الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَغْنَمٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَارِفًا آخَرَ، فَأَنَخْتُهُمَا يَوْمًا عِنْدَ بَابِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهِمَا إِذْخِرًا لِأَبِيعَهُ» ) . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَهَذَا فِي الْكَلَأِ وَالْحَطَبِ الْمُبَاحِ بَعْدَ أَخْذِهِ وَإِحْرَازِهِ، وَكَذَلِكَ السَّمَكُ وَسَائِرُ الْمُبَاحَاتِ، وَلَيْسَ هَذَا مَحِلُّ النَّهْيِ بِالضَّرُورَةِ، وَلَا مَحِلُّ النَّهْيِ أَيْضًا بَيْعُ مِيَاهِ الْأَنْهَارِ الْكِبَارِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ مَنْعُهَا، وَالْحَجْرُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا مَحِلُّ النَّهْيِ صُوَرٌ، أَحَدُهَا: الْمِيَاهُ الْمُنْتَقِعَةُ مِنَ الْأَمْطَارِ إِذَا اجْتَمَعَتْ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ، فَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِالتَّقْدِيمِ لِقُرْبِ أَرْضِهِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَهَذَا النَّوْعُ لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ وَلَا مَنْعُهُ، وَمَانِعُهُ عَاصٍ مُسْتَوْجِبٌ لِوَعِيدِ اللَّهِ وَمَنْعِ فَضْلِهِ إِذْ مَنَعَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَوِ اتَّخَذَ فِي أَرْضِهِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ حُفْرَةً يَجْمَعُ فِيهَا الْمَاءَ، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، فَهَلْ يَمْلِكُهُ بِذَلِكَ، وَيَحِلُّ لَهُ بَيْعُهُ؟ قِيلَ: لَا رَيْبَ أَنَّهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَتَى كَانَ الْمَاءُ النَّابِعُ فِي مِلْكِهِ، وَالْكَلَأُ وَالْمَعْدِنُ فَوْقَ كِفَايَتِهِ لِشُرْبِهِ وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ وَدَوَابِّهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَذْلُهُ، نَصَّ عَلَيْهِ أحمد، وَهَذَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وَعِيدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ إِنَّمَا تَوَعَّدَ مَنْ مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ، وَلَا فَضْلَ فِي هَذَا.
[فصل يَجِبُ بَذْلُ مَا فَضَلَ مِنَ الْمَاءِ عَنْ حَاجَتِهِ وَحَاجَةِ بَهَائِمِهِ وَزَرْعِهِ لِمَنْ طَلَبَهُ لِحَاجَتِهِ أَوْ حَاجَةِ بَهَائِمِهِ وَالِاخْتِلَافُ فِي بَذْلِهِ لِزَرْعِ غَيْرِهِ]
فَصْلٌ.
وَمَا فَضَلَ مِنْهُ عَنْ حَاجَتِهِ وَحَاجَةِ بَهَائِمِهِ وَزَرْعِهِ، وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ آدَمِيٌّ مِثْلُهُ، أَوْ بَهَائِمُهُ، بَذَلَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى الْمَاءِ وَيَشْرَبَ. وَيَسْقِي مَاشِيَتَهُ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْمَاءِ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ الشَّارِبَ وَسَاقِيَ الْبَهَائِمِ عِوَضٌ. وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَبْذُلَ لَهُ الدَّلْوَ وَالْبَكَرَةَ وَالْحَبْلَ مَجَّانًا، أَوْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَتَهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ أحمد فِي وُجُوبِ إِعَارَةِ الْمَتَاعِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، أَظْهَرُهُمَا دَلِيلًا وُجُوبُهُ، وَهُوَ مِنَ الْمَاعُونِ.
قَالَ أحمد: إِنَّمَا هَذَا فِي
الصَّحَارِي وَالْبَرِيَّةِ دُونَ الْبُنْيَانِ يَعْنِي: أَنَّ الْبُنْيَانَ إِذَا كَانَ فِيهِ الْمَاءُ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ الدُّخُولُ إِلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ بَذْلُ فَضْلِ مَائِهِ لِزَرْعِ غَيْرِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أحمد.
أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ سَقْيُهُ بِخِلَافِ الْمَاشِيَةِ.
وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ، وَاحْتَجَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِالْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَعُمُومِهَا، وَمِمَّا رُوِيَ ( «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ قَيِّمَ أَرْضِهِ بِالْوَهْطِ كَتَبَ إِلَيْهِ يُخْبِرُهُ أَنَّهُ سَقَى أَرْضَهُ، وَفَضَلَ لَهُ مِنَ الْمَاءِ فَضْلٌ يُطْلَبُ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله عنهما: أَقِمْ قِلْدَكَ، ثُمَّ اسْقِ الْأَدْنَى، فَالْأَدْنَى، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ» ) .
قَالُوا: وَفِي مَنْعِهِ مِنْ سَقْيِ الزَّرْعِ إِهْلَاكُهُ وَإِفْسَادُهُ، فَحَرُمَ كَالْمَاشِيَةِ. وَقَوْلُكُمْ: لَا حُرْمَةَ لَهُ، فَلِصَاحِبِهِ حُرْمَةٌ، فَلَا يَجُوزُ التَّسَبُّبُ إِلَى إِهْلَاكِ مَالِهِ، وَمَنْ سَلَّمَ لَكُمْ أَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِلزَّرْعِ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْنَعَ نَفْيَ الْحُرْمَةِ عَنْهُ، فَإِنَّ إِضَاعَةَ الْمَالِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَإِتْلَافَهُ مُحَرَّمٌ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى حُرْمَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ فِي أَرْضِهِ أَوْ دَارِهِ بِئْرٌ نَابِعَةٌ، أَوْ عَيْنٌ مُسْتَنْبَطَةٌ، فَهَلْ تَكُونُ مَلِكًا لَهُ تَبَعًا لِمِلْكِ الْأَرْضِ وَالدَّارِ؟ قِيلَ: أَمَّا نَفْسُ الْبِئْرِ وَأَرْضُ الْعَيْنِ فَمَمْلُوكَةٌ لِمَالِكِ الْأَرْضِ، وَأَمَّا الْمَاءُ فَفِيهِ قَوْلَانِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أحمد، وَوَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ إِلَى مِلْكِهِ، فَأَشْبَهَ الْجَارِيَ فِي النَّهْرِ إِلَى مِلْكِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ، قَالَ أحمد فِي رَجُلٍ لَهُ أَرْضٌ وَلِآخَرَ مَاءٌ، فَاشْتَرَكَ صَاحِبُ الْأَرْضِ وَصَاحِبُ الْمَاءِ فِي الزَّرْعِ: يَكُونُ بَيْنَهُمَا؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ أبي بكر.
وَفِي مَعْنَى الْمَاءِ الْمَعَادِنُ الْجَارِيَةُ فِي الْأَمْلَاكِ كَالْقَارِ وَالنِّفْطِ وَالْمُومْيَا وَالْمِلْحِ، وَكَذَلِكَ الْكَلَأُ النَّابِتُ فِي أَرْضِهِ كُلُّ ذَلِكَ يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَاءِ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ هَذَا الْمَاءَ لَا يُمَلَّكُ، وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ قَالَ أحمد: لَا يُعْجِبُنِي بَيْعُ الْمَاءِ الْبَتَّةَ، وَقَالَ الأثرم: سَمِعْتُ أبا عبد الله يَسْأَلُ عَنْ قَوْمٍ بَيْنَهُمْ نَهْرٌ تَشْرَبُ مِنْهُ أَرْضُهُمْ لِهَذَا يَوْمٌ، وَلِهَذَا يَوْمَانِ يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ بِالْحِصَصِ، فَجَاءَ يَوْمِي وَلَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَكْرِيهِ بِدَرَاهِمَ؟ قَالَ: مَا أَدْرِي، أَمَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ، قِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ يَبِيعُهُ، إِنَّمَا يَكْرِيهِ، قَالَ: إِنَّمَا احْتَالُوا بِهَذَا لِيُحَسِّنُوهُ، فَأَيُّ شَيْءٍ هَذَا إِلَّا الْبَيْعُ انْتَهَى.
وَأَحَادِيثُ اشْتِرَاكِ النَّاسِ فِي الْمَاءِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا أحمد هِيَ الَّتِي قَدِ ابْتُلِيَ بِهَا النَّاسُ فِي أَرْضِ الشَّامِ وَبَسَاتِينِهِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ الْأَرْضَ وَالْبُسْتَانَ يَكُونُ لَهُ حَقٌّ مِنَ الشُّرْبِ مِنْ نَهْرٍ، فَيَفْصِلُ عَنْهُ، أَوْ يَبْنِيهِ دُورًا وَحَوَانِيتَ، وَيُؤَجِّرُ مَاءَهُ، فَقَدْ تَوَقَّفَ أحمد أَوَّلًا، ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنَّ هَذِهِ إِجَارَةٌ، قَالَ: هَذِهِ التَّسْمِيَةُ حِيلَةٌ، وَهِيَ تَحْسِينُ اللَّفْظِ، وَحَقِيقَةُ الْعَقْدِ الْبَيْعُ، وَقَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ تَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ بَيْعِ هَذَا الْمَاءِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ لَهُ حَقُّ التَّقْدِيمِ فِي سَقْيِ أَرْضِهِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهُ، وَكَانَ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ أَوْلَى بِهِ بَعْدَهُ، وَهَذَا كَمَنْ أَقَامَ عَلَى مَعْدِنٍ، فَأَخَذَ مِنْهُ حَاجَتَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بَاقِيَهُ بَعْدَ نَزْعِهِ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ مَنْ سَبَقَ إِلَى الْجُلُوسِ فِي رَحْبَةٍ أَوْ طَرِيقٍ وَاسِعَةٍ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا دَامَ جَالِسًا، فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْهَا، وَأَجَّرَ مَقْعَدَهُ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ الْمُبَاحَةُ إِذَا كَانَ فِيهَا كَلَأٌ أَوْ عُشْبٌ، فَسَبَقَ بِدَوَابِّهِ إِلَيْهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِرَعْيِهِ مَا دَامَتْ دَوَابُّهُ فِيهِ، فَإِذَا طُلِبَ الْخُرُوجُ مِنْهَا، وَبِيعَ مَا فَضَلَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَهَكَذَا هَذَا الْمَاءُ سَوَاءٌ، فَإِنَّهُ إِذَا فَارَقَ أَرْضَهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَأِ الَّذِي لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِهِ، وَلَا هُوَ فِي أَرْضِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذَا الْمَاءَ فِي نَفْسِ أَرْضِهِ، فَهُوَ مَنْفَعَةٌ مِنْ مَنَافِعِهَا، فَمَلَكَهُ بِمِلْكِهَا كَسَائِرِ مَنَافِعِهَا بِخِلَافِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الصُّوَرِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْأَعْيَانَ لَيْسَتْ مِنْ مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ وَالتَّقْدِيمِ إِذَا سَبَقَ خَاصَّةً.
قِيلَ: هَذِهِ النُّكْتَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا جَوَّزَ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ أَرْضِهِ، فَمَلَكَ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ كَمَا يَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ مَعَ الْأَرْضِ، فَيُقَالُ: حَقُّ أَرْضِهِ فِي الِانْتِفَاعِ لَا فِي مِلْكِ الْعَيْنِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِيهَا بِوَصْفِ الِاشْتِرَاكِ، وَجَعَلَ حَقَّهُ فِي تَقْدِيمِ الِانْتِفَاعِ عَلَى غَيْرِهِ فِي التَّحَجُّرِ وَالْمُعَاوَضَةِ، فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ وَحِكْمَتُهُ وَاشْتِمَالُهُ عَلَى مَصَالِحِ الْعَالَمِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا دَخَلَ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَأَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا، مَلَكَهُ، لِأَنَّهُ مُبَاحٌ فِي الْأَصْلِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَشَّشَ فِي أَرْضِهِ طَائِرٌ، أَوْ حَصَلَ فِيهَا ظَبْيٌ، أَوْ نَضَبَ مَاؤُهَا عَنْ سَمَكٍ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ فَأَخَذَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ دُخُولِ مِلْكِهِ، وَهَلْ يَجُوزُ دُخُولُهُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؟
قِيلَ: قَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ مِلْكِهِ لِأَخْذِ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، وَلَا فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، بَلْ قَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ الرَّعْيِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مُبَاحَةٍ مَعَ أَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ وَلَا مُسْتَأْجَرَةً، وَدُخُولُهَا لِغَيْرِ الرَّعْيِ مَمْنُوعٌ مِنْهُ. فَالصَّوَابُ أَنَّهُ
يَجُوزُ لَهُ دُخُولُهَا لِأَخْذِ مَا لَهُ أَخْذُهُ، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ غَالِبًا اسْتِئْذَانُ مَالِكِهَا، وَيَكُونُ قَدِ احْتَاجَ إِلَى الشُّرْبِ وَسَقْيِ بَهَائِمِهِ، وَرَعْيِ الْكَلَأِ، وَمَالِكُ الْأَرْضِ غَائِبٌ، فَلَوْ مَنَعْنَاهُ مِنْ دُخُولِهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ كَانَ فِي ذَلِكَ إِضْرَارٌ بِبَهَائِمِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِهَذَا الْإِذْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ مَنْعُهُ مِنَ الدُّخُولِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَمْكِينُهُ، فَغَايَةُ مَا يُقَدَّرُ أَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ، وَهَذَا حَرَامٌ عَلَيْهِ شَرْعًا لَا يَحِلُّ لَهُ مَنْعُهُ مِنَ الدُّخُولِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي تَوَقُّفِ دُخُولِهِ عَلَى الْإِذْنِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَخْذِ حَقِّهِ الَّذِي جَعَلَهُ لَهُ الشَّارِعُ إِلَّا بِالدُّخُولِ، فَهُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا، بَلْ لَوْ كَانَ دُخُولُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لِغَيْرَةِ عَلَى حَرِيمِهِ وَعَلَى أَهْلِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ، أَوْ دَارٍ فِيهَا بِئْرٌ وَلَا أَنِيسَ بِهَا، فَلَهُ الدُّخُولُ بِإِذْنٍ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29][النُّورِ: 29] ، وَهَذَا الدُّخُولُ الَّذِي رُفِعَ عَنْهُ الْجُنَاحُ هُوَ الدُّخُولُ بِلَا إِذْنٍ، فَإِنَّهُ قَدْ مَنَعَهُمْ قَبْلُ مِنَ الدُّخُولِ لِغَيْرِ بُيُوتِهِمْ حَتَّى يَسْتَأْنِسُوا وَيُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا، وَالِاسْتِئْنَاسُ هُنَا: الِاسْتِئْذَانُ، وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ بَعْضِ السَّلَفِ كَذَلِكَ، ثُمَّ رُفِعَ عَنْهُمُ الْجُنَاحُ فِي دُخُولِ الْبُيُوتِ غَيْرِ الْمَسْكُونَةِ لِأَخْذِ مَتَاعِهِمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الدُّخُولِ إِلَى بَيْتِ غَيْرِهِ وَأَرْضِهِ غَيْرِ الْمَسْكُونَةِ، لِأَخْذِ حَقِّهِ مِنَ الْمَاءِ وَالْكَلَأِ، فَهَذَا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَهُوَ مُقْتَضَى نَصِّ أحمد وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي بَيْعِ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ نَفْسِهَا: هَلْ يَجُوزُ؟ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ بَيْعِ فَضْلِ مَاءِ الْبِئْرِ وَالْعُيُونُ فِي قَرَارِهِ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْبِئْرِ نَفْسِهَا وَالْعَيْنِ، وَمُشْتَرِيهَا أَحَقُّ بِمَائِهَا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ يُوَسِّعُ بِهَا عَلَى
الْمُسْلِمِينَ وَلَهُ الْجَنَّةُ» ) أَوْ كَمَا قَالَ، فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه مِنْ يَهُودِيٍّ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَبَّلَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ الْيَهُودِيُّ يَبِيعُ مَاءَهَا. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ عثمان رضي الله عنه اشْتَرَى مِنْهُ نِصْفَهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ قَالَ لِلْيَهُودِيِّ: اخْتَرْ إِمَّا أَنْ تَأْخُذَهَا يَوْمًا وَآخُذَهَا يَوْمًا، وَإِمَّا أَنْ تَنْصِبَ لَكَ عَلَيْهَا دَلْوًا، وَأَنْصِبَ عَلَيْهَا دَلْوًا، فَاخْتَارَ يَوْمًا وَيَوْمًا، فَكَانَ النَّاسُ يَسْتَقُونَ مِنْهَا فِي يَوْمِ عثمان لِلْيَوْمَيْنِ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَفْسَدْتَ عَلَيَّ بِئْرِي فَاشْتَرِ بَاقِيَهَا، فَاشْتَرَاهُ بِثَمَانِيَةِ آلَافٍ، فَكَانَ فِي هَذَا حُجَّةٌ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْبِئْرِ وَجَوَازِ شِرَائِهَا، وَتَسْبِيلِهَا، وَصِحَّةِ بَيْعِ مَا يُسْقَى مِنْهَا، وَجَوَازِ قِسْمَةِ الْمَاءِ بِالْمُهَايَأَةِ، وَعَلَى كَوْنِ الْمَالِكِ أَحَقَّ بِمَائِهَا، وَجَوَازِ قِسْمَةِ مَا فِيهِ حَقٌّ وَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ عِنْدَكُمْ لَا يُمَلَّكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَسْتَقِيَ مِنْهُ حَاجَتَهُ، فَكَيْفَ أَمْكَنَ الْيَهُودِيُّ تَحَجُّرَهُ حَتَّى اشْتَرَى عثمان الْبِئْرَ وَسَبَّلَهَا، فَإِنْ قُلْتُمُ: اشْتَرَى نَفْسَ الْبِئْرِ وَكَانَتْ مَمْلُوكَةً، وَدَخَلَ الْمَاءُ تَبَعًا، أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّكُمْ قَرَّرْتُمْ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ دُخُولُ أَرْضِ غَيْرِهِ لِأَخْذِ الْكَلَأِ وَالْمَاءِ، وَقَضِيَّةُ بِئْرِ الْيَهُودِيِّ تَدُلُّ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ وَلَا بُدَّ؛ إِمَّا مِلْكُ الْمَاءِ بِمِلْكِ قَرَارِهِ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الْأَرْضِ لِأَخْذِ مَا فِيهَا مِنَ الْمُبَاحِ إِلَّا بِإِذْنِ مَالِكِهَا.
قِيلَ: هَذَا سُؤَالٌ قَوِيٌّ، وَقَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ، وَمَنْ مَنَعَ الْأَمْرَيْنِ، يُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَحِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَبْلَ تَقَرُّرِ الْأَحْكَامِ، وَكَانَ الْيَهُودُ إِذْ ذَاكَ لَهُمْ شَوْكَةٌ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ تَكُنْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ جَارِيَةً عَلَيْهِمْ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ، صَالَحَهُمْ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، ثُمَّ اسْتَقَرَّتِ الْأَحْكَامُ،