الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم الْمُخْتَلِعَةَ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ]
فَصْلٌ
وَفِي أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم الْمُخْتَلِعَةَ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ دَلِيلٌ عَلَى حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ بَلْ تَكْفِيهَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ صَرِيحُ السُّنَّةِ فَهُوَ مَذْهَبُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ والربيع بنت معوذ وَعَمِّهَا وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ لَا يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ، كَمَا رَوَاهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ:«أَنَّهُ سَمِعَ الربيع بنت معوذ بن عفراء وَهِيَ تُخْبِرُ عبد الله بن عمر رضي الله عنه أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَجَاءَ عَمُّهَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ ابْنَةَ معوذ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا الْيَوْمَ أَفَتَنْتَقِلُ؟ فَقَالَ عثمان: (لِتَنْتَقِلْ وَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، إِلَّا أَنَّهَا لَا تَنْكِحُ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ بِهَا حَبَلٌ» ) فَقَالَ عبد الله بن عمر: فعثمان خَيْرُنَا وَأَعْلَمُنَا، وَذَهَبَ إِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، اخْتَارَهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية.
قَالَ مَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ: هُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ فَإِنَّ الْعِدَّةَ إِنَّمَا جُعِلَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ لِيَطُولَ زَمَنُ الرَّجْعَةِ، فَيَتَرَوَّى الزَّوْجُ وَيَتَمَكَّنُ مِنَ الرَّجْعَةِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ، فَالْمَقْصُودُ مُجَرَّدُ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا مِنَ الْحَمْلِ وَذَلِكَ يَكْفِي فِيهِ حَيْضَةٌ، كَالِاسْتِبْرَاءِ. قَالُوا: وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا عَلَيْنَا بِالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، فَإِنَّ بَابَ الطَّلَاقِ جَعَلَ حُكْمَ الْعِدَّةِ فِيهِ وَاحِدًا بَائِنَةً وَرَجْعِيَّةً.
قَالُوا: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وعثمان وَابْنِ عُمَرَ والربيع وَعَمِّهَا وَلَا يَصِحُّ عَنْ صَحَابِيٍّ أَنَّهُ طَلَاقٌ
الْبَتَّةَ فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سفيان عَنْ عمرو عَنْ طَاوُوسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم أَنَّهُ قَالَ: (الْخُلْعُ تَفْرِيقٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ) .
وَذَكَرَ عبد الرزاق عَنْ سفيان عَنْ عمرو عَنْ طَاوُوسٍ أَنَّ إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ، ثُمَّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ أَيَنْكِحُهَا؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:(نَعَمْ ذَكَرَ اللَّهُ الطَّلَاقَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَآخِرِهَا وَالْخُلْعَ بَيْنَ ذَلِكَ) .
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا مُخَالِفَ لِمَنْ ذَكَرْتُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جمهان: أَنَّ أم بكرة الأسلمية كَانَتْ تَحْتَ عبد الله بن أسيد وَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ، فَنَدِمَا فَارْتَفَعَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَأَجَازَ ذَلِكَ، وَقَالَ:(هِيَ وَاحِدَةٌ إِلَّا أَنْ تَكُونَ سَمَّتْ شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا سَمَّتْ) .
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ علقمة عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: (لَا تَكُونُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ إِلَّا فِي فِدْيَةٍ أَوْ إِيلَاءٍ) .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
قِيلَ: لَا يَصِحُّ هَذَا عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، أَمَّا أَثَرُ عثمان رضي الله عنه، فَطَعَنَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ والبيهقي وَغَيْرُهُمَا، قَالَ شَيْخُنَا: وَكَيْفَ يَصِحُّ عَنْ عثمان وَهُوَ لَا يَرَى فِيهِ عِدَّةً، وَإِنَّمَا يَرَى الِاسْتِبْرَاءَ فِيهِ بِحَيْضَةٍ؟ فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ طَلَاقًا لَأَوْجَبَ فِيهِ الْعِدَّةَ وَجُمْهَانُ الرَّاوِي لِهَذِهِ الْقِصَّةِ عَنْ عثمان لَا نَعْرِفُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَنَّهُ مَوْلَى الْأَسْلَمِيِّينَ.
وَأَمَّا أَثَرُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ أبو محمد ابن حزم رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقٍ لَا
يَصِحُّ عَنْ علي رضي الله عنه. وَأَمْثَلُهَا: أَثَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى سُوءِ حِفْظِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ثُمَّ غَايَتُهُ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الطَّلْقَةَ فِي الْخُلْعِ تَقَعُ بَائِنَةً لَا أَنَّ الْخُلْعَ يَكُونُ طَلَاقًا بَائِنًا وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَرْقٌ ظَاهِرٌ.
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى رَتَّبَ عَلَى الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ الَّذِي لَمْ يَسْتَوْفِ عَدَدَهُ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ كُلُّهَا مُنْتَفِيَةٌ عَنِ الْخُلْعِ.
أَحَدُهَا: أَنَّ الزَّوْجَ أَحَقُّ بِالرَّجْعَةِ فِيهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْسُوبٌ مِنَ الثَّلَاثِ فَلَا تَحِلُّ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ.
الثَّالِثُ أَنَّ الْعِدَّةَ فِيهِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ.
وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا رَجْعَةَ فِي الْخُلْعِ، وَثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْعِدَّةَ فِيهِ حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، وَثَبَتَ بِالنَّصِّ جَوَازُهُ بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ، وَوُقُوعِ ثَالِثَةٍ بَعْدَهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا فِي كَوْنِهِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229][الْبَقَرَةِ: 229] وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَخْتَصَّ بِالْمُطَلَّقَةِ تَطْلِيقَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُهَا وَغَيْرَهُمَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى مَنْ لَمْ يُذْكَرْ، وَيُخْلَى مِنْهُ الْمَذْكُورُ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِالسَّابِقِ أَوْ يَتَنَاوَلَهُ وَغَيْرَهُ.
ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230] وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ فِدْيَةٍ وَطَلْقَتَيْنِ قَطْعًا لِأَنَّهَا هِيَ الْمَذْكُورَةُ، فَلَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهَا تَحْتَ اللَّفْظِ، وَهَكَذَا فَهِمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ الَّذِي دَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ تَأْوِيلَ الْقُرْآنِ وَهِيَ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ بِلَا شَكٍّ.
وَإِذَا كَانَتْ أَحْكَامُ الْفِدْيَةِ غَيْرَ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَهَذَا مُقْتَضَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ مَنْ نَظَرَ إِلَى حَقَائِقِ الْعُقُودِ وَمَقَاصِدِهَا دُونَ أَلْفَاظِهَا يَعُدُّ الْخُلْعَ فَسْخًا بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ حَتَّى بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ أحمد وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا. قَالَ: وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أحمد وَكَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ مَا أَجَازَهُ الْمَالُ فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ.
قَالَ