الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيُخْرَجُ مِنْهُ بِأَيْسَرِ شَيْءٍ، فَلَا يَحْتَاجُ الْخُرُوجُ مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يُدْخَلُ فِيهِ بِالْعَزِيمَةِ، وَيُخْرَجُ مِنْهُ بِالشُّبْهَةِ، فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ حَتَّى يُقَاسَ عَلَيْهِ.
قَالُوا: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بِأَيْدِينَا إِلَّا قَوْلُ حَمَلَةِ الشَّرْعِ كُلِّهِمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا: طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، وَالطَّلَاقُ نَوْعَانِ، طَلَاقُ سُنَّةٍ، وَطَلَاقُ بِدْعَةٍ، (وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه الطَّلَاقُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهَانِ حَلَالٌ، وَوَجْهَانِ حَرَامٌ) ، فَهَذَا الْإِطْلَاقُ وَالتَّقْسِيمُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُمْ طَلَاقٌ حَقِيقَةً، وَشُمُولُ اسْمِ الطَّلَاقِ لَهُ كَشُمُولِهِ لِلطَّلَاقِ الْحَلَالِ، وَلَوْ كَانَ لَفْظًا مُجَرَّدًا لَغْوًا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَلَا قِيلَ: طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ إِذَا كَانَ لَغْوًا كَانَ وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ فِيهِ طَلَّقَ، وَلَا يُقَسَّمُ الطَّلَاقُ - وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ - إِلَيْهِ وَإِلَى الْوَاقِعِ، فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ اللَّاغِيَةَ الَّتِي لَيْسَ لَهَا مَعَانٍ ثَابِتَةٌ لَا تَكُونُ هِيَ وَمَعَانِيهَا قِسْمًا مِنَ الْحَقِيقَةِ الثَّابِتَةِ لَفْظًا، فَهَذَا أَقْصَى مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْمُوقِعُونَ، وَرُبَّمَا ادَّعَى بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالنِّزَاعِ.
[رَدُّ الْمَانِعِينَ عَلَى الْمُوقِعِينَ]
قَالَ الْمَانِعُونَ مِنَ الْوُقُوعِ: الْكَلَامُ مَعَكُمْ فِي ثَلَاثِ مَقَامَاتٍ بِهَا يَسْتَبِينُ الْحَقُّ فِي الْمَسْأَلَةِ.
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: بُطْلَانُ مَا زَعَمْتُمْ مِنَ الْإِجْمَاعِ، وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَى إِثْبَاتِهِ الْبَتَّةَ، بَلِ الْعِلْمُ بِانْتِفَائِهِ مَعْلُومٌ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنَّ فَتْوَى الْجُمْهُورِ بِالْقَوْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
الْمَقَامُ الثَّالِثُ: أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ نُصُوصِ الطَّلَاقِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي رَتَّبَ الشَّارِعُ عَلَيْهَا أَحْكَامَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ ثَبَتَتْ لَنَا هَذِهِ الْمَقَامَاتُ الثَّلَاثُ، كُنَّا أَسْعَدَ بِالصَّوَابِ مِنْكُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ.
فَنَقُولُ: أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حِكَايَةِ النِّزَاعِ مَا يُعْلَمُ مَعَهُ بُطْلَانُ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ، كَيْفَ، وَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ سَبِيلٌ إِلَى إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَتَنْقَطِعُ مَعَهُ الْمَعْذِرَةُ، وَتَحْرُمُ مَعَهُ الْمُخَالَفَةُ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ الَّذِي يُوجِبُ ذَلِكَ هُوَ الْإِجْمَاعُ الْقَطْعِيُّ الْمَعْلُومُ.
وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَأَوْجِدُونَا فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّ قَوْلَ الْجُمْهُورِ حُجَّةٌ مُضَافَةٌ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَإِجْمَاعِ أُمَّتِهِ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ مَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَإِلَى الْآنَ، وَاسْتَقْرَأَ أَحْوَالَهُمْ وَجَدَهُمْ مُجْمِعِينَ عَلَى تَسْوِيغِ خِلَافِ الْجُمْهُورِ، وَوَجَدَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَقْوَالًا عَدِيدَةً انْفَرَدَ بِهَا عَنِ الْجُمْهُورِ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ قَطُّ، وَلَكِنْ مُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ فَمَنْ شِئْتُمْ سَمَّيْتُمُوهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ تَتَبَّعُوا مَا لَهُ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي خَالَفَ فِيهَا الْجُمْهُورَ، وَلَوْ تَتَبَّعْنَا ذَلِكَ وَعَدَدْنَاهُ، لَطَالَ الْكِتَابُ بِهِ جِدًّا، وَنَحْنُ نُحِيلُكُمْ عَلَى الْكُتُبِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ وَاخْتِلَافِهِمْ، وَمَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِمَذَاهِبِهِمْ وَطَرَائِقِهِمْ، يَأْخُذُ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ، وَلَكِنْ هَذَا فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ، وَلَا تَدْفَعُهَا السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ، وَأَمَّا مَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ، فَإِنَّهُمْ كَالْمُتَّفِقِينَ عَلَى إِنْكَارِهِ وَرَدِّهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّالِثُ: وَهُوَ دَعْوَاكُمْ دُخُولَ الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ تَحْتَ نُصُوصِ الطَّلَاقِ، وَشُمُولَهَا لِلنَّوْعَيْنِ إِلَى آخِرِ كَلَامِكُمْ، فَنَسْأَلُكُمْ: مَا تَقُولُونَ فِيمَنِ ادَّعَى دُخُولَ أَنْوَاعِ الْبَيْعِ الْمُحَرَّمِ، وَالنِّكَاحِ الْمُحَرَّمِ تَحْتَ نُصُوصِ الْبَيْعِ
وَالنِّكَاحِ، وَقَالَ: شُمُولُ الِاسْمِ لِلصَّحِيحِ مِنْ ذَلِكَ وَالْفَاسِدِ سَوَاءٌ؟ بَلْ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ إِذَا ادَّعَى دُخُولَهَا تَحْتَ أَلْفَاظِ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْمُحَرَّمَةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا إِذَا ادَّعَى دُخُولَهَا تَحْتَ الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ، وَحَكَمَ لَهَا بِالصِّحَّةِ لِشُمُولِ الِاسْمِ لَهَا، هَلْ تَكُونُ دَعْوَاهُ صَحِيحَةً أَوْ بَاطِلَةً؟
فَإِنْ قُلْتُمْ: صَحِيحَةٌ وَلَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَى ذَلِكَ، كَانَ قَوْلًا مَعْلُومَ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ، وَإِنْ قُلْتُمْ: دَعْوَاهُ بَاطِلَةٌ، تَرَكْتُمْ قَوْلَكُمْ وَرَجَعْتُمْ إِلَى مَا قُلْنَاهُ، وَإِنْ قُلْتُمْ: تُقْبَلُ فِي مَوْضِعٍ، وَتُرَدُّ فِي مَوْضِعٍ، قِيلَ لَكُمْ: فَفَرِّقُوا بِفُرْقَانٍ صَحِيحٍ مُطَّرِدٍ مُنْعَكِسٍ، مَعَكُمْ بِهِ بُرْهَانٌ مِنَ اللَّهِ بَيْنَ مَا يَدْخُلُ مِنَ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ تَحْتَ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ، فَيَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ، وَبَيْنَ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَهَا، فَيَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْبُطْلَانِ، وَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِأَيْدِيكُمْ سِوَى الدَّعْوَى الَّتِي يُحْسِنُ كُلُّ أَحَدٍ مُقَابَلَتَهَا بِمِثْلِهَا، أَوِ الِاعْتِمَادِ عَلَى مَنْ يُحْتَجُّ لِقَوْلِهِ لَا بِقَوْلِهِ، وَإِذَا كُشِفَ الْغِطَاءُ عَمَّا قَرَّرْتُمُوهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ وُجِدَ عَيْنُ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَقَدْ جَعَلْتُمُوهُ مُقَدِّمَةً فِي الدَّلِيلِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الْمُصَادَرَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، فَهَلْ وَقَعَ النِّزَاعُ إِلَّا فِي دُخُولِ الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ تَحْتَ قَوْلِهِ:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241]، وَتَحْتَ قَوْلِهِ:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَهَلْ سَلَّمَ لَكُمْ مُنَازِعُوكُمْ قَطُّ ذَلِكَ حَتَّى تَجْعَلُوهُ مُقَدِّمَةً لِدَلِيلِكُمْ؟
قَالُوا: وَأَمَّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَهُوَ إِلَى أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَيْكُمْ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لَكُمْ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: صَرِيحُ قَوْلِهِ: ( «فَرَدَّهَا عَلَيَّ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا» )، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ صِحَّتِهِ. قَالُوا: فَهَذَا الصَّرِيحُ الصَّحِيحُ لَيْسَ بِأَيْدِيكُمْ مَا يُقَاوِمُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، بَلْ جَمِيعُ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ إِمَّا صَحِيحَةٌ غَيْرُ صَرِيحَةٍ، وَإِمَّا صَرِيحَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ كَمَا سَتَقِفُونَ عَلَيْهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَر رضي الله عنه بِإِسْنَادٍ كَالشَّمْسِ مِنْ
رِوَايَةِ عبيد الله، عَنْ نافع عَنْهُ، فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، قَالَ: لَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَرِيحًا فِي الِاعْتِدَادِ بِهِ، لَمَا عَدَلَ بِهِ إِلَى مُجَرَّدِ الرَّأْيِ وَقَوْلِهِ لِلسَّائِلِ: أَرَأَيْتَ؟
الرَّابِعُ: أَنَّ الْأَلْفَاظَ قَدِ اضْطَرَبَتْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ اضْطِرَابًا شَدِيدًا، وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ عَنْهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ نَصٌّ صَرِيحٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وُقُوعِ تِلْكَ الطَّلْقَةِ وَالِاعْتِدَادِ بِهَا، وَإِذَا تَعَارَضَتْ تِلْكَ الْأَلْفَاظُ، نَظَرْنَا إِلَى مَذْهَبِ ابْنِ عُمَرَ وَفَتْوَاهُ، فَوَجَدْنَاهُ صَرِيحًا فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ، وَوَجَدْنَا أَحَدَ أَلْفَاظِ حَدِيثِهِ صَرِيحًا فِي ذَلِكَ، فَقَدِ اجْتَمَعَ صَرِيحُ رِوَايَتِهِ وَفَتْوَاهُ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ مُضْطَرِبَةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه: وَمَا لِي لَا أَعْتَدُّ بِهَا، وَقَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ، فَغَايَةُ هَذَا أَنْ يَكُونَ رِوَايَةً صَرِيحَةً عَنْهُ بِالْوُقُوعِ، وَيَكُونَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ.
وَقَوْلُكُمْ: كَيْفَ يُفْتِي بِالْوُقُوعِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ رَدَّهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْتَدَّ عَلَيْهِ بِهَا؟ فَلَيْسَ هَذَا بِأَوَّلِ حَدِيثٍ خَالَفَهُ رَاوِيهِ، وَلَهُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي خَالَفَهَا رَاوِيهَا أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي تَقْدِيمِ رِوَايَةِ الصَّحَابِيِّ وَمَنْ بَعْدَهُ عَلَى رَأْيِهِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ حَدِيثَ بريرة، وَأَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ لَيْسَ بِطَلَاقِهَا، وَأَفْتَى بِخِلَافِهِ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِرِوَايَتِهِ، وَتَرَكُوا رَأْيَهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّ الرِّوَايَةَ مَعْصُومَةٌ عَنْ مَعْصُومٍ، وَالرَّأْيُ بِخِلَافِهَا، كَيْفَ وَأَصْرَحُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ مُوَافَقَتُهُ لِمَا رَوَاهُ مِنْ عَدَمِ الْوُقُوعِ عَلَى أَنَّ فِي هَذَا فِقْهًا دَقِيقًا إِنَّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ لَهُ غَوْرٌ عَلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَمَذَاهِبِهِمْ، وَفَهْمِهِمْ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاحْتِيَاطِهِمْ لِلْأُمَّةِ، >
وَلَعَلَّكَ تَرَاهُ قَرِيبًا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى حُكْمِهِ صلى الله عليه وسلم فِي إِيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ جُمْلَةً.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابن وهب عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فِي آخِرِهِ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَدَّمْنَا عَلَيْهَا شَيْئًا، وَلَصِرْنَا إِلَيْهَا بِأَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَلَكِنْ لَا نَدْرِي أَقَالَهَا ابن وهب مِنْ عِنْدِهِ أَمِ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، أَمْ نافع، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَا يُتَيَقَّنُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهِ، وَيَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِ، وَتُرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ، وَيُقَالُ: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالْوَهْمِ وَالِاحْتِمَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مِنْ قَوْلِ مَنْ دُونَ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه وَمُرَادُهُ بِهَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ إِنَّمَا طَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ ثَلَاثًا، أَيْ طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عطاء عَنْ نافع، أَنَّ تَطْلِيقَةَ عبد الله حُسِبَتْ عَلَيْهِ، فَهَذَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ نافع، وَلَا يُعْرَفُ مَنِ الَّذِي حَسَبَهَا، أَهُوَ عبد الله نَفْسُهُ، أَوْ أَبُوهُ عمر، أَوْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْوَهْمِ وَالْحُسْبَانِ، وَكَيْفَ يُعَارَضُ صَرِيحُ قَوْلِهِ: وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا بِهَذَا الْمُجْمَلِ؟ وَاللَّهُ يَشْهَدُ - وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا - أَنَّا لَوْ تَيَقَّنَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي حَسَبَهَا عَلَيْهِ، لَمْ نَتَعَدَّ ذَلِكَ، وَلَمْ نَذْهَبْ إِلَى سِوَاهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أنس: ( «مَنْ طَلَّقَ فِي بِدْعَةٍ أَلْزَمْنَاهُ بِدْعَتَهُ» ) ، فَحَدِيثٌ بَاطِلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّهُ حَدِيثٌ بَاطِلٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنَ الثِّقَاتِ مِنْ أَصْحَابِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ إسماعيل بن أمية الذَّارِعِ الْكَذَّابِ الَّذِي يُذْرِعُ وَيُفَصِّلُ، ثُمَّ الرَّاوِي لَهُ عَنْهُ عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْبَرْقَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ قَدِ اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَقَالَ
الدَّارَقُطْنِيُّ: يُخْطِئُ كَثِيرًا، وَمِثْلُ هَذَا إِذَا تَفَرَّدَ بِحَدِيثٍ لَمْ يَكُنْ حَدِيثُهُ حُجَّةً.
وَأَمَّا إِفْتَاءُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنهما بِالْوُقُوعِ، فَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ وَلَا يَصِحُّ أَبَدًا، فَإِنَّ أَثَرَ عثمان، فِيهِ كَذَّابٌ عَنْ مَجْهُولٍ لَا يُعْرَفُ عَيْنُهُ وَلَا حَالُهُ، فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابن سمعان، عَنْ رَجُلٍ، وَأَثَرُ زيد: فِيهِ مَجْهُولٌ عَنْ مَجْهُولٍ: قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ رَجُلٍ سَمَّاهُ عَنْ زيد، فَيَالَلَّهِ الْعَجَبَ، أَيْنَ هَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ عبيد الله حَافِظِ الْأُمَّةِ، عَنْ نافع عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُعْتَدُّ بِهَا. فَلَوْ كَانَ هَذَا الْأَثَرُ مِنْ قِبَلِكُمْ، لَصُلْتُمْ بِهِ وَجُلْتُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ تَحْرِيمَهُ لَا يَمْنَعُ تَرَتُّبَ أَثَرِهِ عَلَيْهِ، كَالظِّهَارِ، فَيُقَالُ أَوَّلًا: هَذَا قِيَاسٌ يَدْفَعُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ النَّصِّ، وَسَائِرُ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي هِيَ أَرْجَحُ مِنْهُ، ثُمَّ يُقَالُ ثَانِيًا: هَذَا مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ سَوَاءٌ مُعَارَضَةُ الْقَلْبِ بِأَنْ يُقَالَ: تَحْرِيمُهُ يَمْنَعُ تَرَتُّبَ أَثَرِهِ عَلَيْهِ كَالنِّكَاحِ، وَيُقَالُ ثَالِثًا: لَيْسَ لِلظِّهَارِ جِهَتَانِ: جِهَةُ حِلٍّ، وَجِهَةُ حُرْمَةٍ، بَلْ كُلُّهُ حَرَامٌ، فَإِنَّهُ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُوْرٌ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَسِمَ إِلَى حَلَالٍ جَائِزٍ، وَحَرَامٍ بَاطِلٍ، بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَذْفِ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ وَالرِّدَّةِ، فَإِذَا وُجِدَ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا مَعَ مَفْسَدَتِهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ: مِنْهُ حَلَالٌ صَحِيحٌ، وَحَرَامٌ بَاطِلٌ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ، فَالظِّهَارُ نَظِيرُ الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي إِذَا وَقَعَتْ قَارَنَتْهَا مَفَاسِدُهَا، فَتَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا أَحْكَامُهَا، وَإِلْحَاقُ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْعُقُودِ الْمُنْقَسِمَةِ إِلَى حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَصَحِيحٍ وَبَاطِلٍ - أَوْلَى.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ يُمَلَّكُ بِهِ الْبُضْعُ، وَالطَّلَاقُ عَقْدٌ يُخْرَجُ بِهِ، فَنَعَمْ. مِنْ أَيْنَ لَكُمْ بُرْهَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ فِي اعْتِبَارِ حُكْمِ أَحَدِهِمَا، وَالْإِلْزَامِ بِهِ وَتَنْفِيذِهِ، وَإِلْغَاءِ الْآخَرِ وَإِبْطَالِهِ؟
وَأَمَّا زَوَالُ مِلْكِهِ عَنِ الْعَيْنِ بِالْإِتْلَافِ الْمُحَرَّمِ، فَذَلِكَ مِلْكٌ قَدْ زَالَ حِسًّا،
وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَحَلٌّ. وَأَمَّا زَوَالُهُ بِالْإِقْرَارِ الْكَاذِبِ، فَأَبْعَدُ وَأَبْعَدُ، فَإِنَّا صَدَّقْنَاهُ ظَاهِرًا فِي إِقْرَارِهِ، وَأَزَلْنَا مِلْكَهُ بِالْإِقْرَارِ الْمُصَدَّقِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا.
وَأَمَّا زَوَالُ الْإِيمَانِ بِالْكَلَامِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ، فَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكُفْرِ حَلَالٌ وَحَرَامٌ.
وَأَمَّا طَلَاقُ الْهَازِلِ، فَإِنَّمَا وَقَعَ، لِأَنَّهُ صَادَفَ مَحَلًّا، وَهُوَ طُهْرٌ لَمْ يُجَامِعْ فِيهِ فَنَفَذَ، وَكَوْنُهُ هَزَلَ بِهِ إِرَادَةً مِنْهُ أَنْ لَا يَتَرَتَّبَ أَثَرُهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ إِلَيْهِ، بَلْ إِلَى الشَّارِعِ، فَهُوَ قَدْ أَتَى بِالسَّبَبِ التَّامِّ، وَأَرَادَ أَلَّا يَكُونَ سَبَبَهُ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَنْ طَلَّقَ فِي غَيْرِ زَمَنِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالسَّبَبِ الَّذِي نَصَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُفْضِيًا إِلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا أَتَى بِسَبَبٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَجَعَلَهُ هُوَ مُفْضِيًا إِلَى حُكْمِهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ النِّكَاحَ نِعْمَةٌ، فَلَا يَكُونُ سَبَبُهُ إِلَّا طَاعَةً بِخِلَافِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ إِزَالَةِ النِّعَمِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً، فَيُقَالُ: قَدْ يَكُونُ الطَّلَاقُ مِنْ أَكْبَرِ النِّعَمِ الَّتِي يَفُكُّ بِهَا الْمُطَلِّقُ الْغُلَّ مِنْ عُنُقِهِ، وَالْقَيْدَ مِنْ رِجْلِهِ، فَلَيْسَ كُلُّ طَلَاقٍ نِقْمَةً، بَلْ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ مَكَّنَهُمْ مِنَ الْمُفَارَقَةِ بِالطَّلَاقِ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ، وَالتَّخَلُّصَ مِمَّنْ لَا يُحِبُّهَا وَلَا يُلَائِمُهَا، فَلَمْ يُرَ لِلْمُتَحَابَّيْنِ مِثْلُ النِّكَاحِ، وَلَا لِلْمُتَبَاغِضَيْنِ مِثْلُ الطَّلَاقِ، ثُمَّ كَيْفَ يَكُونُ نِقْمَةً وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236][الْبَقَرَةِ: 236]، وَيَقُولُ:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1][الطَّلَاقِ: 1] ؟ .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ الْفُرُوجَ يُحْتَاطُ لَهَا، فَنَعَمْ، وَهَكَذَا قُلْنَا سَوَاءٌ، فَإِنَّا احْتَطْنَا وَأَبْقَيْنَا الزَّوْجَيْنِ عَلَى يَقِينِ النِّكَاحِ حَتَّى يَأْتِيَ مَا يُزِيلُهُ بِيَقِينٍ، فَإِذَا أَخْطَأْنَا فَخَطَؤُنَا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ أَصَبْنَا فَصَوَابُنَا فِي جِهَتَيْنِ، جِهَةِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَجِهَةِ الثَّانِي، وَأَنْتُمْ تَرْتَكِبُونَ أَمْرَيْنِ: تَحْرِيمَ الْفَرَجِ عَلَى مَنْ