الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِحَالِهَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي تَقَدَّمَ، قَالَ الصلت بن دينار: سَأَلْتُ عَشْرَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمُظَاهِرِ يُجَامِعُ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، فَقَالُوا: كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ: وَهُمُ الحسن، وَابْنُ سِيرِينَ، ومسروق، وبكر، وقتادة، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وعكرمة. قَالَ: وَالْعَاشِرُ أُرَاهُ نَافِعًا، وَهَذَا قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ، وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الحسن، وإبراهيم، فِي الَّذِي يُظَاهِرُ ثُمَّ يَطَؤُهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ: عَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ، وَذَكَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وأبي يوسف أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَسْقُطُ، وَوَجْهُ هَذَا أَنَّهُ فَاتَ وَقْتُهَا، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى إِخْرَاجِهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ. وَجَوَابُ هَذَا أَنَّ فَوَاتَ وَقْتِ الْأَدَاءِ لَا يُسْقِطُ الْوَاجِبَ فِي الذِّمَّةِ، كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَوَجْهُ وُجُوبِ الْكَفَّارَتَيْنِ، أَنَّ إِحْدَاهُمَا لِلظِّهَارِ الَّذِي اقْتَرَنَ بِهِ الْعَوْدُ، وَالثَّانِيَةَ لِلْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ كَالْوَطْءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَكَوَطْءِ الْمُحْرِمِ، وَلَا يُعْلَمُ لِإِيجَابِ الثَّلَاثِ وَجْهٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً عَلَى إِقْدَامِهِ عَلَى الْحَرَامِ، وَحُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْإِيلَاءِ]
ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ": عَنْ أنس قَالَ: ( «آلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ وَكَانَتِ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَلَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ آلَيْتَ شَهْرًا فَقَالَ: " إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ» ) وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226][الْبَقَرَةِ: 226]
{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] الْإِيلَاءُ لُغَةً: الِامْتِنَاعُ بِالْيَمِينِ، وَخُصَّ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ بِالِامْتِنَاعِ بِالْيَمِينِ مِنْ وَطْءِ الزَّوْجَةِ، وَلِهَذَا عُدِّيَ فِعْلُهُ بِأَدَاةِ " مِنْ " تَضْمِينًا لَهُ مَعْنَى " يَمْتَنِعُونَ " مِنْ نِسَائِهِمْ، وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ إِقَامَةِ " مِنْ " مَقَامَ " عَلَى "، وَجَعَلَ سُبْحَانَهُ لِلْأَزْوَاجِ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يَمْتَنِعُونَ فِيهَا مِنْ وَطْءِ نِسَائِهِمْ بِالْإِيلَاءِ، فَإِذَا مَضَتْ، فَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ، وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ، وَقَدِ اشْتَهَرَ عَنْ علي وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْإِيلَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي حَالِ الْغَضَبِ دُونَ الرِّضَى، كَمَا وَقَعَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ نِسَائِهِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ مَعَ الْجُمْهُورِ.
وَقَدْ تَنَاظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَرَجُلٌ آخَرُ، فَاحْتَجَّ عَلَى محمد بِقَوْلِ علي، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ محمد بِالْآيَةِ، فَسَكَتَ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَحْكَامٍ.
مِنْهَا: هَذَا. وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُؤْلِيًا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَفِيهِ قَوْلٌ شَاذٌّ أَنَّهُ مُؤْلٍ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ حَتَّى يَحْلِفَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الِامْتِنَاعِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُمْ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَبَعْدَ انْقِضَائِهَا إِمَّا أَنْ يُطَلِّقُوا، وَإِمَّا أَنْ يَفِيئُوا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، مِنْهُمْ أحمد، وَالشَّافِعِيُّ، ومالك، وَجَعَلَهُ أبو حنيفة مُؤْلِيًا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ سَوَاءٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمُدَّةَ الْمَضْرُوبَةَ أَجَلٌ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِانْقِضَائِهَا، وَالْجُمْهُورُ يَجْعَلُونَ الْمُدَّةَ أَجَلًا لِاسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ، وَهَذَا مَوْضِعٌ اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حَدَّثَنَا سفيان عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: ( «أَدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ
رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ كُلُّهُمْ يُوقِفُ الْمُؤْلِي» ) يَعْنِي: بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
وَرَوَى سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:(سَأَلْتُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُؤْلِي، فَقَالُوا: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ) وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. (وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَمْ يَفِئْ فِيهَا، طَلَقَتْ مِنْهُ بِمُضِيِّهَا) وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَقَوْلُ أَبِي حنيفة وَأَصْحَابِهِ، فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ قَبْلَ مُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، فَإِنْ فَاءَ وَإِلَّا طَلَقَتْ بِمُضِيِّهَا. وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ حَتَّى تَمْضِيَ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ، فَحِينَئِذٍ يُقَالُ: إِمَّا أَنْ تَفِيءَ، وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَ، وَإِنْ لَمْ يَفِئْ أُخِذَ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ، إِمَّا بِالْحَاكِمِ، وَإِمَّا بِحَبْسِهِ حَتَّى يُطَلِّقَ.
قَالَ الْمُوقِعُونَ لِلطَّلَاقِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ: آيَةُ الْإِيلَاءِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ " فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " فَإِضَافَةُ الْفَيْئَةِ إِلَى الْمُدَّةِ تَدُلُّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْفَيْئَةِ فِيهَا، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ إِمَّا أَنْ تُجْرَى مَجْرَى الْخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَتُوجِبُ الْعَمَلَ، وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ كَوْنَهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قُرْآنًا نُسِخَ لَفْظُهُ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ، لَا يَجُوزُ فِيهَا غَيْرُ هَذَا الْبَتَّةَ.
الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَلَوْ كَانَتِ الْفَيْئَةُ بَعْدَهَا لَزَادَتْ عَلَى مُدَّةِ النَّصِّ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ لَوَقَعَتِ الْفَيْئَةُ مَوْقِعَهَا، فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْفَيْئَةِ فِيهَا. قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى جَعَلَ لَهُمْ تَرَبُّصَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ - وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} [البقرة: 226 - 227] وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي لَهُمْ فِيهَا تَرَبُّصٌ، كَمَا إِذَا قَالَ لِغَرِيمِهِ: أَصْبِرُ عَلَيْكَ بِدَيْنِي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ وَفَّيْتَنِي وَإِلَّا حَبَسْتُكَ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا إِلَّا إِنْ وَفَّيْتَنِي فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِنْ وَفَّيْتَنِي بَعْدَهَا، وَإِلَّا كَانَتْ مُدَّةُ الصَّبْرِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ صَرِيحَةٌ فِي تَفْسِيرِ الْفَيْئَةِ بِأَنَّهَا فِي الْمُدَّةِ، وَأَقَلُّ مَرَاتِبِهَا أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرًا.
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ أَجَلٌ مَضْرُوبٌ لِلْفُرْقَةِ، فَتَعْقُبُهُ الْفُرْقَةُ، كَالْعِدَّةِ وَكَالْأَجَلِ الَّذِي ضُرِبَ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، كَقَوْلِهِ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ.
قَالَ الْجُمْهُورُ: لَنَا مِنْ آيَةِ الْإِيلَاءِ عَشَرَةُ أَدِلَّةٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَضَافَ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ إِلَى الْأَزْوَاجِ، وَجَعَلَهَا لَهُمْ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ، فَوَجَبَ أَلَّا يَسْتَحِقَّ الْمُطَالَبَةَ فِيهَا، بَلْ بَعْدَهَا، كَأَجَلِ الدَّيْنِ، وَمَنْ أَوْجَبَ الْمُطَالَبَةَ فِيهَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَجَلًا لَهُمْ، وَلَا يُعْقَلُ كَوْنُهَا أَجَلًا لَهُمْ، وَيُسْتَحَقُّ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْمُطَالَبَةُ.
الدَّلِيلُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] فَذَكَرَ الْفَيْئَةَ بَعْدَ الْمُدَّةِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمُدَّةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229][الْبَقَرَةِ: 229] . وَهَذَا بَعْدَ الطَّلَاقِ قَطْعًا. فَإِنْ قِيلَ: فَاءُ التَّعْقِيبِ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْإِيلَاءِ لَا بَعْدَ الْمُدَّةِ؟ قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْإِيلَاءِ، ثُمَّ تَلَاهُ ذِكْرُ الْمُدَّةِ، ثُمَّ أَعْقَبَهَا بِذِكْرِ الْفَيْئَةِ، فَإِذَا أَوْجَبَتِ الْفَاءُ التَّعْقِيبَ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَبْعَدِ الْمَذْكُورِينَ، وَوَجَبَ عَوْدُهَا إِلَيْهِمَا، أَوْ إِلَى أَقْرَبِهِمَا.
الدّلِيلُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} [البقرة: 227][الْبَقَرَةِ: 227] وَإِنَّمَا الْعَزْمُ مَا عَزَمَ الْعَازِمُ عَلَى فِعْلِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235][الْبَقَرَةِ: 235] فَإِنْ قِيلَ: فَتَرْكُ الْفَيْئَةِ عَزْمٌ عَلَى الطَّلَاقِ؟ قِيلَ: الْعَزْمُ هُوَ إِرَادَةٌ جَازِمَةٌ لِفِعْلِ الْمَعْزُومِ عَلَيْهِ أَوْ تَرْكِهِ، وَأَنْتُمْ تُوقِعُونَ الطَّلَاقَ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ عَزْمٌ لَا عَلَى وَطْءٍ، وَلَا عَلَى تَرْكِهِ، بَلْ لَوْ عَزَمَ عَلَى الْفَيْئَةِ وَلَمْ يُجَامِعْ طَلَّقْتُمْ عَلَيْهِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَلَمْ يَعْزِمِ الطَّلَاقَ، فَكَيْفَمَا قَدَّرْتُمْ فَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ.
الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَيَّرَهُ فِي الْآيَةِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْكَفَّارَاتِ، وَلَوْ كَانَ فِي حَالَتَيْنِ، لَكَانَ تَرْتِيبًا لَا تَخْيِيرًا، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْفَيْئَةُ عِنْدَكُمْ فِي نَفْسِ الْمُدَّةِ، وَعَزْمُ الطَّلَاقِ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَلَمْ يَقَعِ التَّخْيِيرُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَفِيءَ فِي الْمُدَّةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ الْفَيْئَةَ، فَيَكُونَ عَازِمًا لِلطَّلَاقِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ. قِيلَ: تَرْكُ الْفَيْئَةِ لَا يَكُونُ عَزْمًا لِلطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عَزْمًا عِنْدَكُمْ إِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ، فَلَا يَتَأَتَّى التَّخْيِيرُ بَيْنَ عَزْمِ الطَّلَاقِ، وَبَيْنَ الْفَيْئَةِ الْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَكُمْ فَلَا يُمْكِنُهُ الْفَيْئَةُ، وَفِي الْمُدَّةِ يُمْكِنُهُ الْفَيْئَةُ، وَلَمْ يَحْضُرْ وَقْتَ عَزْمِ الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ مُضِيُّ الْمُدَّةِ، وَحِينَئِذٍ فَهَذَا دَلِيلٌ خَامِسٌ مُسْتَقِلٌّ.
الدَّلِيلُ السَّادِسُ: أَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُمَا إِلَيْهِ لِيَصِحَّ مِنْهُ اخْتِيَارُ فِعْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَتَرْكِهِ، وَإِلَّا لَبَطَلَ حُكْمُ خِيَارِهِ، وَمُضِيُّ الْمُدَّةِ لَيْسَ إِلَيْهِ.
الدَّلِيلُ السَّابِعُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ قَوْلًا يُسْمَعُ، لِيَحْسُنَ خَتْمُ الْآيَةِ بِصِفَةِ السَّمْعِ.
الدَّلِيلُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِغَرِيمِهِ: لَكَ أَجَلُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ وَفَّيْتَنِي قَبِلْتُ
مِنْكَ، وَإِنْ لَمْ تُوَفِّنِي حَبَسْتُكَ، كَانَ مُقْتَضَاهُ أَنَّ الْوَفَاءَ وَالْحَبْسَ بَعْدَ الْمُدَّةِ لَا فِيهَا: وَلَا يَعْقِلُ الْمُخَاطَبُ غَيْرَ هَذَا. فَإِنْ قِيلَ: مَا نَحْنُ فِيهِ نَظِيرُ قَوْلِهِ لَكَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ فَسَخْتَ الْبَيْعَ، وَإِلَّا لَزِمَكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَسْخَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي الثَّلَاثِ لَا بَعْدَهَا؟ قِيلَ هَذَا مِنْ أَقْوَى حُجَجِنَا عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ اللُّزُومُ، فَجُعِلَ لَهُ الْخِيَارُ فِي مُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِذَا انْقَضَتْ وَلَمْ يَفْسَخْ، عَادَ الْعَقْدُ إِلَى حُكْمِهِ، وَهُوَ اللُّزُومُ، وَهَكَذَا الزَّوْجَةُ لَهَا حَقٌّ عَلَى الزَّوْجِ فِي الْوَطْءِ، كَمَا لَهُ حَقٌّ عَلَيْهَا، قَالَ تَعَالَى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228][الْبَقَرَةِ: 228] فَجَعَلَ لَهُ الشَّارِعُ امْتِنَاعَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا حَقَّ لَهَا فِيهِنَّ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ عَادَتْ عَلَى حَقِّهَا بِمُوجَبِ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ لَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَحِينَئِذٍ فَهَذَا دَلِيلٌ تَاسِعٌ مُسْتَقِلٌّ.
الدَّلِيلُ الْعَاشِرُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لِلْمُؤْلِينَ شَيْئًا، وَعَلَيْهِمْ شَيْئَيْنِ، فَالَّذِي لَهُمْ تَرَبُّصُ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالَّذِي عَلَيْهِمْ إِمَّا الْفَيْئَةُ، وَإِمَّا الطَّلَاقُ، وَعِنْدَكُمْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إِلَّا الْفَيْئَةُ فَقَطْ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ، بَلْ وَلَا إِلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَيُحْكَمُ بِطَلَاقِهَا عُقَيْبَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، شَاءَ أَوْ أَبَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ إِلَى الْمُؤْلِي وَلَا عَلَيْهِ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ النَّصِّ.
قَالُوا: وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ بِاللَّهِ تَعَالَى تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، فَلَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ قَدَّرَهَا الشَّرْعُ لَمْ تَتَقَدَّمْهَا الْفُرْقَةُ، فَلَا يَقَعُ بِهَا بَيْنُونَةٌ كَأَجَلِ الْعِنِّينِ، وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ الْمُعَجَّلُ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ الْمُؤَجَّلُ كَالظِّهَارِ، وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنُسِخَ كَالظِّهَارِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لِلْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ، وَلِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَتِ الْفِرَقُ الْجَاهِلِيَّةُ تَحْلِفُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بِالطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ، فَنَقَلَ اللَّهُ سبحانه وتعالى الْإِيلَاءَ وَالظِّهَارَ عَمَّا كَانَا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إِيقَاعِ الْفُرْقَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ إِلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُهُمَا فِي الشَّرْعِ،