الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالُوا: وَأَيْضًا فَالْعَادَةُ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اخْتِيَارَ أَحَدِهِمَا يُضْعِفُ رَغْبَةَ الْآخَرِ فِيهِ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَصِيَانَتِهِ، فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْآخَرِ لَمْ يَبْقَ أَحَدُهُمَا تَامَّ الرّغْبَةِ فِي حِفْظِهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ.
فَإِنْ قُلْتُمْ فَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الصَّبِيِّ وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ تَخْيِيرَهُ. قُلْنَا: صَدَقْتُمْ لَكِنْ عَارَضَهُ كَوْنُ الْقُلُوبِ مَجْبُولَةً عَلَى حُبِّ الْبَنِينَ، وَاخْتِيَارِهِمْ عَلَى الْبَنَاتِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ نَقْصُ الرَّغْبَةِ، وَنَقْصُ الْأُنُوثَةِ، وَكَرَاهَةُ الْبَنَاتِ فِي الْغَالِبِ - ضَاعَتِ الطِّفْلَةُ، وَصَارَتْ إِلَى فَسَادٍ يَعْسُرُ تَلَافِيهِ، وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِهَذَا، وَالْفِقْهُ تَنْزِيلُ الْمَشْرُوعِ عَلَى الْوَاقِعِ، وَسِرُّ الْفَرْقِ أَنَّ الْبِنْتَ تَحْتَاجُ مِنَ الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ فَوْقَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الصَّبِيُّ؛ وَلِهَذَا شُرِعَ فِي حَقِّ الْإِنَاثِ مِنَ السِّتْرِ وَالْخَفَرِ مَا لَمْ يُشْرَعْ مِثْلُهُ لِلذُّكُورِ فِي اللِّبَاسِ وَإِرْخَاءِ الذَّيْلِ شِبْرًا أَوْ أَكْثَرَ، وَجَمْعِ نَفْسِهَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ دُونَ التَّجَافِي، وَلَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَلَا تَرْمُلُ فِي الطَّوَافِ، وَلَا تَتَجَرَّدُ فِي الْإِحْرَامِ عَنِ الْمَخِيطِ، وَلَا تَكْشِفُ رَأْسَهَا، وَلَا تُسَافِرُ وَحْدَهَا، هَذَا كُلُّهُ مَعَ كِبَرِهَا وَمَعْرِفَتِهَا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ فِي سِنِّ الصِّغَرِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ الَّذِي يُقْبَلُ فِيهِ الِانْخِدَاعُ؟ وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَرَدُّدَهَا بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ مِمَّا يَعُودُ عَلَى الْمَقْصُودِ بِالْإِبْطَالِ، أَوْ يُخِلُّ بِهِ، أَوْ يُنْقِصُهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَقِرُّ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، فَكَانَ الْأَصْلَحُ لَهَا أَنْ تُجْعَلَ عِنْدَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، فَتَخْيِيرُهَا لَيْسَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ فَيَلْحَقُ بِهِ.
[اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لِمُقَامِ الْبِنْتِ عِنْدَهُ]
ثُمَّ هَاهُنَا حَصَلَ الِاجْتِهَادُ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لِمُقَامِهَا عِنْدَهُ وَأَيُّهُمَا أَصْلَحُ لَهَا، فمالك وأبو حنيفة وأحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ عَيَّنُوا الْأُمَّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ دَلِيلًا، وأحمد رحمه الله فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَاخْتِيَارُ عَامَّةِ أَصْحَابِهِ عَيَّنُوا الْأَبَ.
قَالَ مَنْ رَجَّحَ الْأُمَّ: قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّ الْأَبَ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَعَاشِ،
وَالْخُرُوجِ، وَلِقَاءِ النَّاسِ، وَالْأُمُّ فِي خِدْرِهَا، مَقْصُورَةٌ فِي بَيْتِهَا، فَالْبِنْتُ عِنْدَهَا أَصْوَنُ وَأَحْفَظُ بِلَا شَكٍّ، وَعَيْنُهَا عَلَيْهَا دَائِمًا بِخِلَافِ الْأَبِ، فَإِنَّهُ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ غَائِبٌ عَنِ الْبِنْتِ، أَوْ فِي مَظِنَّةِ ذَلِكَ، فَجَعْلُهَا عِنْدَ أُمِّهَا أَصْوَنُ لَهَا وَأَحْفَظُ.
قَالُوا: وَكُلُّ مَفْسَدَةٍ يَعْرِضُ وُجُودُهَا عِنْدَ الْأُمِّ فَإِنَّهَا تَعْرِضُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهَا عِنْدَ الْأَبِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَرَكَهَا فِي الْبَيْتِ وَحْدَهَا لَمْ يَأْمَنْ عَلَيْهَا، وَإِنْ تَرَكَ عِنْدَهَا امْرَأَتَهُ أَوْ غَيْرَهَا فَالْأُمُّ أَشْفَقُ عَلَيْهَا وَأَصْوَنُ لَهَا مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ.
قَالُوا: وَأَيْضًا فَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى تَعَلُّمِ مَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ مِنَ الْغَزْلِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْبَيْتِ، وَهَذَا إِنَّمَا تَقُومُ بِهِ النِّسَاءُ لَا الرِّجَالُ، فَهِيَ أَحْوَجُ إِلَى أُمِّهَا لِتُعَلِّمَهَا مَا يَصْلُحُ لِلْمَرْأَةِ، وَفِي دَفْعِهَا إِلَى أَبِيهَا تَعْطِيلُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ، وَإِسْلَامُهَا إِلَى امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ تُعَلِّمُهَا ذَلِكَ، وَتَرْدِيدُهَا بَيْنَ الْأُمِّ وَبَيْنَهُ، وَفِي ذَلِكَ تَمْرِينٌ لَهَا عَلَى الْبُرُوزِ وَالْخُرُوجِ، فَمَصْلَحَةُ الْبِنْتِ وَالْأُمِّ وَالْأَبِ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ أُمِّهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي لَا نَخْتَارُ سِوَاهُ.
قَالَ مَنْ رَجَّحَ الْأَبَ: الرِّجَالُ أَغْيَرُ عَلَى الْبَنَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، فَلَا تَسْتَوِي غَيْرَةُ الرَّجُلِ عَلَى ابْنَتِهِ وَغَيْرَةُ الْأُمِّ أَبَدًا، وَكَمْ مِنْ أُمٍّ تُسَاعِدُ ابْنَتَهَا عَلَى مَا تَهْوَاهُ، وَيَحْمِلُهَا عَلَى ذَلِكَ ضَعْفُ عَقْلِهَا، وَسُرْعَةُ انْخِدَاعِهَا، وَضَعْفُ دَاعِي الْغَيْرَةِ فِي طَبْعِهَا، بِخِلَافِ الْأَبِ؛ وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَغَيْرِهِ جَعَلَ الشَّارِعُ تَزْوِيجَهَا إِلَى أَبِيهَا دُونَ أُمِّهَا، وَلَمْ يَجْعَلْ لِأُمِّهَا وِلَايَةً عَلَى بُضْعِهَا الْبَتَّةَ، وَلَا عَلَى مَالِهَا، فَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ أُمِّهَا مَا دَامَتْ مُحْتَاجَةً إِلَى الْحَضَانَةِ وَالتَّرْبِيَةِ، فَإِذَا بَلَغَتْ حَدًّا تُشْتَهَى فِيهِ وَتَصْلُحُ لِلرِّجَالِ، فَمِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ مَنْ هُوَ أَغْيَرُ عَلَيْهَا، وَأَحْرَصُ عَلَى مَصْلَحَتِهَا، وَأَصْوَنُ لَهَا مِنَ الْأُمِّ.
قَالُوا: وَنَحْنُ نَرَى فِي طَبِيعَةِ الْأَبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ مِنَ الْغَيْرَةِ، وَلَوْ مَعَ فِسْقِهِ وَفُجُورِهِ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى قَتْلِ ابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَمُوَلِّيَتِهِ إِذَا رَأَى مِنْهَا مَا يُرِيبُهُ لِشِدَّةِ الْغَيْرَةِ، وَنَرَى فِي طَبِيعَةِ النِّسَاءِ مِنَ الِانْحِلَالِ وَالِانْخِدَاعِ ضِدَّ ذَلِكَ، قَالُوا: فَهَذَا هُوَ
الْغَالِبُ عَلَى النَّوْعَيْنِ، وَلَا عِبْرَةَ بِمَا خَرَجَ عَنِ الْغَالِبِ، عَلَى أَنَّا إِذَا قَدَّمْنَا أَحَدَ الْأَبَوَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ نُرَاعِيَ صِيَانَتَهُ وَحِفْظَهُ لِلطِّفْلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مالك والليث: إِذَا لَمْ تَكُنِ الْأُمُّ فِي مَوْضِعِ حِرْزٍ وَتَحْصِينٍ، أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْضِيَّةٍ، فَلِلْأَبِ أَخْذُ الْبِنْتِ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ قُدْرَتَهُ عَلَى الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ. فَإِنْ كَانَ مُهْمِلًا لِذَلِكَ، أَوْ عَاجِزًا عَنْهُ، أَوْ غَيْرَ مَرْضِيٍّ، أَوْ ذَا دِيَاثَةٍ، وَالْأُمُّ بِخِلَافِهِ - فَهِيَ أَحَقُّ بِالْبِنْتِ بِلَا رَيْبٍ، فَمَنْ قَدَّمْنَاهُ بِتَخْيِيرٍ أَوْ قُرْعَةٍ أَوْ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّمَا نُقَدِّمُهُ إِذَا حَصَلَتْ بِهِ مَصْلَحَةُ الْوَلَدِ، وَلَوْ كَانَتِ الْأُمُّ أَصْوَنَ مِنَ الْأَبِ وَأَغْيَرَ مِنْهُ قُدِّمَتْ عَلَيْهِ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى قُرْعَةٍ وَلَا اخْتِيَارِ الصَّبِيِّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَإِنَّهُ ضَعِيفُ الْعَقْلِ يُؤْثِرُ الْبَطَالَةَ وَاللَّعِبَ، فَإِذَا اخْتَارَ مَنْ يُسَاعِدُهُ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى اخْتِيَارِهِ، وَكَانَ عِنْدَ مَنْ هُوَ أَنْفَعُ لَهُ وَأَخْيَرُ، وَلَا تَحْتَمِلُ الشَّرِيعَةُ غَيْرَ هَذَا، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ:( «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» )، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6][التَّحْرِيمِ 6] . وَقَالَ الحسن: عَلِّمُوهُمْ وَأَدِّبُوهُمْ وَفَقِّهُوهُمْ، فَإِذَا كَانَتِ الْأُمُّ تَتْرُكُهُ فِي الْمَكْتَبِ، وَتُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ، وَالصَّبِيُّ يُؤْثِرُ اللَّعِبَ وَمُعَاشَرَةَ أَقْرَانِهِ، وَأَبُوهُ يُمَكِّنُهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِهِ بِلَا تَخْيِيرٍ وَلَا قُرْعَةٍ، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ، وَمَتَى أَخَلَّ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الصَّبِيِّ وَعَطَّلَهُ، وَالْآخَرُ مُرَاعٍ لَهُ فَهُوَ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِهِ.
وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا رحمه الله يَقُولُ: تَنَازَعَ أَبَوَانِ صَبِيًّا عِنْدَ بَعْضِ الْحُكَّامِ، فَخَيَّرَهُ بَيْنَهُمَا، فَاخْتَارَ أَبَاهُ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: سَلْهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَخْتَارُ أَبَاهُ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: أُمِّي تَبْعَثُنِي كُلَّ يَوْمٍ لِلْكُتَّابِ، وَالْفَقِيهُ يَضْرِبُنِي، وَأَبِي يَتْرُكُنِي لِلَّعِبِ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَقَضَى بِهِ لِلْأُمِّ، قَالَ: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَإِذَا تَرَكَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ تَعْلِيمَ الصَّبِيِّ، وَأَمْرَهُ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ