الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثَّلَاثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2] [الطَّلَاقِ: 2] يَشْهَدُ بِأَنَّ الْآيَاتِ كُلَّهَا فِي الرَّجْعِيَّاتِ.
[فصل رَدُّ مَطْعَنِ أَنَّ خُرُوجَهَا كَانَ لِفُحْشِ لِسَانِهَا]
فَصْلٌ وَأَمَّا الْمَطْعَنُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ خُرُوجَهَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِفُحْشٍ مِنْ لِسَانِهَا، فَمَا أَبْرَدَهُ مِنْ تَأْوِيلٍ وَأَسْمَجَهُ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَفُضَلَائِهِمْ، وَمِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ، وَمِمَّنْ لَا يَحْمِلُهَا رِقَّةُ الدِّينِ وَقِلَّةُ التَّقْوَى عَلَى فُحْشٍ يُوجِبُ إِخْرَاجَهَا مِنْ دَارِهَا، وَأَنْ يَمْنَعَ حَقَّهَا الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهَا وَنَهَى عَنْ إِضَاعَتِهِ، فَيَا عَجَبًا! كَيْفَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْفُحْشَ؟ وَيَقُولُ لَهَا: اتَّقِي اللَّهَ وَكُفِّي لِسَانَكِ عَنْ أَذَى أَهْلِ زَوْجِكِ وَاسْتَقِرِّي فِي مَسْكَنِكِ؟ وَكَيْفَ يَعْدِلُ عَنْ هَذَا إِلَى قَوْلِهِ ( «لَا نَفَقَةَ لَكِ وَلَا سُكْنَى» ) إِلَى قَوْلِهِ ( «إِنَّمَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ لِلْمَرْأَةِ إِذَا كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا رَجْعَةٌ» ) فَيَا عَجَبًا! كَيْفَ يُتْرَكُ هَذَا الْمَانِعُ الصَّرِيحُ الَّذِي خَرَجَ مِنْ بَيْنِ شَفَتَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيُعَلَّلُ بِأَمْرِ مَوْهُومٍ لَمْ يُعَلِّلْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلْبَتَّةَ، وَلَا أَشَارَ إِلَيْهِ وَلَا نَبَّهَ عَلَيْهِ؟ هَذَا مِنَ الْمُحَالِ الْبَيِّنِ. ثُمَّ لَوْ كَانَتْ فَاحِشَةَ اللِّسَانِ وَقَدْ أَعَاذَهَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ لَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَسَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ: كُفِّي لِسَانَكِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُكِ، وَكَانَ مَنْ دُونَهَا يَسْمَعُ وَيُطِيعُ لِئَلَّا تَخْرُجَ مِنْ سَكَنِهِ.
[فصل رَدُّ مَطْعَنِ مُعَارَضَةِ رِوَايَتِهَا بِرِوَايَةِ عُمَرَ]
فَصْلٌ وَأَمَّا الْمَطْعَنُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مُعَارَضَةُ رِوَايَتِهَا بِرِوَايَةِ عُمَرَ رضي الله عنه فَهَذِهِ الْمُعَارَضَةُ تُورَدُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا، وَأَنَّ هَذَا مِنْ حُكْمِ الْمَرْفُوعِ. الثَّانِي: قَوْلُهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ» ) .
وَنَحْنُ نَقُولُ: قَدْ أَعَاذَ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ الْبَاطِلِ الَّذِي لَا يَصِحُّ عَنْهُ أَبَدًا. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْ عمر. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ:
بَلِ السُّنَّةُ بِيَدِ فاطمة بنت قيس قَطْعًا، وَمَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْهَدُ شَهَادَةَ اللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ عمر رضي الله عنه سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةَ، وعمر كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ وَأَحْرَصَ عَلَى تَبْلِيغِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَكُونَ هَذِهِ السُّنَّةُ عِنْدَهُ ثُمَّ لَا يَرْوِيهَا أَصْلًا وَلَا يُبَيِّنُهَا وَلَا يُبَلِّغُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا حَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبراهيم عَنْ عمر رضي الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ( «لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ» ) فَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاللَّهِ شَهَادَةً نُسْأَلُ عَنْهَا إِذَا لَقِينَاهُ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ عَلَى عمر رضي الله عنه وَكَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْمِلَ الْإِنْسَانَ فَرْطُ الِانْتِصَارِ لِلْمَذَاهِبِ وَالتَّعَصُّبِ لَهَا عَلَى مُعَارَضَةِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ بِالْكَذِبِ الْبَحْتِ، فَلَوْ يَكُونُ هَذَا عِنْدَ عمر رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَخَرِسَتْ فاطمة وَذَوُوهَا وَلَمْ يَنْبِسُوا بِكَلِمَةٍ، وَلَا دَعَتْ فاطمة إِلَى الْمُنَاظَرَةِ، وَلَا احْتِيجَ إِلَى ذِكْرِ إِخْرَاجِهَا لِبَذَاءِ لِسَانِهَا، وَلَمَا فَاتَ هَذَا الْحَدِيثُ أَئِمَّةَ الْحَدِيثِ وَالْمُصَنِّفِينَ فِي السُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ الْمُنْتَصِرِينَ لِلسُّنَنِ فَقَطْ لَا لِمَذْهَبٍ وَلَا لِرَجُلٍ، هَذَا قَبْلَ أَنْ نَصِلَ بِهِ إِلَى إبراهيم، وَلَوْ قُدِّرَ وُصُولُنَا بِالْحَدِيثِ إِلَى إبراهيم لَانْقَطَعُ نُخَاعُهُ؛ فَإِنَّ إبراهيم لَمْ يُولَدْ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ عمر رضي الله عنه بِسِنِينَ، فَإِنْ كَانَ مُخْبِرٌ أَخْبَرَ بِهِ إبراهيم عَنْ عمر رضي الله عنه وَحَسَّنَا بِهِ الظَّنَّ، كَانَ قَدْ رَوَى لَهُ قَوْلَ عمر رضي الله عنه بِالْمَعْنَى، وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي حَكَمَ بِثُبُوتِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لِلْمُطَلَّقَةِ، حَتَّى قَالَ عمر رضي الله عنه لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ صَالِحًا وَيَكُونُ مُغَفَّلًا لَيْسَ تَحَمُّلُ الْحَدِيثِ وَحِفْظُهُ وَرِوَايَتُهُ مِنْ شَأْنِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَقَدْ تَنَاظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فَذَكَرَ لَهُ ميمون خَبَرَ فاطمة فَقَالَ سعيد: (تِلْكَ امْرَأَةٌ فَتَنَتِ النَّاسَ، فَقَالَ لَهُ ميمون: لَئِنْ كَانَتْ إِنَّمَا أَخَذَتْ بِمَا أَفْتَاهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا فَتَنَتِ النَّاسَ، وَإِنَّ لَنَا فِي
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُسْوَةً حَسَنَةً، مَعَ أَنَّهَا أَحْرَمُ النَّاسِ عَلَيْهِ، لَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ رَجْعَةٌ وَلَا بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ) . انْتَهَى. وَلَا يُعْلَمُ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ رحمهم الله إِلَّا وَقَدِ احْتَجَّ بِحَدِيثِ فاطمة بنت قيس هَذَا، وَأَخَذَ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ كمالك وَالشَّافِعِيِّ. وَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ يَحْتَجُّونَ بِهِ فِي سُقُوطِ نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ إِذَا كَانَتْ حَائِلًا، وَالشَّافِعِيُّ نَفْسُهُ احْتَجَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ جَمْعِ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ فَطَلَّقَنِي ثَلَاثًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إِنَّمَا طَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثٍ كَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ عَنْ نَفْسِهَا. وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ يَرَى جَوَازَ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الرِّجَالِ، وَاحْتَجَّ بِهِ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ عَلَى جَوَازِ خِطْبَةِ الرَّجُلِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمَرْأَةُ قَدْ سَكَنَتْ إِلَى الْخَاطِبِ الْأَوَّلِ، وَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى جَوَازِ بَيَانِ مَا فِي الرَّجُلِ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ لِمَنِ اسْتَشَارَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ أَوْ يُعَامِلَهُ أَوْ يُسَافِرَ مَعَهُ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِغِيبَةٍ، وَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْقُرَشِيَّةِ مِنْ غَيْرِ الْقُرَشِيِّ، وَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي حَالِ غَيْبَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَنِ الْآخَرِ وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ حُضُورُهُ وَمُوَاجَهَتُهُ بِهِ، وَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى جَوَازِ التَّعْرِيضِ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ الْبَائِنِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ كُلُّهَا حَاصِلَةً بِبَرَكَةِ رِوَايَتِهَا وَصِدْقِ حَدِيثِهَا فَاسْتَنْبَطَتْهَا الْأُمَّةُ مِنْهَا وَعَمِلَتْ بِهَا، فَمَا بَالُ رِوَايَتِهَا تُرَدُّ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ مِنْ أَحْكَامِ هَذَا الْحَدِيثِ وَتُقْبَلُ فِيمَا عَدَاهُ؟! فَإِنْ كَانَتْ حَفِظَتْهُ قُبِلَتْ فِي جَمِيعِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَفِظَتْهُ وَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ قِيلَ: بَقِيَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6][الطَّلَاقِ: 6] إِنَّمَا هُوَ فِي الْبَوَائِنِ لَا فِي الرَّجْعِيَّاتِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَقِيبَهُ: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6][الطَّلَاقِ: 6] فَهَذَا فِي الْبَائِنِ؛ إِذْ لَوْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً لَمَا قَيَّدَ النَّفَقَةَ عَلَيْهَا بِالْحَمْلِ وَلَكَانَ عَدِيمَ التَّأْثِيرِ، فَإِنَّهَا تَسْتَحِقُّهَا حَائِلًا كَانَتْ أَوْ حَامِلًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي (أَسْكِنُوهُنَّ) هُوَ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] وَاحِدٌ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَوْرِدَ هَذَا السُّؤَالِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُوجِبِينَ النَّفَقَةَ
وَالسُّكْنَى، أَوْ مِمَّنْ يُوجِبُ السُّكْنَى دُونَ النَّفَقَةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَالْآيَةُ عَلَى زَعْمِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ شَرَطَ فِي إِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ كَوْنَهُنَّ حَوَامِلَ، وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَائِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَائِنَ الْحَائِلَ لَا نَفَقَةَ لَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَفْهُومِ وَلَا يَقُولُ بِهَا.
قِيلَ: لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ، بَلْ مِنِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ شَرْطِهِ، فَلَوْ بَقِيَ الْحُكْمُ بَعْدَ انْتِفَائِهِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا، وَإِنْ كَانَ مِمَنْ يُوجِبُ السُّكْنَى وَحْدَهَا فَيُقَالُ لَهُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ ضَمِيرٌ وَاحِدٌ يَخُصُّ الْبَائِنَ، بَلْ ضَمَائِرُهَا نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَخُصُّ الرَّجْعِيَّةَ قَطْعًا، كَقَوْلِهِ {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] [الطَّلَاقِ: 2] وَنَوْعٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْبَائِنِ وَأَنْ يَكُونَ لِلرَّجْعِيَّةِ وَأَنْ يَكُونَ لَهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] وَقَوْلُهُ {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6][الطَّلَاقِ: 6] فَحَمْلُهُ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ لِتَتَّحِدَ الضَّمَائِرُ وَمُفَسِّرُهَا، فَلَوْ حُمِلَ عَلَى غَيْرِهَا لَزِمَ اخْتِلَافُ الضَّمَائِرِ وَمُفَسِّرِهَا وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَصْلِ أَوْلَى.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ نَفَقَةِ الرَّجْعِيَّةِ بِكَوْنِهَا حَامِلًا؟
قِيلَ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لِلرَّجْعِيَّةِ الْحَائِلِ، بَلِ الرَّجْعِيَّةُ نَوْعَانِ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهُمَا فِي كِتَابِهِ: حَائِلٌ: فَلَهَا النَّفَقَةُ بِعَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ إِذْ حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَزْوَاجِ، أَوْ حَامِلٌ: فَلَهَا النَّفَقَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَى أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، فَتَصِيرُ النَّفَقَةُ بَعْدَ الْوَضْعِ نَفَقَةَ قَرِيبٍ لَا نَفَقَةَ زَوْجٍ، فَيُخَالِفُ حَالُهَا قَبْلَ الْوَضْعِ حَالَهَا بَعْدَهُ، فَإِنَّ الزَّوْجَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا وَحْدَهُ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا، فَإِذَا وَضَعَتْ صَارَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الطِّفْلِ، وَلَا يَكُونُ حَالُهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا كَذَلِكَ، بِحَيْثُ تَجِبُ نَفَقَتُهَا عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الطِّفْلِ، فَإِنَّهُ فِي حَالِ حَمْلِهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا، فَإِذَا انْفَصَلَ كَانَ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ، وَانْتَقَلَتِ النَّفَقَةُ مِنْ حُكْمٍ إِلَى حُكْمٍ، فَظَهَرَتْ فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ وَسِرُّ الِاشْتِرَاطِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ مِنْ كَلَامِهِ.