الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِأَبٍ، فَوَافَقْنَا الْحُكْمَيْنِ وَقُلْنَا بِالْأَمْرَيْنِ، وَلَمْ نُفَرِّقْ تَفْرِيقًا بَارِدًا جِدًّا سَمِجًا لَا أَثَرَ لَهُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ حَمْلًا وَنَفْيِهِ مَوْلُودًا، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تَأْتِي عَلَى هَذَا الْفَرْقِ الصُّورِيِّ الَّذِي لَا مَعْنَى تَحْتَهُ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يَرْتَضِي هَذَا مَنْ قَلَّ نَصِيبُهُ مِنْ ذَوْقِ الْفِقْهِ وَأَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ وَحِكَمِهَا وَمَعَانِيهَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ.
[فصل إِلْحَاقُ وَلَدِ اللِّعَانِ بِأُمِّهِ]
فَصْلٌ
الْحُكْمُ السَّابِعُ: إِلْحَاقُ الْوَلَدِ بِأُمِّهِ عِنْدَ انْقِطَاعِ نَسَبِهِ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ، وَهَذَا الْإِلْحَاقُ يُفِيدُ حُكْمًا زَائِدًا عَلَى إِلْحَاقِهِ بِهَا مَعَ ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنَ الْأَبِ، وَإِلَّا كَانَ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ، فَإِنَّ خُرُوجَ الْوَلَدِ مِنْهَا أَمْرٌ مُحَقَّقٌ، فَلَا بُدَّ فِي الْإِلْحَاقِ مِنْ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَا كَانَ حَاصِلًا مَعَ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنَ الْأَبِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَفَادَ هَذَا الْإِلْحَاقُ قَطْعَ تَوَهُّمِ انْقِطَاعِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنَ الْأُمِّ كَمَا انْقَطَعَ مِنَ الْأَبِ، وَأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَى أُمٍّ وَلَا إِلَى أَبٍ، فَقَطَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْوَهْمَ وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْأُمِّ، وَأَكَّدَ هَذَا بِإِيجَابِهِ الْحَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَهُ أَوْ قَذَفَ أُمَّهُ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ومالك وأبي حنيفة، وَكُلِّ مَنْ لَا يَرَى أَنَّ أُمَّهُ وَعَصَبَاتِهَا لَهُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ ثَانِيَةٌ: بَلْ أَفَادَنَا هَذَا الْإِلْحَاقُ فَائِدَةً زَائِدَةً، وَهِيَ تَحْوِيلُ النَّسَبِ الَّذِي كَانَ إِلَى أَبِيهِ إِلَى أُمِّهِ، وَجَعْلُ أُمِّهِ قَائِمَةً مَقَامَ أَبِيهِ فِي ذَلِكَ، فَهِيَ عَصَبَتُهُ وَعَصَبَاتُهَا أَيْضًا عَصَبَتُهُ، فَإِذَا مَاتَ حَازَتْ مِيرَاثَهُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَيُرْوَى عَنْ علي، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ؛ لِمَا رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:( «تَحُوزُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ مَوَارِيثَ: عَتِيقَهَا وَلَقِيطَهَا وَوَلَدَهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ» ) وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَذَهَبَ إِلَيْهِ.
وَرَوَى أبو داود فِي " سُنَنِهِ ": مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ( «جَعَلَ مِيرَاثَ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ لِأُمِّهِ وَلِوَرَثَتِهَا مِنْ بَعْدِهَا» )
وَفِي " السُّنَنِ " أَيْضًا مُرْسَلًا: مِنْ حَدِيثِ مكحول قَالَ: ( «جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِيرَاثَ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ لِأُمِّهِ وَلِوَرَثَتِهَا مِنْ بَعْدِهَا» )
وَهَذِهِ الْآثَارُ مُوَافِقَةٌ لِمَحْضِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ النَّسَبَ فِي الْأَصْلِ لِلْأَبِ، فَإِذَا انْقَطَعَ مِنْ جِهَتِهِ صَارَ لِلْأُمِّ، كَمَا أَنَّ الْوَلَاءَ فِي الْأَصْلِ لِمُعْتِقِ الْأَبِ، فَإِذَا كَانَ الْأَبُ رَقِيقًا كَانَ لِمُعْتِقِ الْأُمِّ. فَلَوْ أَعْتَقَ الْأَبُ بَعْدَ هَذَا انْجَرَّ الْوَلَاءُ مِنْ مَوَالِي الْأُمِّ إِلَيْهِ وَرَجَعَ إِلَى أَصْلِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا إِذَا كَذَّبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ وَاسْتَلْحَقَ الْوَلَدَ رَجَعَ النَّسَبُ وَالتَّعْصِيبُ مِنَ الْأُمِّ وَعَصَبَتِهَا إِلَيْهِ. فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمُوجَبُ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ حَبْرِ الْأُمَّةِ وَعَالِمِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَمَذْهَبُ إِمَامَيْ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي زَمَانِهِمَا أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْقُرْآنُ بِأَلْطَفِ إِيمَاءٍ وَأَحْسَنِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ بِوَاسِطَةِ مريم أُمِّهِ، وَهِيَ مِنْ صَمِيمِ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ تَقْرِيرٍ لِهَذَا عِنْدَ ذِكْرِ أَقْضِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَحْكَامِهِ فِي الْفَرَائِضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ سهل الَّذِي رَوَاهُ مسلم فِي " صَحِيحِهِ " فِي قِصَّةِ اللِّعَانِ وَفِي آخِرِهِ: ثُمَّ جَرَتِ السُّنَّةُ أَنْ يَرِثَ مِنْهَا وَتَرِثَ مِنْهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا؟
قِيلَ: نَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْقَوْلِ بِمُوجَبِهِ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مُدْرَجًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ شِهَابٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ فَإِنَّ تَعْصِيبَ الْأُمِّ لَا يُسْقِطُ مَا فَرَضَ اللَّهَ لَهَا مِنْ وَلَدِهَا فِي كِتَابِهِ، وَغَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ كَالْأَبِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ لَهُ الْفَرْضُ وَالتَّعْصِيبُ، فَهِيَ تَأْخُذُ فَرْضَهَا وَلَا بُدَّ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَخَذَتْهُ