهُ مِنَ الصَّيْدِ كَالْأَعْضَاءِ، وَأَلْحَقَهُ بِالْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ حِلًّا وَحُرْمَةً، وَكَذَلِكَ هَاهُنَا، وَبِأَنَّ الشَّارِعَ لَهُ تَشَوُّفٌ إِلَى إِصْلَاحِ الْأَمْوَالِ وَحِفْظِهَا وَصِيَانَتِهَا، وَعَدَمِ إِضَاعَتِهَا.
وَقَدْ قَالَ لَهُمْ فِي شَاةِ ميمونة: ( «هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا
فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ» ) . وَلَوْ كَانَ الشَّعْرُ طَاهِرًا لَكَانَ إِرْشَادُهُمْ إِلَى أَخْذِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ كُلْفَةً، وَأَسْهَلُ تَنَاوُلًا.
قَالَ الْمُطَهِّرُونَ لِلشُّعُورِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80][النَّحْلِ: 80] ، وَهَذَا يَعُمُّ أَحْيَاءَهَا وَأَمْوَاتَهَا، وَفِي (مُسْنَدِ أَحْمَدَ) : عَنْ عبد الرزاق، عَنْ معمر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ «مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ لميمونة مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: (أَلَا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا، قَالُوا: وَكَيْفَ وَهِيَ مَيْتَةٌ؟ قَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ لَحْمُهَا» ) . وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا فِي إِبَاحَةِ مَا سِوَى اللَّحْمِ، وَالشَّحْمُ وَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ وَالْأَلْيَةُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي اللَّحْمِ، كَمَا دَخَلَتْ فِي تَحْرِيمِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَلَا يُنْتَقَضُ هَذَا بِالْعَظْمِ وَالْقَرْنِ، وَالظُّفْرِ وَالْحَافِرِ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ طَهَارَةُ ذَلِكَ كَمَا سَنُقَرِّرُهُ عَقِيبَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ أُخِذَ حَالَ الْحَيَاةِ، لَكَانَ طَاهِرًا فَلَمْ يَنْجُسْ بِالْمَوْتِ، كَالْبَيْضِ وَعَكْسُهُ الْأَعْضَاءُ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْجُسْ بِجَزِّهِ فِي حَالِ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ بِالْإِجْمَاعِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ جُزْءًا مِنَ الْحَيَوَانِ، وَأَنَّهُ لَا رُوحَ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ، فَهُوَ مَيْتَةٌ» ) . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. وَلِأَنَّهُ لَا يَتَأَلَّمُ بِأَخْذِهِ، وَلَا يَحُسُّ بِمَسِّهِ، وَذَلِكَ دَلِيلُ عَدَمِ الْحَيَاةِ فِيهِ، وَأَمَّا النَّمَاءُ فَلَا يَدُلُّ عَلَى
الْحَيَاةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ الَّتِي يَتَنَجَّسُ الْحَيَوَانُ بِمُفَارَقَتِهَا، فَإِنَّ مُجَرَّدَ النَّمَاءِ لَوْ دَلَّ عَلَى الْحَيَاةِ، وَنَجِسَ الْمَحَلُّ بِمُفَارَقَةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، لَتَنَجَّسَ الزَّرْعُ بِيُبْسِهِ، لِمُفَارَقَةِ حَيَاةِ النُّمُوِّ وَالِاغْتِذَاءِ لَهُ.
قَالُوا: فَالْحَيَاةُ نَوْعَانِ: حَيَاةُ حِسٍّ وَحَرَكَةٍ، وَحَيَاةُ نُمُوٍّ وَاغْتِذَاءٍ، فَالْأُولَى: هِيَ الَّتِي يُؤَثِّرُ فَقْدُهَا فِي طَهَارَةِ الْحَيِّ دُونَ الثَّانِيَةِ.
قَالُوا: وَاللَّحْمُ إِنَّمَا يَنْجُسُ لِاحْتِقَانِ الرُّطُوبَاتِ وَالْفَضَلَاتِ الْخَبِيثَةِ فِيهِ، وَالشُّعُورُ وَالْأَصْوَافُ بَرِيئَةٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُنْتَقَضُ بِالْعِظَامِ وَالْأَظْفَارِ لِمَا سَنَذْكُرُهُ.
قَالُوا: وَالْأَصْلُ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ، وَإِنَّمَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا التَّنْجِيسُ بِاسْتِحَالَتِهَا، كَالرَّجِيعِ الْمُسْتَحِيلِ عَنِ الْغِذَاءِ، وَكَالْخَمْرِ الْمُسْتَحِيلِ عَنِ الْعَصِيرِ وَأَشْبَاهِهَا، وَالشُّعُورُ فِي حَالِ اسْتِحَالَتِهَا كَانَتْ طَاهِرَةً، ثُمَّ لَمْ يَعْرِضْ لَهَا مَا يُوجِبُ نَجَاسَتَهَا بِخِلَافِ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ، فَإِنَّهَا عَرَضَ لَهَا مَا يَقْتَضِي نَجَاسَتَهَا، وَهُوَ احْتِقَانُ الْفَضَلَاتِ الْخَبِيثَةِ.
قَالُوا: وَأَمَّا حَدِيثُ عبد الله بن عمر، فَفِي إِسْنَادِهِ عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: أَحَادِيثُهُ مُنْكَرَةٌ لَيْسَ مَحَلُّهُ عِنْدِي الصِّدْقَ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ: لَا يُسَاوِي فَلْسًا يُحَدِّثُ بِأَحَادِيثَ كَذِبٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الشَّاةِ الْمَيْتَةِ وَقَوْلُهُ: ( «أَلَا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا» )، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلشَّعْرِ فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَطْلَقَ الِانْتِفَاعَ بِالْإِهَابِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِزَالَةِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الشَّعْرِ، مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ شَعْرٍ، وَهُوَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُقَيِّدِ الْإِهَابَ الْمُنْتَفَعَ بِهِ بِوَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ فَرْوًا وَغَيْرَهُ مِمَّا لَا يَخْلُو مِنَ الشَّعْرِ.