الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَهْدَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَإِثْبَاتُ عِوَضٍ حَكَمَ الشَّارِعُ بِخُبْثِهِ، وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَأَجْرِ الْكَاهِنِ، وَإِنْ كَانَ عِوَضًا خَبِيثًا شَرْعًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ.
وَلَا يُقَالُ: فَأَجْرُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ، وَيُقْضَى لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْحِجَامَةِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ، وَتَجُوزُ، بَلْ يَجِبُ عَلَى مُسْتَأْجِرِهِ أَنْ يُوَفِّيَهُ أَجْرَهُ، فَأَيْنَ هَذَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ الْخَبِيثَةِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي عِوَضُهَا مِنْ جِنْسِهَا، وَحُكْمُهُ حُكْمُهَا، وَإِيجَابُ عِوَضٍ فِي مُقَابَلَةِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، كَإِيجَابِ عِوَضٍ فِي مُقَابَلَةِ اللِّوَاطِ، إِذِ الشَّارِعُ لَمْ يَجْعَلْ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الْفِعْلِ عِوَضًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَعَلَ فِي مُقَابَلَةِ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ عِوَضًا، وَهُوَ الْمَهْرُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ اللِّوَاطَةِ.
قُلْنَا: إِنَّمَا جَعَلَ فِي مُقَابَلَتِهِ عِوَضًا، إِذَا اسْتُوفِيَ بِعَقْدٍ أَوْ بِشُبْهَةِ عَقْدٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَضًا إِذَا اسْتُوفِيَ بِزِنًى مَحْضٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَلَمْ يُعْرَفْ فِي الْإِسْلَامِ قَطُّ أَنَّ زَانِيًا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْمَهْرِ لِلْمَزْنِيِّ بِهَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَرَوْنَ هَذَا قَبِيحًا، فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل قَبِيحٌ.
[فصل مَا تَفْعَلُ الزَّانِيَةُ بِكَسْبِهَا إِذَا قَبَضَتْهُ ثُمَّ تَابَتْ]
فَصْلٌ
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي كَسْبِ الزَّانِيَةِ إِذَا قَبَضَتْهُ، ثُمَّ تَابَتْ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّ مَا قَبَضَتْهُ إِلَى أَرْبَابِهِ، أَمْ يَطِيبُ لَهَا، أَمْ تَصَّدَّقُ بِهِ؟
قِيلَ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى قَاعِدَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ قَبَضَ مَا لَيْسَ لَهُ قَبْضُهُ شَرْعًا، ثُمَّ أَرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ قَدْ أُخِذَ بِغَيْرِ رِضَى صَاحِبِهِ، وَلَا اسْتَوْفَى عِوَضَهُ رَدَّهُ عَلَيْهِ. فَإِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَيْهِ، قَضَى بِهِ دَيْنًا يَعْلَمُهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ، رَدَّهُ إِلَى وَرَثَتِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ، تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ، فَإِنِ اخْتَارَ صَاحِبُ الْحَقِّ ثَوَابَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَانَ لَهُ. وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ حَسَنَاتِ الْقَابِضِ، اسْتَوْفَى مِنْهُ نَظِيرَ مَالِهِ، وَكَانَ ثَوَابُ الصَّدَقَةِ لِلْمُتَصَدِّقِ بِهَا، كَمَا ثَبَتَ عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
وَإِنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ بِرِضَى الدَّافِعِ وَقَدِ اسْتَوْفَى عِوَضَهُ الْمُحَرَّمَ، كَمَنْ عَاوَضَ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، أَوْ عَلَى زِنًى أَوْ فَاحِشَةٍ، فَهَذَا لَا يَجِبُ رَدُّ الْعِوَضِ عَلَى الدَّافِعِ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَاسْتَوْفَى عِوَضَهُ الْمُحَرَّمَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ لَهُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ إِعَانَةً لَهُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَتَيْسِيرِ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي عَلَيْهِ. وَمَاذَا يُرِيدُ الزَّانِي وَفَاعِلُ الْفَاحِشَةِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَنَالُ غَرَضَهُ وَيَسْتَرِدُّ مَالَهُ، فَهَذَا مِمَّا تُصَانُ الشَّرِيعَةُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ، وَلَا يَسُوغُ الْقَوْلُ بِهِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْجَمْعَ بَيْنَ الظُّلْمِ وَالْفَاحِشَةِ وَالْغَدْرِ. وَمِنْ أَقْبَحِ الْقَبِيحِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ عِوَضَهُ مِنَ الْمَزْنِيِّ بِهَا، ثُمَّ يَرْجِعُ فِيمَا أَعْطَاهَا قَهْرًا، وَقُبْحُ هَذَا مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ، فَلَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ، وَلَكِنْ لَا يَطِيبُ لِلْقَابِضِ أَكْلُهُ، بَلْ هُوَ خَبِيثٌ كَمَا حَكَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنَّ خُبْثَهُ لِخُبْثِ مَكْسَبِهِ، لَا لِظُلْمِ مَنْ أُخِذَ مِنْهُ، فَطَرِيقُ التَّخَلُّصِ مِنْهُ، وَتَمَامُ التَّوْبَةِ بِالصَّدَقَةِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ حَاجَتِهِ، وَيَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي، فَهَذَا حُكْمُ كُلِّ كَسْبٍ خَبِيثٍ لِخُبْثِ عِوَضِهِ عَيْنًا كَانَ أَوْ مَنْفَعَةً، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْحُكْمِ بِخُبْثِهِ وُجُوبُ رَدِّهِ عَلَى الدَّافِعِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ بِخُبْثِ كَسْبِ الْحَجَّامِ، وَلَا يَجِبُ رَدُّهُ عَلَى دَافِعِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالدَّافِعُ مَالَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْعِوَضِ الْمُحَرَّمِ دَفَعَ مَا لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ، بَلْ حَجَرَ عَلَيْهِ فِيهِ الشَّارِعُ، فَلَمْ يَقَعْ قَبْضُهُ مَوْقِعَهُ، بَلْ وُجُودُ هَذَا الْقَبْضِ كَعَدَمِهِ، فَيَجِبُ رَدُّهُ عَلَى مَالِكِهِ، كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ بِشَيْءٍ، أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، أَوْ تَبَرَّعَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِفَلَسٍ، أَوْ سَفَهٍ، أَوْ تَبَرَّعَ الْمُضْطَرُّ إِلَى قُوَّتِهِ بِذَلِكَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ شَرْعًا فِي هَذَا الدَّفْعِ فَيَجِبُ رَدُّهُ.
قِيلَ: هَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ لَمْ يُعَاوِضْ عَلَيْهِ، وَالشَّارِعُ قَدْ مَنَعَهُ مِنْهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ غَيْرِهِ بِهِ، أَوْ حَقِّ نَفْسِهِ الْمُقَدَّمَةِ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَهُوَ قَدْ عَاوَضَ بِمَالِهِ عَلَى اسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةٍ، أَوِ اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ مُحَرَّمَةٍ، فَقَدْ قَبَضَ عِوَضًا مُحَرَّمًا، وَأَقْبَضَ مَالًا مُحَرَّمًا، فَاسْتَوْفَى مَا لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ، وَبَذَلَ فِيهِ مَا لَا يَجُوزُ بَذْلُهُ، فَالْقَابِضُ قَبَضَ مَالًا مُحَرَّمًا، وَالدَّافِعُ
اسْتَوْفَى عِوَضًا مُحَرَّمًا، وَقَضِيَّةُ الْعَدْلِ تَرَادُّ الْعِوَضَيْنِ، لَكِنْ قَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ أَحَدِهِمَا، فَلَا يُوجِبُ رَدَّ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعِ عِوَضِهِ. نَعَمْ لَوْ كَانَ الْخَمْرُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَسْتَهْلِكْهُ، أَوْ دَفَعَ إِلَيْهَا الْمَالَ وَلَمْ يَفْجُرْ بِهَا، وَجَبَ رَدُّ الْمَالِ فِي الصُّورَتَيْنِ قَطْعًا كَمَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ الْبَاطِلَةِ إِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْقَبْضُ.
فَإِنْ قِيلَ: وَأَيُّ تَأْثِيرٍ لِهَذَا الْقَبْضِ الْمُحَرَّمِ حَتَّى جَعَلَ لَهُ حُرْمَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَبْضَ مَا لَا يَجُوزُ قَبْضُهُ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِهِ، إِذِ الْمَمْنُوعُ شَرْعًا كَالْمَمْنُوعِ حِسًّا، فَقَابِضُ الْمَالِ قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى دَافِعِهِ؟
قِيلَ: وَالدَّافِعُ قَبَضَ الْعَيْنَ، وَاسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِغَيْرِ حَقٍّ، كِلَاهُمَا قَدِ اشْتَرَكَا فِي دَفْعِ مَا لَيْسَ لَهُمَا دَفْعُهُ، وَقَبَضَ مَا لَيْسَ لَهُمَا قَبْضُهُ، وَكِلَاهُمَا عَاصٍ لِلَّهِ، فَكَيْفَ يُخَصُّ أَحَدُهُمَا بِأَنْ يُجْمَعَ لَهُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ عَنْهُ، وَيُفَوَّتُ عَلَى الْآخَرِ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ.
فَإِنْ قِيلَ: هُوَ فَوَّتَ الْمَنْفَعَةَ عَلَى نَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ. قِيلَ: وَالْآخَرُ فَوَّتَ الْعِوَضَ عَلَى نَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا وَاضِحٌ بِحَمْدِ اللَّهِ.
وَقَدْ تَوَقَّفَ شَيْخُنَا فِي وُجُوبِ رَدِّ عِوَضِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى بَاذِلِهِ، أَوِ الصَّدَقَةِ بِهِ فِي كِتَابِ " اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لِمُخَالَفَةِ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ " وَقَالَ: الزَّانِي، وَمُسْتَمِعُ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ قَدْ بَذَلُوا هَذَا الْمَالَ عَنْ طِيبِ نَفُوسِهِمْ، فَاسْتَوْفَوُا الْعِوَضَ الْمُحَرَّمَ، وَالتَّحْرِيمُ الَّذِي فِيهِ لَيْسَ لِحَقِّهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ فَاتَتْ هَذِهِ الْمَنْفَعَةُ بِالْقَبْضِ، وَالْأُصُولُ تَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا رَدَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ رَدَّ الْآخَرَ، فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ رَدُّ الْمَنْفَعَةِ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْمَالَ، وَهَذَا الَّذِي اسْتُوْفِيَتْ مَنْفَعَتُهُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي أَخْذِ مَنْفَعَتِهِ، وَأَخْذِ عِوَضِهَا جَمِيعًا مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْعِوَضُ خَمْرًا أَوْ مَيْتَةً، فَإِنَّ تِلْكَ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي فَوَاتِهَا، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً لَأَتْلَفْنَاهَا عَلَيْهِ، وَمَنْفَعَةُ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ لَوْ لَمْ تَفُتْ، لَتَوَفَّرَتْ عَلَيْهِ بِحَيْثُ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ صَرْفِ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فِي أَمْرٍ آخَرَ، أَعْنِي مَنْ صَرَفَ الْقُوَّةَ الَّتِي
عَمِلَ بِهَا. ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ سُؤَالًا، فَقَالَ: فَيُقَالُ عَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَقْضُوا بِهَا إِذَا طَالَبَ بِقَبْضِهَا.
وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: قِيلَ نَحْنُ لَا نَأْمُرُ بِدَفْعِهَا وَلَا بِرَدِّهَا كَعُقُودِ الْكُفَّارِ الْمُحَرَّمَةِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يُحْكَمْ بِالْقَبْضِ، وَلَوْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْقَبْضِ لَمْ يُحْكَمْ بِالرَّدِّ، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأُجْرَةُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُعْتَقِدًا لِتَحْرِيمِهَا بِخِلَافِ الْكَافِرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا طَلَبَ الْأُجْرَةَ، فَقُلْنَا لَهُ: أَنْتَ فَرَّطْتَ حَيْثُ صَرَفْتَ قُوَّتَكَ فِي عَمَلٍ يَحْرُمُ، فَلَا يُقْضَى لَكَ بِالْأُجْرَةِ. فَإِذَا قَبَضَهَا، وَقَالَ الدَّافِعُ هَذَا الْمَالَ: اقْضُوا لِي بِرَدِّهِ، فَإِنِّي أَقَبَضْتُهُ إِيَّاهُ عِوَضًا عَنْ مَنْفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ، قُلْنَا لَهُ: دَفَعْتَهُ مُعَاوَضَةً رَضِيتَ بِهَا، فَإِذَا طَلَبْتَ اسْتِرْجَاعَ مَا أَخَذَ، فَارْدُدْ إِلَيْهِ مَا أَخَذْتَ إِذَا كَانَ لَهُ فِي بَقَائِهِ مَعَهُ مَنْفَعَةٌ، فَهَذَا مُحْتَمَلٌ. قَالَ: وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْقِيَاسِ، رَدُّهَا لِأَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، انْتَهَى.
وَقَدْ نَصَّ أحمد فِي رِوَايَةِ أبي النضر، فِيمَنْ حَمَلَ خَمْرًا، أَوْ خِنْزِيرًا، أَوْ مَيْتَةً لِنَصْرَانِيٍّ: أَكْرَهُ أَكْلَ كِرَائِهِ، وَلَكِنْ يُقْضَى لِلْحَمَّالِ بِالْكِرَاءِ. وَإِذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ، فَهُوَ أَشَدُّ كَرَاهَةً. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي هَذَا النَّصِّ عَلَى ثَلَاثِ طُرُقٍ.
إِحْدَاهَا: إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ الْمَسْأَلَةَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ ابن أبي موسى: وَكَرِهَ أحمد أَنْ يُؤَجِّرَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ لِحَمْلِ مَيْتَةٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لِنَصْرَانِيٍّ. فَإِنْ فَعَلَ، قُضِيَ لَهُ بِالْكِرَاءِ، وَهَلْ يَطِيبُ لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَوْجَهُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ، وَيَتَصَدَّقُ بِهِ، وَكَذَا ذَكَرَ أبو الحسن الآمدي، قَالَ: إِذَا أَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ رَجُلٍ فِي حَمْلِ خَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، أَوْ مَيْتَةٍ كُرِهَ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ حَامِلَهَا. إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَيُقْضَى لَهُ بِالْكِرَاءِ، وَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يُقْضَى لَهُ بِالْكِرَاءِ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا كَإِجَارَةِ الْحَجَّامِ انْتَهَى. فَقَدْ صَرَّحَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ مَعَ كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ.
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِمَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا، وَجَعْلُ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ أَنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ لَا تَصِحُّ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ "، وَهِيَ طَرِيقَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَقَدْ رَجَعَ عَنْهَا فِي كُتُبِهِ الْمُتَأَخِّرَةِ، فَإِنَّهُ صَنَّفَ " الْمُجَرَّدَ " قَدِيمًا.
الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: تَخْرِيجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ صَحِيحَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْأُجْرَةَ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِلْفِعْلِ وَالْأُجْرَةِ. وَالثَّانِيَةُ: لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهَا أُجْرَةً وَإِنْ حَمَلَ. وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الْخَمْرِ: لَا يَجُوزُ إِمْسَاكُهَا، وَتَجِبُ إِرَاقَتُهَا. قَالَ فِي رِوَايَةِ أبي طالب؛ إِذَا أَسْلَمَ وَلَهُ خَمْرٌ أَوْ خَنَازِيرُ، تُصَبُّ الْخَمْرُ، وَتُسَرَّحُ الْخَنَازِيرُ، وَقَدْ حَرُمَا عَلَيْهِ، وَإِنْ قَتَلَهَا فَلَا بَأْسَ. فَقَدْ نَصَّ أحمد، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِمْسَاكُهَا، وَلِأَنَّهُ قَدْ نَصَّ فِي رِوَايَةِ ابن منصور: أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ لِنِطَارَةِ كَرْمٍ لِنَصْرَانِيٍّ؛ لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الْخَمْرِ، إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يُبَاعُ لِغَيْرِ الْخَمْرِ، فَقَدْ مُنِعَ مِنْ إِجَارَةِ نَفْسِهِ عَلَى حَمْلِ الْخَمْرِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي " تَعْلِيقِهِ " وَعَلَيْهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَالْمَنْصُورُ عِنْدَهُمُ: الرِّوَايَةُ الْمُخَرَّجَةُ، وَهِيَ عَدَمُ الصِّحَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً، وَلَا يُقْضَى لَهُ بِهَا، وَهِيَ مَذْهَبُ مالك، وَالشَّافِعِيِّ، وأبي يوسف، ومحمد.
وَهَذَا إِذَا اسْتَأْجَرَ عَلَى حَمْلِهَا إِلَى بَيْتِهِ لِلشُّرْبِ، أَوْ لِأَكْلِ الْخِنْزِيرِ، أَوْ مُطْلَقًا، فَأَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِحَمْلِهَا لِيُرِيقَهَا، أَوْ لِيَنْقُلَ الْمَيْتَةَ إِلَى الصَّحْرَاءِ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِهَا، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَجُوزُ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مُبَاحٌ، لَكِنْ إِنْ كَانَتِ الْأُجْرَةُ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَمْ تَصِحَّ، وَاسْتَحَقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَلَخَ الْجِلْدَ وَأَخَذَهُ، رَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ، هَذَا قَوْلُ شَيْخِنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مالك. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ أبي حنيفة رحمه الله: فَمَذْهَبُهُ كَالرِّوَايَةِ الْأُولَى، أَنَّهُ تَصِحُّ الْإِجَارَةُ، وَيُقْضَى لَهُ بِالْأُجْرَةِ، وَمَأْخَذُهُ فِي ذَلِكَ، أَنَّ الْحَمْلَ إِذَا كَانَ مُطْلَقًا، لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَحَقُّ نَفْسَ حَمْلِ الْخَمْرِ، فَذِكْرُهُ وَعَدَمُ ذِكْرِهِ سَوَاءٌ، وَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَهُ، كَخَلٍّ وَزَيْتٍ، وَهَكَذَا قَالَ: فِيمَا لَوْ أَجَّرَهُ دَارَهُ، أَوْ حَانُوتَهُ لِيَتَّخِذَهَا كَنِيسَةً، أَوْ لِيَبِيعَ فِيهَا الْخَمْرَ، قَالَ أبو بكر الرازي: لَا فَرْقَ عِنْدَ أبي حنيفة بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَبِيعَ فِيهَا الْخَمْرَ، أَوْ لَا يَشْتَرِطُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَبِيعُ فِيهِ الْخَمْرَ: أَنَّ الْإِجَارَةَ تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فِعْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَإِنْ شَرَطَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَبِيعَ فِيهِ الْخَمْرَ، وَلَا يَتَّخِذَ الدَّارَ كَنِيسَةً، وَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ بِالتَّسْلِيمِ فِي الْمُدَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ فِعْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ،
كَانَ ذِكْرُهَا وَتَرْكُهَا سَوَاءً، كَمَا لَوِ اكْتَرَى دَارًا لِيَنَامَ فِيهَا أَوْ لِيَسْكُنَهَا، فَإِنَّ الْأُجْرَةَ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَكَذَا يَقُولُ: فِيمَا إِذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْمِلَ خَمْرًا أَوْ مَيْتَةً، أَوْ خِنْزِيرًا: أَنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْخَمْرِ، بَلْ لَوْ حَمَّلَهُ بَدَلَهُ عَصِيرًا اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ، فَهَذَا التَّقْيِيدُ عِنْدَهُمْ لَغْوٌ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَالْمُطْلَقَةُ عِنْدَهُ جَائِزَةٌ. وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنَّهِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَعْصِي فِيهَا، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَصِيرِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، ثُمَّ إِنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ. قَالَ: لِأَنَّ السِّلَاحَ مَعْمُولٌ لِلْقِتَالِ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ، وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ خَالَفُوهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى، وَقَالُوا: لَيْسَ الْمُقَيَّدُ كَالْمُطْلَقِ، بَلِ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا هِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ، فَتَكُونُ هِيَ الْمُقَابَلَةَ بِالْعِوَضِ، وَهِيَ مَنْفَعَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهَا مَقَامَهَا، وَأَلْزَمُوهُ فِيمَا لَوِ اكْتَرَى دَارًا لِيَتَّخِذَهَا مَسْجِدًا، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ أَبْطَلَ هَذِهِ الْإِجَارَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا اقْتَضَتْ فِعْلَ الصَّلَاةِ، وَهِيَ لَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ إِجَارَةٍ.
وَنَازَعَهُ أَصْحَابُ أحمد ومالك فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ، وَقَالُوا: إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَنْتَفِعُ بِهَا فِي مُحَرَّمٍ، حَرُمَتِ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ عَاصِرَ الْخَمْرِ وَمُعْتَصِرَهَا، وَالْعَاصِرُ إِنَّمَا يَعْصِرُ عَصِيرًا، وَلَكِنْ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الْمُعْتَصِرَ يُرِيدُ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَمْرًا، فَيَعْصِرُهُ لَهُ، اسْتَحَقَّ اللَّعْنَةَ.
قَالُوا: وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي هَذَا مُعَاوَنَةً عَلَى نَفْسِ مَا يَسْخَطُهُ اللَّهُ وَيَبْغَضُهُ، وَيَلْعَنُ فَاعِلَهُ، فَأُصُولُ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدُهُ تَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ وَبُطْلَانَ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ تَقْرِيرِ هَذَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى حُكْمِهِ صلى الله عليه وسلم بِتَحْرِيمِ الْعِينَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْعُقُوبَةِ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَالْأَشْبَهُ طَرِيقَةُ ابن موسى، يَعْنِي أَنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِالْأُجْرَةِ وَإِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مُحَرَّمَةً، وَلَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ أَكْلُهَا. قَالَ: فَإِنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى مَقْصُودِ أحمد، وَأَقْرَبُ إِلَى الْقِيَاسِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ عَاصِرَ الْخَمْرِ، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ. فَالْعَاصِرُ وَالْحَامِلُ قَدْ عَاوَضَا عَلَى مَنْفَعَةٍ تَسْتَحِقُّ