الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الِاسْتِبْرَاءِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ طُهْرًا مُحْتَوِشًا بِدَمَيْنِ كَقَرْءِ الْمُطَلَّقَةِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْفَرْقَ غَيْرُ طَائِلٍ.
قَوْلُكُمْ: إِنَّ انْضِمَامَ قَرْأَيْنِ إِلَى الطُّهْرِ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ يَجْعَلُهُ عَلَمًا، جَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا يُفْضِي إِلَى أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ قَرْأَيْنِ حَسْبُ، فَإِنَّ ذَلِكَ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا الدَّالُّ الْقَرْآنِ بَعْدَهُ، وَهَذَا خِلَافُ مُوجَبِ النَّصِّ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِ الْأَقْرَاءِ الْحِيَضَ، فَإِنَّ الْحَيْضَةَ وَحْدَهَا عَلَمٌ، وَلِهَذَا اكْتُفِيَ بِهَا فِي اسْتِبْرَاءِ الْإِمَاءِ.
قَوْلُكُمْ: إِنَّ الْقَرْءَ هُوَ الْجَمْعُ، وَالْحَيْضُ يَجْتَمِعُ فِي زَمَانِ الطُّهْرِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ فِي الْمُعْتَلِّ لَا فِي الْمَهْمُوزِ.
قَوْلُكُمْ: دُخُولُ التَّاءِ فِي ثَلَاثَةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَاحِدَهَا مُذَكَّرٌ، وَهُوَ الطُّهْرُ، جَوَابُهُ: أَنَّ وَاحِدَ الْقُرُوءِ قَرْءٌ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ، فَأَتَى بِالتَّاءِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِهِ وَإِنْ كَانَ مُسَمَّاهُ حَيْضَةً، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ جَاءَنِي ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ وَهُنَّ نِسَاءٌ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فصل قَوْلُ مَنْ سَوَّى بَيْنَ عِدَّةِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ]
فَصْلٌ
وَقَدِ احْتَجَّ بِعُمُومِ آيَاتِ الْعِدَدِ الثَّلَاثِ مَنْ يَرَى أَنَّ عِدَّةَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ سَوَاءٌ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: وَعِدَّةُ الْأَمَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ كَعِدَّةِ الْحُرَّةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَلَا فَرْقَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّمَنَا الْعِدَدَ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [الْبَقَرَةِ 288]، وَقَالَ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] [الْبَقَرَةِ 234]، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4][الطَّلَاقِ 4] وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى إِذْ أَبَاحَ لَنَا زَوَاجَ الْإِمَاءِ، أَنَّهُ يَكُونُ
عَلَيْهِنَّ الْعِدَدُ الْمَذْكُورَاتُ. وَمَا فَرَّقَ عز وجل بَيْنَ حُرَّةٍ وَلَا أَمَةٍ فِي ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا.
وَثَبَتَ عَمَّنْ سَلَفَ مِثْلُ قَوْلِنَا: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ رحمه الله: مَا أَرَى عِدَّةَ الْأَمَةِ إِلَّا كَعِدَّةِ الْحُرَّةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَضَتْ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ، فَالسُّنَّةُ أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ. قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَنَّ قَوْلَ مكحول: إِنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَعِدَّةِ الْحُرَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي سليمان وَجَمِيعِ أَصْحَابِنَا هَذَا كَلَامُهُ.
وَقَدْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ فَقَالُوا: عِدَّتُهَا نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ هَذَا قَوْلُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، والقاسم وسالم، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وعبد الله بن عتبة، وَالزُّهْرِيِّ، ومالك، وَفُقَهَاءِ أَهْلِ مَكَّةَ كَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَمُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ، وَغَيْرِهِمَا، وَفُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ كقتادة، وَفُقَهَاءِ الْكُوفَةِ كالثوري، وأبي حنيفة وَأَصْحَابِهِ رحمهم الله، وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كأحمد، وإسحاق، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ رحمهم الله وَغَيْرِهِمْ.
وَسَلَفُهُمْ فِي ذَلِكَ الْخَلِيفَتَانِ الرَّاشِدَانِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهما صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ عبد الله بن عمر رضي الله عنه كَمَا رَوَاهُ مالك، عَنْ نافع عَنْهُ (عِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ ثَلَاثُ حِيَضٍ) ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ كَمَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ (عِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ ثَلَاثُ حِيَضٍ) . وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عمرو بن أوس الثقفي، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ:(لَوِ اسْتَطَعْتُ أَنْ أَجْعَلَ عِدَّةَ الْأَمَةِ حَيْضَةً وَنِصْفًا لَفَعَلْتُ فَقَالَ لَهُ: رَجُلٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَاجْعَلْهَا شَهْرًا وَنِصْفًا) .
وَقَالَ عبد الرزاق حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أبو الزبير أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: جَعَلَ لَهَا عمر رضي الله عنه حَيْضَتَيْنِ يَعْنِي: الْأَمَةَ الْمُطَلَّقَةَ.
وَرَوَى عبد الرزاق أَيْضًا: عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ محمد بن عبد الرحمن، عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عبد الله بن عتبة بن مسعود، «عَنْ عمر رضي الله عنه (يَنْكِحُ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ وَيُطَلِّقُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ فَإِنْ لَمْ تَحِضْ فَشَهْرَيْنِ، أَوْ قَالَ فَشَهْرًا وَنِصْفًا» ) .
وَذَكَرَ عبد الرزاق أَيْضًا:، عَنْ معمر، عَنِ المغيرة، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ (يَكُونُ عَلَيْهَا نِصْفُ الْعَذَابِ، وَلَا يَكُونُ لَهَا نِصْفُ الرُّخْصَةِ) .
وَقَالَ ابن وهب: أَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ نافعا، وابن قسيط، وَيَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، وربيعة وَغَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ وَالتَّابِعِينَ قَالُوا: عِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ. قَالُوا: وَلَمْ يَزَلْ هَذَا عَمَلَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ ابن وهب: أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهم قَالَ: عِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ.
قَالَ القاسم: مَعَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل، وَلَا نَعْلَمُهُ سُنَّةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنْ قَدْ مَضَى أَمْرُ النَّاسِ عَلَى هَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِعَيْنِهِ، وَقَوْلُ القاسم وسالم فِيهِ لِرَسُولِ الْأَمِيرِ: قُلْ لَهُ إِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنْ عَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ. قَالُوا: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ إِلَّا قَوْلُ عمر: وَابْنِ مَسْعُودٍ: وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لَكَفَى بِهِ.
وَفِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه تَجْعَلُونَ عَلَيْهَا نِصْفَ الْعَذَابِ، وَلَا تَجْعَلُونَ لَهَا نِصْفَ الرُّخْصَةِ، دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ الصَّحَابَةِ لِلْأَقْيِسَةِ وَالْمَعَانِي، وَإِلْحَاقِ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْأَثَرُ مُخَالِفًا لِقَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، طَعَنَ ابْنُ حَزْمٍ
فِيهِ، وَقَالَ لَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: وَهَذَا بَعِيدٌ عَلَى رَجُلٍ مِنْ عُرْضِ النَّاسِ فَكَيْفَ عَنْ مِثْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ؟ وَإِنَّمَا جَرَّأَهُ عَلَى الطَّعْنِ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْهُ، رَوَاهُ عبد الرزاق، عَنْ معمر، عَنِ المغيرة، عَنْ إبراهيم، وإبراهيم لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عبد الله، وَلَكِنَّ الْوَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَصْحَابُ عبد الله كعلقمة وَنَحْوِهِ.
وَقَدْ قَالَ إبراهيم: إِذَا قُلْتُ قَالَ عبد الله فَقَدْ حَدَّثَنِي بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْهُ وَإِذَا قُلْتُ: قَالَ فُلَانٌ عَنْهُ فَهُوَ عَمَّنْ سَمَّيْتُ، أَوْ كَمَا قَالَ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ بَيْنَ إبراهيم وعبد الله أَئِمَّةً ثِقَاتٍ لَمْ يُسَمِّ قَطُّ مُتَّهَمًا، وَلَا مَجْرُوحًا، وَلَا مَجْهُولًا، فَشُيُوخُهُ الَّذِينَ أَخَذَ عَنْهُمْ، عَنْ عبد الله أَئِمَّةٌ أَجِلَّاءُ نُبَلَاءُ وَكَانُوا كَمَا قِيلَ: سُرُجُ الْكُوفَةِ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ فِي الْحَدِيثِ إِذَا قَالَ إبراهيم: قَالَ عبد الله لَمْ يَتَوَقَّفْ فِي ثُبُوتِهِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِمَّنْ فِي طَبَقَتِهِ لَوْ قَالَ: قَالَ عبد الله، لَا يَحْصُلُ لَنَا الثَّبْتُ بِقَوْلِهِ، فإبراهيم عَنْ عبد الله نَظِيرُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عمر وَنَظِيرُ مالك عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّ الْوَسَائِطَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم إِذَا سَمَّوْهُمْ وُجِدُوا مِنْ أَجَلِّ النَّاسِ وَأَوْثَقِهِمْ وَأَصْدَقِهِمْ، وَلَا يُسَمُّونَ سِوَاهُمُ الْبَتَّةَ، وَدَعِ ابْنَ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَكَيْفَ يُخَالِفُ عمر وزيدا وَابْنَ عُمَرَ وَهُمْ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَيُخَالِفُ عَمَلَ الْمُسْلِمِينَ لَا إِلَى قَوْلِ صَاحِبٍ الْبَتَّةَ، وَلَا إِلَى حَدِيثٍ صَحِيحٍ، وَلَا حَسَنٍ، بَلْ إِلَى عُمُومٍ أَمْرُهُ ظَاهِرٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، لَيْسَ هُوَ مِمَّا تَخْفَى دَلَالَتُهُ وَلَا مَوْضِعُهُ حَتَّى يَظْفَرَ بِهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ، هَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْمُحَالِ.
وَلَوْ ذَهَبْنَا نَذْكُرُ الْآثَارَ عَنِ التَّابِعِينَ بِتَنْصِيفِ عِدَّةِ الْأَمَةِ لَطَالَتْ جِدًّا، ثُمَّ إِذَا تَأَمَّلْتَ سِيَاقَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْعِدَدِ وَجَدْتَهَا لَا تَتَنَاوَلُ الْإِمَاءَ وَإِنَّمَا تَتَنَاوَلُ الْحَرَائِرَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] [الْبَقَرَةِ 228] إِلَى أَنْ قَالَ {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]
[الْبَقَرَةِ 229]
وَهَذَا فِي حَقِّ الْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ، فَإِنَّ افْتِدَاءَ الْأَمَةِ إِلَى سَيِّدِهَا لَا إِلَيْهَا.، ثُمَّ قَالَ {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230] [الْبَقَرَةِ 230] فَجُعِلَ ذَلِكَ إِلَيْهِمَا، وَالتَّرَاجُعُ الْمَذْكُورُ فِي حَقِّ الْأَمَةِ، وَهُوَ الْعَقْدُ إِنَّمَا هُوَ إِلَى سَيِّدِهَا لَا إِلَيْهَا، بِخِلَافِ الْحُرَّةِ فَإِنَّهُ إِلَيْهَا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234] [الْبَقَرَةِ 234] ، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ، وَأَمَّا الْأَمَةُ فَلَا فِعْلَ لَهَا فِي نَفْسِهَا الْبَتَّةَ، فَهَذَا فِي الْعِدَّةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَأَمَّا عِدَّةُ الْأَشْهُرِ فَفَرْعٌ وَبَدَلٌ. وَأَمَّا عِدَّةُ وَضْعِ الْحَمْلِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهَا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعُونَ وَعَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ مَحْضُ الْفِقْهِ وَمُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ فِي تَنْصِيفِ الْحَدِّ عَلَيْهَا، وَلَا يُعْرَفُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فِي ذَلِكَ، وَفَهْمُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللَّهِ أَوْلَى مِنْ فَهْمِ مَنْ شَذَّ عَنْهُمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَلَا تُعْرَفُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِي الْعِدَّةِ، عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ إِلَّا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ومكحول. فَأَمَّا ابْنُ سِيرِينَ فَلَمْ يَجْزِمْ بِذَلِكَ وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْ رَأْيِهِ، وَعَلَّقَ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى عَدَمِ سُنَّةٍ تُتَّبَعُ. وَأَمَّا قَوْلُ مكحول فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ سَنَدًا وَإِنَّمَا حَكَاهُ عَنْهُ أحمد رحمه الله، وَهُوَ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَلَا يَصِحُّ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَكُمْ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَّا رَأْيَ ابْنِ سِيرِينَ وَحْدَهُ الْمُعَلَّقَ عَلَى عَدَمِ سُنَّةٍ مُتَّبَعَةٍ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ سُنَّةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ مُتَّبَعَةٌ وَلَمْ يُخَالِفْهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَدَّعُونَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَجَمَاهِيرِ الْأُمَّةِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ومجاهد، والحسن، وربيعة، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ
وَالزُّهْرِيِّ، وبكر بن الأشج، ومالك، وَأَصْحَابِهِ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَشْهُرَ فِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ بَدَلٌ عَنِ الْأَقْرَاءِ الثَّلَاثِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَدَلَهَا فِي حَقَّهَا ثَلَاثَةٌ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا هُمْ بِأَنْفُسِهِمُ الْقَائِلُونَ إِنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَتَانِ وَقَدْ أَفْتَوْا بِهَذَا، وَهَذَا وَلَهُمْ فِي الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَهِيَ لِلشَّافِعِيِّ وَهِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أحمد. فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ أَنَّهَا شَهْرَانِ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه ذَكَرَهَا الأثرم وَغَيْرُهُ عَنْهُ.
وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ عِدَّتَهَا بِالْأَقْرَاءِ حَيْضَتَانِ فَجُعِلَ كُلُّ شَهْرٍ مَكَانَ حَيْضَةٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ عِدَّتَهَا شَهْرٌ وَنِصْفٌ نَقَلَهَا عَنْهُ الأثرم والميموني، وَهَذَا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وأبي حنيفة، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ. وَحُجَّتُهُ أَنَّ التَّنْصِيفَ فِي الْأَشْهُرِ مُمْكِنٌ فَتَنَصَّفَتْ بِخِلَافِ الْقُرُوءِ. وَنَظِيرُ هَذَا: أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ نِصْفُ مُدٍّ أَخْرَجَهُ فَإِنْ أَرَادَ الصِّيَامَ مَكَانَهُ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا صَوْمُ يَوْمٍ كَامِلٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ عِدَّتَهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ كَوَامِلُ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عمر رضي الله عنه وَقَوْلٌ ثَالِثٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ فِيمَنْ ذَكَرْتُمُوهُ.
وَالْفَرْقُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ اعْتِدَادِهَا بِالْأَقْرَاءِ وَبَيْنَ اعْتِدَادِهَا بِالشُّهُورِ، أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالشُّهُورِ لِلْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ رَحِمِهَا، وَهُوَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ يَكُونُ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ، ثُمَّ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ، وَهُوَ الطَّوْرُ الثَّالِثُ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ الْحَمْلُ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْأَقْرَاءِ، فَإِنَّ الْحَيْضَةَ الْوَاحِدَةَ عَلَمٌ ظَاهِرٌ عَلَى