الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الِاعْتِيَاضَ بِهِمَا رِبًا، هَذَا إِذَا كَانَ الِاعْتِيَاضُ عَنِ الْمَاضِي، فَإِنْ كَانَ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمْ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهَا بِصَدَدِ السُّقُوطِ فَلَا يُعْلَمُ اسْتِقْرَارُهَا.
[ذِكْرُ مَا رُوِيَ مِنْ حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَمْكِينِ الْمَرْأَةِ مِنْ فِرَاقِ زَوْجِهَا إِذَا أَعْسَرَ بِنَفَقَتِهَا]
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « (أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى) ، وَفِي لَفْظٍ: (مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ) ، تَقُولُ الْمَرْأَةُ: إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي، وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي، وَيَقُولُ الْعَبْدُ: أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي، وَيَقُولُ الْوَلَدُ: أَطْعِمْنِي، إِلَى مَنْ تَدَعُنِي؟ قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: لَا. هَذَا مِنْ كِيسِ أَبِي هُرَيْرَةَ» .
وَذَكَرَ النَّسَائِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِهِ وَقَالَ فِيهِ: «وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ "، فَقِيلَ: مَنْ أَعُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (امْرَأَتُكَ تَقُولُ: أَطْعِمْنِي وَإِلَّا فَارِقْنِي، خَادِمُكَ يَقُولُ: أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي، وَلَدُكَ يَقُولُ: أَطْعِمْنِي، إِلَى مَنْ تَتْرُكُنِي؟) » . وَهَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ كِتَابِ النَّسَائِيِّ، هَكَذَا، وَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ سعيد بن أيوب عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أبي صالح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، وسعيد ومحمد ثِقَتَانِ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَنَا أبو بكر الشافعي حَدَّثَنَا محمد بن بشر بن مطر، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عاصم عن أبي صالح، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «الْمَرْأَةُ تَقُولُ لِزَوْجِهَا: أَطْعِمْنِي أَوْ طَلِّقْنِي» ) الْحَدِيثَ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ السَّمَاكِ، وَعَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ وإسماعيل بن علي قَالُوا: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَزَّازُ، حَدَّثَنَا إسحاق بن إبراهيم الباوردي، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فِي الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ، قَالَ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أبي صالح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي " سُنَنِهِ ": حَدَّثَنَا سفيان عَنْ أبي الزناد قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنِ الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ، أَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: سُنَّةٌ؟ قَالَ: سُنَّةٌ. وَهَذَا يَنْصَرِفُ إِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يُنْفِقَ أَوْ يُطَلِّقَ، رَوَى سفيان عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: إِذَا لَمْ يَجِدِ الرَّجُلُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ، أُجْبِرَ عَلَى طَلَاقِهَا.
الثَّانِي: إِنَّمَا يُطَلِّقُهَا عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، وَهَذَا قَوْلُ مالك؛ لَكِنَّهُ قَالَ: يُؤَجَّلُ فِي عَدَمِ النَّفَقَةِ شَهْرًا وَنَحْوَهُ، فَإِنِ انْقَضَى الْأَجَلُ وَهِيَ حَائِضٌ أُخِّرَ حَتَّى تَطْهُرَ، وَفِي الصَّدَاقِ عَامَيْنِ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا عَلَيْهِ الْحَاكِمُ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً، فَإِنْ أَيْسَرَ فِي الْعِدَّةِ فَلَهُ ارْتِجَاعُهَا، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزَّوْجَةَ تُخَيَّرُ إِنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ، وَتَبْقَى نَفَقَةُ الْمُعْسِرِ دَيْنًا لَهَا فِي ذِمَّتِهِ. قَالَ أَصْحَابُهُ: هَذَا إِذَا أَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، وَإِنْ لَمْ تُمَكِّنْهُ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ شَاءَتْ فَسَخَتِ النِّكَاحَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ، لَكِنْ يَرْفَعُ الزَّوْجُ يَدَهُ عَنْهَا لِتَكْتَسِبَ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا تَمْلِكُ الْفَسْخَ.
قَالُوا: وَهَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَلَاقٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ الرَّفْعِ إِلَى الْقَاضِي حَتَّى يُلْزِمَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ يُنْفِقَ، فَإِنْ أَبَى طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً، فَإِنْ رَاجَعَهَا طَلَّقَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً، فَإِنْ رَاجَعَهَا طَلَّقَ عَلَيْهِ ثَالِثَةً.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَسْخٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ الرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُثْبِتَ الْإِعْسَارَ ثُمَّ تَفْسَخُ هِيَ، وَإِنِ اخْتَارَتِ الْمُقَامَ ثُمَّ أَرَادَتِ الْفَسْخَ مَلَكَتْهُ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ يَتَجَدَّدُ وُجُوبُهَا كُلَّ يَوْمٍ، وَهَلْ تَمْلِكُ الْفَسْخَ فِي الْحَالِ أَوْ لَا تَمْلِكُهُ إِلَّا بَعْدَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ. الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ: الثَّانِي. قَالُوا: فَلَوْ وَجَدَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ نَفَقَتَهَا وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، فَهَلْ يَجِبُ اسْتِئْنَافُ هَذَا الْإِمْهَالِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: يُؤَجَّلُ سَنَةً ثُمَّ يُفْسَخُ قِيَاسًا عَلَى الْعِنِّينِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يُضْرَبُ لَهُ شَهْرٌ أَوْ شَهْرَانِ. وَقَالَ مالك: الشَّهْرُ وَنَحْوُهُ. وَعَنْ أحمد رِوَايَتَانِ. إِحْدَاهُمَا، وَهِيَ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ: أَنَّ الْمَرْأَةَ تُخَيَّرُ بَيْنَ الْمُقَامِ مَعَهُ وَبَيْنَ الْفَسْخِ، فَإِنِ اخْتَارَتِ الْفَسْخَ رَفَعَتْهُ إِلَى الْحَاكِمِ فَيُخَيَّرُ الْحَاكِمُ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ عَلَيْهِ أَوْ يُجْبِرَهُ عَلَى الطَّلَاقِ أَوْ يَأْذَنَ لَهَا فِي الْفَسْخِ، فَإِنْ فَسَخَ أَوْ أَذِنَ فِي الْفَسْخِ فَهُوَ فَسْخٌ لَا طَلَاقٌ، وَلَا رَجْعَةَ لَهُ، وَإِنْ أَيْسَرَ فِي الْعِدَّةِ. وَإِنْ أَجْبَرَهُ عَلَى الطَّلَاقِ فَطَلَّقَ رَجْعِيًّا فَلَهُ رَجْعَتُهَا، فَإِنْ رَاجَعَهَا وَهُوَ مُعْسِرٌ أَوِ امْتَنَعَ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا فَطَلَبَتِ الْفَسْخَ فَسَخَ عَلَيْهِ ثَانِيًا وَثَالِثًا، وَإِنْ رَضِيَتِ الْمُقَامَ مَعَهُ مَعَ عُسْرَتِهِ ثُمَّ بَدَا لَهَا الْفَسْخُ أَوْ تَزَوَّجَتْهُ عَالِمَةً بِعُسْرَتِهِ ثُمَّ اخْتَارَتِ الْفَسْخَ فَلَهَا ذَلِكَ.
قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُ كَلَامِ أحمد: أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا الْفَسْخُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَيَبْطُلُ خِيَارُهَا، وَهُوَ قَوْلُ مالك لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِعَيْبِهِ وَدَخَلَتْ فِي الْعَقْدِ عَالِمَةً بِهِ فَلَمْ تَمْلِكِ الْفَسْخَ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ عِنِّينًا عَالِمَةً بِعُنَّتِهِ. وَقَالَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ: قَدْ
رَضِيتُ بِهِ عِنِّينًا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي: هُوَ مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ وَالْحُجَّةِ.
وَالَّذِينَ قَالُوا: لَهَا الْفَسْخُ - وَإِنْ رَضِيَتْ بِالْمُقَامِ - قَالُوا: حَقُّهَا مُتَجَدِّدٌ كُلَّ يَوْمٍ فَيَتَجَدَّدُ لَهَا الْفَسْخُ بِتَجَدُّدِ حَقِّهَا، قَالُوا: وَلِأَنَّ رِضَاهَا يَتَضَمَّنُ إِسْقَاطَ حَقِّهَا فِيمَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ مِنَ الزَّمَانِ، فَلَمْ يَسْقُطْ كَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ. قَالُوا: وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْقَطَتِ النَّفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ لَمْ تَسْقُطْ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْقَطَتْهَا قَبْلَ الْعَقْدِ جُمْلَةً وَرَضِيَتْ بِلَا نَفَقَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْقَطَتِ الْمَهْرَ قَبْلَهُ لَمْ يَسْقُطْ، وَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ وُجُوبُهَا لَمْ يَسْقُطِ الْفَسْخُ الثَّابِتُ بِهِ. وَالَّذِينَ قَالُوا بِالسُّقُوطِ أَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ يَتَجَدَّدُ، وَمَعَ هَذَا إِذَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا مِنَ الْفَسْخِ بِالْعُنَّةِ سَقَطَ وَلَمْ تَمْلِكِ الرُّجُوعَ فِيهِ.
قَالُوا: وَقِيَاسُكُمْ ذَلِكَ عَلَى إِسْقَاطِ نَفَقَتِهَا قِيَاسٌ عَلَى أَصْلٍ غَيْرِ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ وَلَا ثَابِتٍ بِالدَّلِيلِ، بَلِ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الشُّفْعَةِ بِإِسْقَاطِهَا قَبْلَ الْبَيْعِ كَمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:( «لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ بَاعَهُ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْبَيْعِ» ) وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ إِذَا أَسْقَطَهَا قَبْلَ الْبَيْعِ لَمْ يَمْلِكْ طَلَبَهَا بَعْدَهُ، وَحِينَئِذٍ فَيَجْعَلُ هَذَا أَصْلًا لِسُقُوطِ حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ بِالْإِسْقَاطِ، وَنَقُولُ: خِيَارٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَسَقَطَ بِإِسْقَاطِهِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ كَالشُّفْعَةِ ثُمَّ يُنْتَقَضُ هَذَا بِالْعَيْبِ فِي الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَوْ عَلِمَ بِهِ ثُمَّ اخْتَارَ تَرْكَ الْفَسْخِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ بَعْدَ هَذَا، وَتَجَدُّدُ حَقِّهِ بِالِانْتِفَاعِ كُلَّ وَقْتٍ كَتَجَدُّدِ حَقِّ الْمَرْأَةِ مِنَ النَّفَقَةِ سَوَاءٌ وَلَا فَرْقَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ أَسْقَطَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ أَوْ أَسْقَطَ الْمَهْرَ قَبْلَهُ لَمْ يَسْقُطْ، فَلَيْسَ إِسْقَاطُ الْحَقِّ قَبْلَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَإِسْقَاطِهِ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ، هَذَا إِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ إِجْمَاعٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا خِلَافٌ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِسْقَاطَيْنِ وَسَوَّيْنَا بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ.
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَيْسَ لَهَا الْفَسْخُ، وَهَذَا قَوْلُ أبي حنيفة وَصَاحِبَيْهِ. وَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهَا تَمْكِينُهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ إِلَيْهَا عِوَضَهُ فَلَمْ يَلْزَمْهَا تَسْلِيمُهُ، كَمَا لَوْ أَعْسَرَ الْمُشْتَرِي بِثَمَنِ الْمَبِيعِ لَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ، وَعَلَيْهِ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهَا لِتَكْتَسِبَ لَهَا وَتُحَصِّلَ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهَا؛ لِأَنَّ فِي حَبْسِهَا بِغَيْرِ نَفَقَةٍ إِضْرَارًا بِهَا.
فَإِنْ قِيلَ فَلَوْ كَانَتْ مُوسِرَةً، فَهَلَّا يَمْلِكُ حَبْسَهَا؟ قِيلَ قَدْ قَالُوا أَيْضًا: لَا يَمْلِكُ حَبْسَهَا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَمْلِكُهُ إِذَا كَفَاهَا الْمُؤْنَةَ وَأَغْنَاهَا عَمَّا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَلِحَاجَتِهِ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ الْوَاجِبِ لَهُ عَلَيْهَا، فَإِذَا انْتَفَى هَذَا وَهَذَا لَمْ يَمْلِكْ حَبْسَهَا، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
ذَكَرَ عبد الرزاق عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلْتُ عطاء عَمَّنْ لَا يَجِدُ مَا يُصْلِحُ امْرَأَتَهُ مِنَ النَّفَقَةِ؟ قَالَ: لَيْسَ لَهَا إِلَّا مَا وَجَدَتْ، لَيْسَ لَهَا أَنْ يُطَلِّقَهَا. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ جَمَاعَةٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ يَعْجَزُ عَنْ نَفَقَةِ امْرَأَتِهِ: قَالَ: تُوَاسِيهِ وَتَتَّقِي اللَّهَ وَتَصْبِرُ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهَا مَا اسْتَطَاعَ. وَذَكَرَ عبد الرزاق عَنْ معمر قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ رَجُلٍ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ، أَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: تَسْتَأْنِي بِهِ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَتَلَا:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7][الطَّلَاقِ: 7] . قَالَ معمر: وَبَلَغَنِي عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلُ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ سَوَاءٌ. وَذَكَرَ عبد الرزاق عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِي الْمَرْأَةِ يَعْسُرُ زَوْجُهَا بِنَفَقَتِهَا: قَالَ: هِيَ امْرَأَةٌ ابْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ وَلَا تَأْخُذْ بِقَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا.
قُلْتُ: عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ، هَذِهِ إِحْدَاهَا. وَالثَّانِيَةُ: رَوَى ابن وهب عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: شَهِدْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ لِزَوْجِ امْرَأَةٍ شَكَتْ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا: اضْرِبُوا لَهُ أَجَلًا شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا إِلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ فَرِّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا.
وَالثَّالِثَةُ: ذَكَرَ ابن وهب عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ محمد بن عبد الرحمن أَنَّ رَجُلًا شَكَى إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِأَنَّهُ أَنْكَحَ ابْنَتَهُ رَجُلًا لَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَى الزَّوْجِ، فَأَتَى، فَقَالَ: أَنْكَحَنِي وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لِي شَيْءٌ، فَقَالَ عمر: أَنْكَحْتَهُ وَأَنْتَ تَعْرِفُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا الَّذِي أَصْنَعُ؟ اذْهَبْ بِأَهْلِكَ.
وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ التَّفْرِيقِ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ كُلِّهِمْ، وَقَدْ تَنَاظَرَ فِيهَا مالك وَغَيْرُهُ فَقَالَ مالك: أَدْرَكْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ: إِذَا لَمْ يُنْفِقِ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا. فَقِيلَ لَهُ، قَدْ كَانَتِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم يُعْسِرُونَ وَيَحْتَاجُونَ، فَقَالَ مالك: لَيْسَ النَّاسُ الْيَوْمَ كَذَلِكَ؛ إِنَّمَا تَزَوَّجَتْهُ رَجَاءً.
وَمَعْنَى كَلَامِهِ: أَنَّ نِسَاءَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم كُنَّ يُرِدْنَ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُنَّ الدُّنْيَا، فَلَمْ يَكُنَّ يُبَالِينَ بِعُسْرِ أَزْوَاجِهِنَّ؛ لِأَنَّ أَزْوَاجَهُنَّ كَانُوا كَذَلِكَ. وَأَمَّا النِّسَاءُ الْيَوْمَ فَإِنَّمَا يَتَزَوَّجْنَ رَجَاءَ دُنْيَا الْأَزْوَاجِ وَنَفَقَتِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ، فَالْمَرْأَةُ إِنَّمَا تَدْخُلُ الْيَوْمَ عَلَى رَجَاءِ الدُّنْيَا، فَصَارَ هَذَا الْمَعْرُوفُ كَالْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ، وَكَانَ عُرْفُ الصَّحَابَةِ وَنِسَائِهِمْ كَالْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ، وَالشَّرْطُ الْعُرْفِيُّ فِي أَصْلِ مَذْهَبِهِ كَاللَّفْظِيِّ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى مالك كَلَامَهُ هَذَا مَنْ لَمْ يَفْهَمْهُ وَيَفْهَمْ غَوْرَهُ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ آخَرُ وَهُوَ: أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَعْسَرَ بِالنَّفَقَةِ حُبِسَ حَتَّى يَجِدَ مَا يُنْفِقُهُ، وَهَذَا مَذْهَبٌ حَكَاهُ النَّاسُ عَنِ ابْنِ حَزْمٍ وَصَاحِبِ " الْمُغْنِي " وَغَيْرِهِمَا عَنْ عبيد الله بن الحسن العنبري قَاضِي الْبَصْرَةِ. وَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ! لِأَيِّ شَيْءٍ يُسْجَنُ وَيُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ عَذَابِ السِّجْنِ وَعَذَابِ الْفَقْرِ وَعَذَابِ الْبُعْدِ عَنْ أَهْلِهِ؟ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، وَمَا أَظُنُّ مَنْ شَمَّ رَائِحَةَ الْعِلْمِ يَقُولُ هَذَا.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ آخَرُ وَهُوَ: أَنَّ الْمَرْأَةَ تُكَلَّفُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ نَفَقَةِ نَفْسِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أبي محمد ابن حزم، وَهُوَ خَيْرٌ بِلَا شَكَّ مِنْ مَذْهَبِ العنبري. قَالَ فِي " الْمُحَلَّى ": فَإِنْ عَجَزَ الزَّوْجُ عَنْ نَفَقَةِ نَفْسِهِ، وَامْرَأَتُهُ غَنِيَّةٌ
كُلِّفَتِ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ، وَلَا تَرْجِعُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ إِنْ أَيْسَرَ، بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] [الْبَقَرَةِ: 233] فَالزَّوْجَةُ وَارِثَةٌ فَعَلَيْهَا النَّفَقَةُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ.
وَيَا عَجَبًا لأبي محمد! لَوْ تَأَمَّلَ سِيَاقَ الْآيَةِ لَتَبَيَّنَ لَهُ مِنْهَا خِلَافُ مَا فَهِمَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وَهَذَا ضَمِيرُ الزَّوْجَاتِ بِلَا شَكٍّ، ثُمَّ قَالَ:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ عَلَى وَارِثِ الْمَوْلُودِ لَهُ، أَوْ وَارِثِ الْوَلَدِ مِنْ رِزْقِ الْوَالِدَاتِ وَكِسْوَتِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ مِثْلَ مَا عَلَى الْمَوْرُوثِ، فَأَيْنَ فِي الْآيَةِ نَفَقَةٌ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجَاتِ؟ حَتَّى يُحْمَلَ عُمُومُهَا عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ الْفَسْخَ بِالْإِعْسَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7][الطَّلَاقِ: 7] قَالُوا: وَإِذَا لَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ النَّفَقَةَ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَقَدْ تَرَكَ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَأْثَمْ بِتَرْكِهِ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حُبِّهِ وَسَكَنِهِ وَتَعْذِيبِهِ بِذَلِكَ. قَالُوا: وَقَدْ رَوَى مسلم فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أبي الزبير عَنْ جابر ( «دَخَلَ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَاهُ جَالِسًا حَوْلَهُ نِسَاؤُهُ وَاجِمًا سَاكِتًا، فَقَالَ أبو بكر: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَ بنت خارجة سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ، فَقَامَ أبو بكر إِلَى عائشة يَجَأُ عُنُقَهَا، وَقَامَ عمر إِلَى حفصة يَجَأُ عُنُقَهَا، كِلَاهُمَا يَقُولُ: تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، فَقُلْنَ: وَاللَّهِ لَا نَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا أَبَدًا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا» ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قَالُوا: فَهَذَا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يَضْرِبَانِ ابْنَتَيْهِمَا بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ سَأَلَاهُ نَفَقَةً لَا يَجِدُهَا. وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَضْرِبَا طَالِبَتَيْنِ لِلْحَقِّ وَيُقِرَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمَا فِيمَا طَلَبَتَاهُ مِنَ النَّفَقَةِ فِي حَالِ الْإِعْسَارِ، وَإِذَا كَانَ طَلَبُهُمَا لَهَا بَاطِلًا فَكَيْفَ تُمَكَّنُ الْمَرْأَةُ مِنْ فَسْخِ النِّكَاحِ بِعَدَمِ مَا لَيْسَ لَهَا طَلَبُهُ وَلَا يَحِلُّ لَهَا، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ صَاحِبَ الدَّيْنِ أَنْ يُنْظِرَ الْمُعْسِرَ إِلَى الْمَيْسَرَةِ، وَغَايَةُ النَّفَقَةِ أَنْ تَكُونَ دَيْنًا، وَالْمَرْأَةُ مَأْمُورَةٌ بِإِنْظَارِ الزَّوْجِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ هَذَا إِنْ قِيلَ: تَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ، وَإِنْ قِيلَ: تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَالْفَسْخُ أَبْعَدُ وَأَبْعَدُ.
قَالُوا: فَاللَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ الصَّبْرَ عَلَى الْمُعْسِرِ، وَنَدَبَهُ إِلَى الصَّدَقَةِ بِتَرْكِ حَقِّهِ، وَمَا عَدَا هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَجَوْرٌ لَمْ يُبِحْهُ لَهُ، وَنَحْنُ نَقُولُ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ: إِمَّا أَنْ تُنْظِرِيهِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ وَإِمَّا أَنْ تَصَّدَّقِي، وَلَا حَقَّ لَكِ فِيمَا عَدَا هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ.
قَالُوا: وَلَمْ يَزَلْ فِي الصَّحَابَةِ الْمُعْسِرُ وَالْمُوسِرُ، وَكَانَ مُعْسِرُوهُمْ أَضْعَافَ أَضْعَافِ مُوسِرِيهِمْ، فَمَا مَكَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ امْرَأَةً وَاحِدَةً مِنَ الْفَسْخِ بِإِعْسَارِ زَوْجِهَا، وَلَا أَعْلَمَهَا أَنَّ الْفَسْخَ حَقٌّ لَهَا فَإِنْ شَاءَتْ صَبَرَتْ وَإِنْ شَاءَتْ فَسَخَتْ، وَهُوَ يُشَرِّعُ الْأَحْكَامَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ، فَهَبْ أَنَّ الْأَزْوَاجَ تَرَكْنَ حَقَّهُنَّ، أَفَمَا كَانَ فِيهِنَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ تُطَالِبُ بِحَقِّهَا؟ وَهَؤُلَاءِ نِسَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يُطَالِبْنَهُ بِالنَّفَقَةِ حَتَّى أَغْضَبْنَهُ، وَحَلَفَ أَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ، فَلَوْ كَانَ مِنَ الْمُسْتَقِرِّ فِي شَرْعِهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَمْلِكُ الْفَسْخَ بِإِعْسَارِ زَوْجِهَا لَرُفِعَ إِلَيْهِ ذَلِكَ وَلَوْ مِنِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ رُفِعَ إِلَيْهِ مَا ضَرُورَتُهُ دُونَ ضَرُورَةِ فَقْدِ النَّفَقَةِ مِنْ فَقْدِ النِّكَاحِ، وَقَالَتْ لَهُ امرأة رفاعة: إِنِّي نَكَحْتُ بَعْدَ رفاعة عبد الرحمن بن الزبير وَإِنَّ مَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ. تُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا كَانَ فِيهِمْ فِي
غَايَةِ النُّدْرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِعْسَارِ، فَمَا طَلَبَتْ مِنْهُ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بِالْإِعْسَارِ.
قَالُوا: وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْفَقْرَ وَالْغِنَى مَطِيَّتَيْنِ لِلْعِبَادِ، فَيَفْتَقِرُ الرَّجُلُ الْوَقْتَ وَيَسْتَغْنِي الْوَقْتَ، فَلَوْ كَانَ كُلُّ مَنِ افْتَقَرَ فَسَخَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ لَعَمَّ الْبَلَاءُ وَتَفَاقَمَ الشَّرُّ وَفُسِخَتْ أَنْكِحَةُ أَكْثَرِ الْعَالَمِ وَكَانَ الْفِرَاقُ بِيَدِ أَكْثَرِ النِّسَاءِ، فَمَنِ الَّذِي لَمْ تُصِبْهُ عُسْرَةٌ وَيَعُوزُ النَّفَقَةَ أَحْيَانًا.
قَالُوا: وَلَوْ تَعَذَّرَ مِنَ الْمَرْأَةِ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَرَضِ مُتَطَاوِلٍ وَأَعْسَرَتْ بِالْجِمَاعِ لَمْ يُمَكَّنِ الزَّوْجُ مِنْ فَسْخِ النِّكَاحِ، بَلْ يُوجِبُونَ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ كَامِلَةً مَعَ إِعْسَارِ زَوْجَتِهِ بِالْوَطْءِ، فَكَيْفَ يُمَكِّنُونَهَا مِنَ الْفَسْخِ بِإِعْسَارِهِ عَنِ النَّفَقَةِ الَّتِي غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ عِوَضًا عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ؟
قَالُوا: وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: امْرَأَتُكَ تَقُولُ: أَنْفِقْ عَلَيَّ وَإِلَّا طَلِّقْنِي، مِنْ كِيسِهِ، لَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا فِي " الصَّحِيحِ " عَنْهُ. وَرَوَاهُ عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ وَقَالَ: ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ: امْرَأَتُكَ تَقُولُ، فَذَكَرَ الزِّيَادَةَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أبي صالح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، فَأَشَارَ إِلَى حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ. قَالَ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، فَحَدِيثٌ مُنْكَرٌ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَصْلًا، وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَوْقُوفًا، وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ رُوِيَ بِالْمَعْنَى، وَأَرَادَ قَوْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه امْرَأَتُكَ تَقُولُ: أَطْعِمْنِي أَوْ طَلِّقْنِي، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، فَوَاللَّهِ مَا قَالَ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا سَمِعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَا حَدَّثَ بِهِ، كَيْفَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ لَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يَرْوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (امْرَأَتُكَ تَقُولُ: أَطْعِمْنِي وَإِلَّا طَلِّقْنِي)
وَيَقُولُ: هَذَا مِنْ كِيسِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ نِسْبَتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدُهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرَّ الْمَرْأَةَ بِأَنَّهُ ذُو مَالٍ فَتَزَوَّجَتْهُ عَلَى ذَلِكَ فَظَهَرَ مُعْدِمًا لَا شَيْءَ لَهُ، أَوْ كَانَ ذَا مَالٍ وَتَرَكَ الْإِنْفَاقَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى أَخْذِ كِفَايَتِهَا مِنْ مَالِهِ بِنَفْسِهَا وَلَا بِالْحَاكِمِ أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ، وَإِنْ تَزَوَّجَتْهُ عَالِمَةً بِعُسْرَتِهِ أَوْ كَانَ مُوسِرًا ثُمَّ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَلَا فَسْخَ لَهَا فِي ذَلِكَ، وَلَمْ تَزَلِ النَّاسُ تُصِيبُهُمُ الْفَاقَةُ بَعْدَ الْيَسَارِ وَلَمْ تَرْفَعْهُمْ أَزْوَاجُهُمْ إِلَى الْحُكَّامِ لِيُفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَقَدْ قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: لَا يَثْبُتُ لَهَا الْفَسْخُ بِالْإِعْسَارِ بِالصَّدَاقِ، وَهَذَا قَوْلُ أبي حنيفة وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أحمد رحمه الله اخْتَارَهُ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَفَصَّلَ الشَّيْخُ أبو إسحاق وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَا: إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ثَبَتَ بِهِ الْفَسْخُ، وَبَعْدَهُ لَا يَثْبُتُ، وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ مِنْ مَذْهَبِ أحمد هَذَا مَعَ أَنَّهُ عِوَضٌ مَحْضٌ، وَهُوَ أَحَقُّ أَنْ يُوَفَّى مِنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ، كُلُّ مَا تَقَرَّرَ فِي عَدَمِ الْفَسْخِ بِهِ فَمِثْلُهُ فِي النَّفَقَةِ وَأَوْلَى.
فَإِنْ قِيلَ: فِي الْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ مِنَ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ بِالزَّوْجَةِ مَا لَيْسَ فِي الْإِعْسَارِ بِالصَّدَاقِ، فَإِنَّ الْبِنْيَةَ تَقُومُ بِدُونِهِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ. قِيلَ: وَالْبِنْيَةُ قَدْ تَقُومُ بِدُونِ نَفَقَتِهِ بِأَنْ تُنْفِقَ مِنْ مَالِهَا أَوْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا ذُو قَرَابَتِهَا أَوْ تَأْكُلَ مِنْ غَزْلِهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَتَعِيشُ بِمَا تَعِيشُ بِهِ زَمَنَ الْعِدَّةِ، وَتُقَدِّرُ زَمَنَ عُسْرَةِ الزَّوْجِ كُلَّهُ عِدَّةً.
ثُمَّ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ لَهَا الْفَسْخَ يَقُولُونَ: لَهَا أَنْ تَفْسَخَ وَلَوْ كَانَ مَعَهَا الْقَنَاطِيرُ الْمُقَنْطَرَةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِذَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَنْ نَفَقَتِهَا، وَبِإِزَاءِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ مِنْجَنِيقِ الْغَرْبِ أبي محمد ابن حزم: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَتُعْطِيهِ مَالَهَا وَتُمَكِّنُهُ مِنْ نَفْسِهَا، وَمِنَ الْعَجَبِ قَوْلُ العنبري بِأَنَّهُ يُحْبَسُ.
وَإِذَا تَأَمَّلْتَ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدَهَا، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ